الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس التاسع والثلاثين من دروسِ مدارج السالكين، في منازِلِ إيّاكَ نعبدُ وإيّاكّ نستعين.
منزِلةُ اليوم هيَ منزِلةُ الصفاء، ومن مِنّا لا يُحبُّ الصفاء؟ الصفاء بمعنى النقاء، شيء صافٍ أي نقي من كُلِّ شائبة، فهُناكَ صفاءٌ في العِلم، وهُناكَ صفاءٌ في الحال، وهُناكَ صفاءٌ في الهِمّة، والصفاءُ هوَ النقاء.
المعاني الدقيقة لكلمة الصفاء، وردت هذه الكلمة أو ما يُقابِلُها في قولِهِ تعالى:
﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)﴾
هؤلاءِ الأنبياء مُصطَفون، والمُصطفى مُفتعل على وزن مُفتعل من الصفوة، والصفوة من الشيء خُلاصَتُهُ، الزُّبدةُ صفوةُ الحليب، صفوةُ الكلامِ مختَصَرُهُ، صفوة الشيء خلاصته، وتصفيتهُ مما يشوبُهُ، شيء مُصفّى أي مما يشوبُهُ، واصطفى الشيء لنفسِهِ جعلهُ خالِصاً لهُ من تعلّقِ الشُّركاء، اصطفيتُ هذه الدُّكانَ لنفسي ليسَ معي فيها شريك، اصطفيتُ هذا البيت لنفسي، اصطفيت هذه الزوجة ليسَ معها زوجة أُخرى، الاصطفاء أن تستقِلّ بالشيء، والاصطفاء أن تُصفّي الشيء مما يشوبُهُ من الأكدار، والاصطفاء من التصفية، وصفوةُ الشيء خُلاصتُهُ.
الحقيقة ما دام الموضوع مُتعلّقاً بالإيمان، فالصفاء لهُ علاقةٌ بالعِلم، ولهُ علاقةٌ بالهِمّةِ والعزيمة، ولهُ علاقةٌ بالحال، فنحنُ في هذا الدرس نَقِفُ وقفاتٍ متأنيةً عِندَ العِلمِ والعزيمةِ والحال.
فُلان عِلمُهُ صافٍ؛ أي كُلُّ عِلمِهِ حقائق، وكُلُّ عِلمِهِ عليهِ أدلّةٌ قطعيّة، عِلمُهُ صحيح، عِلمُهُ يقيني، عِلمُهُ مُدعّمٌ بالكتابِ والسُّنّة، عِلمُهُ لا شائبةَ فيه، لا خلط، لا شك، لا ريب، لا ظن، لا وهم، لا خُرافة، عِلمُهُ صافٍ أي صحيح ونقيّ من كُلِّ شائبة، والعِلمُ الصافي هوَ العِلمُ الذي جاءَ بهِ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلّم.
أيها الإخوة الأكارم؛ كُلُّنا يحتاج إلى عمليّة جرد، أنتَ لكَ عُمُرٌ، أمضيتَ وقتاً طويلاً، مرةً في المساجد، وفي المدارس، ومع أصدقاء، وفي نَدَوات، وفي سَهَرات، وقرأتَ كُتباً ومجلات، فتجمّعَ في وِعائِكَ العقليّ رُكام من المعلومات، بعضُ هذه المعلومات حقائق، بعضُ هذه المعلومات شُبُهات، بعضُ هذه المعلومات خُدع وأباطيل، بعضُ هذه المعلومات باطِلة، فعملية جرد، نحنُ الآن بحاجة إلى عملية جرد، قد يكون تسرّبَ إلى عقولِنا من دون أن ندري خرافات، أوهام، ظنون بالله، لا تليقُ بِذاتِهِ الكريمة، ولا بِحضرَتِهِ المُقدّسة، فالإنسان عليهِ أن يملِكَ العِلمَ الصافي، العِلمَ النقيّ من كُلِّ شائبة، العِلمَ المبني على أدلّةٍ عقليّةٍ ونقليّةٍ وواقعيةٍ وفِطريّة، العِلمَ الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن ينقُضَهُ لك، هل معلوماتُك؟ هل قناعاتُك؟ هل أفكارُكَ؟ هل تصوراتُكَ من هذا النوع؟ هل عِلمُكَ صاف؟ فالإمام الجُنيد رَحِمهُ الله تعالى كانَ يقول: عِلمُنا مُقيّدٌ بالكتابِ والسُّنّة.
الكتاب كلام الخالق، السُّنّة بيانُ رسولِ الله، اللهُ جلَّ وعلا أَمَرَ النبي، وقد عَصَمَهُ، وأراهُ ملكوتَ السماواتِ والأرض، وبيّن لهُ كُلَّ شيء، أمَرَهُ أن يُفصّل، أي نحن كبشر أو كمسلمين أو كمؤمنين ليسَ عِندنا مصدر للحقيقة الصحيحة الصِّرفة اليقينيّة القطعيّة إلا مصدران، الكتابُ والسُّنّة، يمكن أن يكونَ الكِتابُ والسُّنّة مقياسين، فأيّةُ قِصّةٍ، أيّةُ كلمةٍ، أيّةُ مقالةٍ تقرؤها، أيّةُ نظريّةٌ تسمعُها، أيُّ تصورٍ تطّلِعُ عليه، إن لم يكن موافِقاً للكتابِ والسُّنّة فهوَ باطل، أي تقريباً مثل إنسان أمام قِطع من القِماش، عليها لُصاقات وأطوال، أنتَ معك مِتر صحيح، مِتر مضبوط، فأيّةُ قِطعةِ قِماش، وعليها لُصاقة، فيها طولُها، أنتَ بعمليّةٍ بسيطة تقيسُ هذه القِطعة بالمِتر الذي تملِكُهُ، وتعرف ما إذا كانت هذه اللصاقة صحيحة أم كاذِبة.
يا أيها الإخوة الأكارم؛ شاءت حِكمةُ اللهِ عزّ وجل أن نأتي في عصرٍ فيهِ من الضّلالات، ومن الخرافات، ومن الأباطيل، ومن الدجل، ومن الكذب، ومن النظريات الباطِلة والفاسِدة والهدّامة، البرّاقة المُزخرَفة التي تلوحُ لبعض الجُهّال بأنها هيَ الحق، نحنُ في عصرِ الضلالات ولا يُنجينا إلا إذا تمسكنا بالكتابِ والسُّنّة، والنبيُ عليهِ الصلاة والسلام في حجة الوداع، وقبلَ أن يُغادِرَ الدُّنيا، وقد رَسَمَ في حجة الوداع منهجَ عملٍ للبشريةِ من بعدِهِ،
(( عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِي اللَّهم عَنْه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ، وهو كِتَابُ اللَّهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا؟ ))
كلامٌ دقيق، كلامٌ قطعيّ، أيُّ شيء تقرؤهُ، أيُّ خُطبةٍ تسمعُها، أيُّ قِصةٍ تَصِلُ إلى سمعِك، أيُّ فرحٍ تطّلِعُ عليه، أيُّ تعليقٍ تُشاهِدُهُ، أيُّ تحليلٍ تقفُ عليه، أيُّ شيء، عِندَكَ مقياس الكتاب والسُّنّة.
الكتاب والسنة مقياس كل إنسان:
أخي هذا قرأتُ مقالةً عن دواءٍ يُطيل العُمر، خير إن شاء الله:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)﴾
انتهى الأمر، المقالة باطِلة، انتهى، معك مقياس أنت، أخي فلان شاهدَ الجِنّ، قال تعالى:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)﴾
فلان محظوظ، قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾
التيسير لهُ قانون والتعسير لهُ قانون، يا أخي العالم كُلهُ ظُلم! ما هذا الكلام؟
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)﴾
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)﴾
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
هذا كُلُّه كلام فارغ، أيّةُ قِصةٍ، أيُّ تحليلٍ، يؤكّدُ لكَ أنَّ هُناكَ ظُلماً عظيماً، لا، هذا ظُلمٌ ظاهريّ، لأنَّ الظالِمَ سَوطُ الله ينتقِمُ بهِ ثمَّ ينتقمُ مِنه.
القرآن حبلُ اللهِ المتين:
أقول لكم كلاماً دقيقاً: أنتَ إذا قرأتَ القُرآن، وتدبّرتَ آياتِهِ، ووقفتَ على مدلولاتِهِ، وتعمقّتَ في مضامينِهِ، واستوعبتَهُ، هذا القرآن مقياس لكَ، نورٌ يهدي لكَ السبيل، حبلُ اللهِ المتين، برهانٌ من اللهِ عزّ وجل، فإذا آمنتَ باللهِ عزّ وجل إيماناً قطعيّاً، وآمنتَ بأنَّ هذا الكلام كلامهُ بالدليل القطعيّ، هذا الكلام يُخبِرُكَ أنَّ اللهَ عزّ وجل لا يظلِمُ أحداً، إذاً الآن نحنُ نبحثُ عن ماذا؟ عن عِلمٍ صافٍ، ادخل إلى مكتبة، تجدُ فيها مئات ألوف الكُتب، هناك حقائق، وهناك أكاذيب، وهناك ضلالات، وهناك تُرّهات، وهناك نظريات لم تثبُت بعد، وهناك خرافات، وهناك باطل مُغلّف بالحق، وهناك حق مُغلّف بالباطل، أنـتَ بحاجة إلى مقياس.
مثلاً؛ من باب الأمثلة، دخلتَ إلى غُرفةٍ، وفي هذه الغُرفة قِطع من الذهب كثيرة، قيل لكَ: بعضُ هذه القِطع عيار أربعة وعشرين، بعضُ هذه القِطع عيار واحد وعشرين، بعضُ هذه القِطع ثمانية عشر، بعضُ هذه القِطع ستة عشر، بعضُها أحد عشر، بعضُها نحاسٌ مُغلّفٌ بالذهب، بعضُها نحاسٌ مُلمّع، بعضُها معدن رخيص، خذ مِنها مئة قطعة، أنتَ الآن بحاجة ماسّة إلى مقياس يكشِفُ لكَ القِطعَ ذات النِّسب العالية، فإذا حصلتَ على هذا المقياس أخذتَ مئة قِطعةٍ من العيار العالي، الغالي، فأنتَ من الفائزين، إذاً نحن الآن بحاجة إلى مقياس نقيس بِهِ كُلّ علومِنا، كُلَّ تصوراتِنا، كُلَّ فهمِنا، كُلَّ عقائدِنا، كُلَّ رواسِبِنا الفِكرية، نقيسُ بهِ ونَدَعُ كُلَّ ما ليسَ صحيحاً ونستبقي العِلمَ الصافي، درسنا الصفاء، العِلمُ الذي لا شائِبةَ فيه، أحياناً الحديد يكون غير صافٍ، فيهِ شوائب فحميّة، هذا الحديد لا قيمةَ لهُ، يحتاج إلى مضاعفة كميّات، لأن كُل قطعة حديد فيها شوائب فحمية هذه مُعرّضة للكسر.
الجُنيد يقول: عِلمُنا هذا مُقيّدٌ بالكِتابِ والسُّنّة، فمن لم يحفظ القُرآن، ومن لم يكتب الحديث، ومن لم يتفقّه لا يُقتدى به.
وكانَ يقول: علمُنا هذا مُتَشَبِكٌ بحديث رسولِ الله، أي هذا الكلام أهوَ تعصّبٌ للنبي أم ماذا؟ أتمنى عليكم ألا يُفهمَ هذا الكلام إطلاقاً أنه بما أنكَ مُسلِمٌ وهذا نبيُّك فأنا مُتعصّبٌ له، لا، الجواب، أنَّ النبيَّ معصوم، عَصَمَهُ اللهُ عن أن يغلَطَ في أفعالِهِ وفي أقوالِهِ، فإذا أردتَ عِلماً صافيّاً لا شائبةَ فيه فعليكَ بحديثِ رسولِ الله، العلماءُ الآخرون، منهم أبو سُليمان الداراني كانَ يقول: إنهُ لَتَمُرُّ بقلبي النُّكتَةُ من نُكَتِ القوم، النُّكتة بالمُصطلح الحديث الطُّرفة، أمّا بالمصطلح القديم النكتة أي الفِكرة الدقيقة، اللفتة البارعة، الشيء الذي يُلفِتُ النظر، فكانَ يقول الداراني: إنهُ تمرُّ بي النُّكتَةُ من نُكَتِ القول، فلا أقبَلُها إلا بشاهديّ عدل، وهما الكتاب والسُّنّة، إذا أيّدتها السُّنةّ وأقرّها الكِتاب فعلى العينِ والرأس، أحياناً يقول لكَ شخص: أخي فلان لا يُصلّي، لكن أخلاقهُ عالية، قيل: لا خيرَ في دينٍ لا صلاةَ فيه، الصلاةُ عِمادُ الدين، من أقامَها فقد أقامَ الدين، ومن هَدَمَها فقد هَدَمَ الدين.
أحد العُلماء يقول: أصلُ مذهَبِنا ملازمةُ الكتابِ والسُّنّة، وتَركُ الأهواءِ والبِدع، والاقتداءُ بالسلف، وتَركُ ما أحدثهُ الآخرون، والإقامةُ على ما سَلَكَهُ الأولون.
مرةً ثانية؛ ليسَ هذا من باب التعصّب، لأنَّ اللهَ تكفلَّ لنا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطِقُ عن الهوى، أبداً، قال تعالى:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
أنا أغبِط كُل أخ كريم عقلُهُ ممتلئ بحقائق يؤكدُها القرآنُ والسُّنّة، وأتحسّر على إنسان عقلُهُ مليء بأوهام، بظنون، قال تعالى:
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)﴾
حُسنُ الظّنِّ بالله ثمنُ الجنّة.
متى يمتلك العبد علماً صافياً؟
أولاً: لن يكونَ عِلمُكَ صافيّاً إلا إذا جعلتَ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم لكَ إماماً وقُدوةً وحاكِماً، الدليل:
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾
فإن قَبِلتَ أن تحتَكِمَ إليهِ في حياتِهِ، وإذا قَبِلتَ أن تحتَكِمَ إلى سُنّتِهِ بعدَ مماتِهِ، فأنتَ مؤمنٌ وربِّ الكعبة، أيضاً:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
إذاً من جعلَ النبيَ قدوَتَهُ وإمامَهُ وحاكِمَهُ، يُجيبَهُ إذا دعاه، يقفَ عِندَ أمرِهِ إذا أمَرَه، يسيرُ إذا سارَ بِك، يقولُ لكَ فتسمَعُ قولَهُ، يُنزِلُكَ هذه المنزِلة فتقبَلُها، تغضَبُ لغَضَبِهِ، ترضى لِرِضاه، إذا أخبَرَكَ عن شيء أنزلتَهُ منزِلةَ ما تراهُ بعينِك، وإذا أخبَرَكَ عن اللهِ بِخبر أنزلتَهُ منزِلةَ ما تسمعَهُ من اللهِ بأُذُنِك، هذا ما قالَهُ سيدنا سعد بن أبي وقّاص، قال: واللهِ ثلاثةٌ أنا فيهنَّ رجل، وفيما سِوى ذلكَ فأنا واحدٌ من الناس؛ ما سَمِعتُ حديثاً من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّم إلا عَلِمتُ أنهُ حقٌّ من اللهِ تعالى.
كُلّما صدّقتَ النبي بتوجيهاتِهِ وأوامِرهِ ونواهيه كانَ إيمانُكَ أرقى، أي إذا جعلتَ من رسولِ اللهِ مُعلّمِاً لكَ، ومربيّاً لكَ، ومؤدِبّاً لكَ، وأسقطتَ كُلَّ الوسائط بينكَ وبينَهُ، إلا الوسيلة التي تُنقَلُ بِها سُنّتُهُ إليك فقد امتلكتَ عِلماً صافيّاً.
معرِفةُ سُنّةُ النبي فرض عينيّ:
أقول لكم كلمة من القلب: إذا اتّبعتَ النبيَ لن تَضِلَّ أبداً، لن تندَمَ أبداً، لن تُخطِئَ أبداً، لأنَّ هذا كلام النبي تعليماتُ الصانع ومنهجُ الخالق، ماذا قالَ اللهُ عزّ وجل؟
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
أنتَ حينما تتَبِعُ كلامَ النبي تتَبِعُ كلامَ الخبير، اتّبع سُنّةَ النبي في زواجـِك، إياكم وخضراء الدمن، اتّبع سُنّةَ النبي في تزويجِ ابنتِك،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ. ))
اتّبع سُنّةَ النبي في طعامِكَ، في شرابِكَ، في نومِكَ، في استيقاظِكَ، في صلواتِكَ، في عِباداتِكَ، في دُعائِكَ، في علاقاتِكَ، في كسبِ المال، في إنفاقِ المال، لذلك معرِفةُ سُنّةُ النبي فرض عينيّ، كيفَ تتبِعُ النبي من دونِ أن تعرِفَ سُنَّتَهُ؟ لذلك أقول لكم للمرة الألف: ما من طريقٍ يُفضي بِكم إلى السعادةِ إلا والعِلمُ أولُّ مرحلةٍ فيه، إذا أردتَ الدُنيا فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتَ الآخرةَ فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتَهُما معاً فعليكَ بالعِلم.
العِلمُ لا يُسمّى عِلماً إلا بالشواهِدِ والأدلّة:
الشيء الآخر؛ هذه كلمة دقيقة وخطيرة، العِلمُ لا يُسمّى عِلماً إلا بالشواهِدِ والأدلّة، والعِلمُ الحقيقي هوَ العِلمُ الذي يُدعّمُ بالأدلّةِ والبراهين، فكُلُّ عِلمٍ ليسَ لهُ دليلٌ ولا بُرهان لا وثوقَ بهِ، وليسَ بِعلم، لأنهُ صارَ جهلاً، إيّاكَ أن تقبلَ بِلا دليل، وإيّاكَ أن ترفض بِلا دليل، لابُدَّ من دليلٍ في القَبول ودليلٍ في الرفض، أمّا دعوى وقوعِ نوعٍ من العِلمِ بغيرِ سبب من الاستدلال فليسَ بصحيح، أي من يقول: هذا عِلم لَدُنّي، العِلمُ اللدُنّي هوَ العِلم الذي وصلَ إلى الأنبياء عن طريق الوحي، فهوَ فِعلاً من لَدُن عليمٍ خبير، أمّا العِلمُ الذي تأتينا بهِ من دونِ دليل، هذا ليَ من لَدُنِ اللهِ عزّ وجل، هذا من لَدُن نفسِك، أنا أُريد عِلماً منقولاً عن حضرةِ اللهِ عزّ وجل، أُريدُ عِلماً منقولاً عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فكلمة أقولُها لكم دقيقةٌ جداً، العِلمُ اللدُنّي لا يكونُ لدُنّيّاً إلا إذا كانَ منقولاً عن اللهِ وعن رسولِه، فإن لم يكن كذلك فهوَ عِلمٌ من لَدُن صاحِبِهِ، وصاحِبُهُ قد يُخطِئُ وقد يُصيب، بل إنَّ العِلمَ الإشراقيّ-إن صحَ التعبير-يُقاسُ بالكِتابِ والسُّنّة، شخص قالَ لكَ: شعرت بكذا، إذا كانَ هذا الشعور، وهذه الفِكرة، وهذا الكشف مُطابِقاً للكتابِ والسُّنّة فعلى العينِ والرأس، وإن لم يكن كذلك فهوَ مردود.
هناك كلِمةَ أقرؤها لكم: ربُنا عزّ وجل حينما أرسلَ هذه الرِسالة، وأنزلَ هذا القرآن، وبعثَ بالأنبياءِ والمُرسلين، ألم يُعطِهم الأدلّة؟ أليست المُعجزات على أنهم أنبياؤه ورُسُلُهُ؟ أليست الكُتُبُ أدلّةً على ما جاؤوا بهِ؟ هل في القرآن الكريم فِكرةٌ بِلا دليل؟:
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)﴾
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)﴾
﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)﴾
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)﴾
إذاً الطابَع العام طابَع عِلم، طابَع بُرهان، طابَع دليل، طابَع حُجّة، أمّا دع عقلَكَ واتبعني، هذه مقولةٌ قالَها النصارى، قالتها أُممٌ أُخرى بعيدةٌ عن روحِ العِلمِ الذي جاءَ بِهِ الدينُ الحنيف.
أخطر شيء أن تأتي بِكلام تدّعي أنهُ من عِندِ الله وهو ليسَ من عِندِ الله:
بعضُ الآيات المُتعلّقة بهذا الموضوع:
﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)﴾
أي أخطر شيء أن تأتي بِكلام تدّعي أنهُ من عِندِ الله وليسَ من عِندِ الله، هل هُناكَ وحيٌ بعدَ رسولِ الله؟ هل كانَ الدين ناقِصاً حتى يأتي فُلان ويُتِمّهُ؟
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾
معناها التطبيق العملي لهذه الفِكرة أي أنتَ بعملَك بالأسواق، بحفلات، بِعقود قِران، بسهرات، بِنَدوات، تستمع إلى أفكار كثيرة، إيّاكَ أن تقبَلَها كُلَّها، لابُدَّ من التمحيص، لابُدَّ من التدقيق، لابُدَّ من التساؤل، لابُدَّ من أن تسألَ المُتكلّم هذا الكلام من أينَ جِئتَ بهِ؟ وأينَ قرأتَهُ؟ وما الدليلُ على صِحَتِهِ؟ وهل هوَ مُعتمَد؟ هل هذا الحديث مُسند؟ هل هوَ حديثٌ صحيح؟ أي أنا دائماً وأبداً أُناسٌ كثيرون يُمطِرونني بأسئلةٍ كثيرة، أستاذ فلان قال: هكذا، قالَ: كذا، لِمَ لم تسألوه من أينَ جِئتَ بِهذا؟ أينَ قرأتَ هذا؟ ما الدليلُ على صِحةِ هذا؟ أي الإنسان:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)﴾
الإنسان مُحاسَب، لابُدَّ من تقديم الدليل، إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خُذ عن الذين استَقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا، الكلمة الشائعة، أخي ضعها في رقبَتي، لم يعد هناك أمكنة يا أخي برقبتك، من أنت حتى أستَمِعَ إليك؟ من أنت حتى أتّبِعَكَ من دون دليل؟ النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقولُ اللهُ عنهُ:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
أي يوجد إنسان يُحرّم الحلال بِلا دليل، وهناك إنسان يُحلل الحرام بِلا دليل، الحلالُ والحرام من عِندِ اللهِ عزّ وجل، اللهُ وحدهُ هوَ الذي يُشرّع، لذلك: ما جاءنا عن صاحِبِ هذه القُبّةِ الخضراء فعلى العينِ والرأس، وما جاءنا عن سِواه فهم رِجال ونحنُ رِجال، الآية الأولى إذاً: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الآيـة الثانية:
﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)﴾
مرة ذكرت لكم بعض الأمثلة لِقولِهِ تعالى: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ هذا مثل افتراضي، شخص معهُ خمسة ملايين دولار، ضرب سبعة وأربعين، ثمانية وأربعين الدولار، مبلغ ضخم، ممكن أن تشتري بيتاً بأرقى أحياء دِمشق، وبيتاً بأرقى مصايف دِمشق، وبيتاً على الساحل، وسيارة أحدث سيارة، ومتجر بأشهر شارع، ممكن، بَرَد أشعَلَهم وتدفأَ عليهم، إنهُ اشترى بهذا المالِ ثمناً قليلاً، كان مُمكن أن يشتري بِهذه الأموال عِدّة بيوت، وكل البيوت فيها تدفئة مركزية، لكن تدفأَ بِهم لساعةٍ أو أقل، وانتهى الأمر، مثل طبعاً افتراضي لكنه دقيق، هذا الذي يتعامل مع الدين تعامُلاً تجاريّاً، يستخدِمُ القيمَ الدينيةَ لمصالِحهِ، يستخدمُ حقائِقَ الدين للدُّنيا، إنهُ اشترى بهِ ثمناً قليلاً، يقول: هكذا جاءني الإلهام، هكذا رأيت، هذا هوَ الكشف، ليبتزَّ أموال الناس، يستخدِم قيّمَ الدين ليُحققَ مكانةً اجتماعيّة، يستخدِمُ قيّمَ الدين ليصرِفَ وجوهَ الناسِ إليه، شيء خطير، لي كلمة أقولها لكم: إذا أردتَ الدُّنيا فاطلُبها من مظانِها، شخص يُريد المال، لابأس، طلبك معقول، ابحث عن المال في التجارة، في الصناعة، في الزراعة، في الوظائف، تعمّق باختصاص، لكن أما أن تجعلَ كسبَ المالِ من خِلال الدين شيء خطير جداً، أتلعبُ بدينِ اللهِ عزّ وجل؟ هذا الدين المُقدّس أتُحوّرِهُ كما تُريد؟ أتَجُرُهُ لأهوائِك؟ هذا إنسان يلعب بالنار، لذلك أيُّ إنسانٍ يستخدِمُ قيم الدين للدُّنيا، يستخدِمُ قيم الدين لمصالِحِهِ الشخصيّة، ليجمعَ المالَ، ليعلوَ على الناس، هذا إنسان يلعب بالنار، ابحث عن المال في مظانِهِ الشريفة، أمّا أن تلعبَ بدينِ الله من أجلِ أن تأخذَ الأموال بِلا جُهد، هذا شيء خطير جدّاً، هذا معنى قولِهِ تعالى، الإنجيل مثلاً، أو العهد القديم تنطَبِقُ عليهِ هذه الآية: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ كُلُّكم يعلم في العصور الوسطى كان بعض رِجال الدين غير الإسلامي طبعاً يبيعونَ الجنّة بصكوك، هذا أخذ قصبتين، هذا ثلاث، جاءَ شخص يهودي ذكي جدّاً، اشترى مِنهُم النار، قال: أنا سأشتريها كلها، فاشتراها بمبلغ لا بأسَ بهِ، بعد أن اشتراها بلّغَ الناسَ أنني قد اشتريتُ النار، وسوفَ أُغلِقها، فخفّ السوق على هذه الجماعة، عاد واشتراها منهم، اشترى النار منهُم، بعد أن باعها اشتراها مرة ثانية، لم يعد أحد يشتري الجنة، خُرافات، أباطيل، تدجيل، هذا دين، دينُ الله عزّ وجل، لذلك أخطر شيء أن يعشعش في ذهن الإنسان عقائد فاسِدة، عقائد زائغة، الآية الثالثة:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)﴾
أوهمَ الناس أنهُ يأتيه عِلم لَدُنّيّ، يأتيه الوحي، يأتيه الإلهام، وهذا الكلام كُلُّهُ لمصلحَتِهِ.
بالحقيقة مرّ معنا بدروس سابقة في هذا المسجد أن المُحرمّات كثيرة؛ هناك الشِّرك، وهناك الفِسق، وهناك النِّفاق، وهناك الإثم، وهناك العدوان، وهناك الفحشاء، وهناك المُنكر، لكنَّ أعظم هذه المعاصي، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)﴾
فنحنُ نبحثُ عن عِلمٍ صافٍ، عن عِلمٍ مُقيدٍ بالكتابِ والسُّنّة، عن علم نقيٍ من كُل شائبة، عن عِلمٍ عليهِ أدلّةٍ وبراهين قطعيّة، يقولُ بعضُهم: كُلُّ من يقولُ: إنَّ هذا العِلمَ عِلمٌ لَدُنّي، لِما لا يُعلمُ أنهُ من عِندِ الله، ولا قامَ عليهِ برهانٌ من الله، أنهُ من عِندِهِ، هوَ كاذِبٌ مُفترٍ على الله. وهذا العِلم كما وصف:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)﴾
هذا العلم.
العِلمُ الصافي عِلمٌ مُدعّمٌ بالكِتابِ والسُّنّة:
الملخص إذاً أتمنى على كُل أخ كريم أن يُراجِع معلوماتِه، يُراجع أفكارهُ، يُراجع معتقداتِهِ، يُراجع تصوراتِهِ، يُراجع مفاهيمهِ، يُراجع مخزونهُ العقائدي، عملية جرد، وأن يَعرِضَ كُلَّ فِكرةٍ على الكِتابِ والسُّنّة، ألا يقبل إلا بالدليل، وألا يرفض إلا بالدليل، وكُلُّ علمٍ يفتقرُ إلى الدليل فليسَ بعِلمِ وهوَ خَطِر، والإنسان أحياناً قد يكونُ ضحيّةَ فِكرةٍ خاطئة، مثلاً إذا أوهَمَكَ أحدهم أننا نحنُ أُمة محمد مرحومة، الحمد لله، يا ربي لك الحمد إذ جعلتنا مُسلمين، والنبي لن يدخُلَ الجنّةَ إلا إذا أدخلَ أُمَتَهُ قبلَهُ، ولو كانوا عُصاةَ، والله شيء جيد، الحمدُ لله، هذه العقيدة الزائغة قد تدفعُ سعادتكَ الأبديّةَ ثمناً لها، قُلتُ لكم في درس البارحة: أنا شخص شاهدتُهُ بعيني، ليست قضية سمعتها بأذني، شخص أعتقد أنهُ إذا نزع أسنانَهُ كُلَها يُعفى من الخِدمة الإلزاميّة، مرّ على أول طبيب رفض طبعاً، الثاني رفض، قالَ لي: مررت على عشرةِ أطباء كُلُهم رفضوا القلع، شاب في الثالثة والعشرين من عُمرِهِ، أسنانه مثل اللؤلؤ بفمه، هناك طبيب قَبِل، بجلستين قَلَعَ لهُ أسنانَهُ كُلها، أعفينا من الخدمة الإلزامية، ذهب إلى الفحص، فقالوا لهُ: أنتَ مُتهرّب من الخِدمة، خدمهم خمس سنوات، وبقي بِلا أسنان، ضحية فِكرة خاطئة أليسَ كذلك؟ طبعاً هذا مَثَل صارخ وقلَّما يحدث، لكن إنسان يُضّحي بسعادتِهِ الأبدية، يُضّحي بالأبد من أجل فِكرة خاطئة سَمِعها من إنسان ليسَ متأكداً مِنها، إنَّ هذا العِلمَ دين، فانظروا عمن تأخذونَ دينَكم، دينكَ دينَك إنهُ لحمُكَ ودَمُك، أخي هذه تجوز؟ والله ليسَ فيها شيء، هذه عموم بلوى، من قال لك: عموم بلوى؟ ساعة عموم بلوى، وساعة يا أخي لا تُدقق كثيراً، الله غفور رحيم، وساعة يا أخي ماذا نعمل؟ فإذا كان هذه عموم بلوى، وهذه ماذا نفعل؟ وهذه لا تُدقق، لم يَعُد هُناك شيء في الدين، يا ترى اللهُ يقبل مِنّا هذا الكلام؟ اللهُ جلَّ وعلا هل يقبل مِنّا هذا يوم القيامة؟ أينَ قولُهُ تعالى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
أحياناً يقول لي شخص: هذه فيها فتوى، أقول لهُ: لابأس، لكن الله يجمعُكَ مع المُفتي يوم القيامة، الذي أفتى لكَ هذه الفتوى طبعاً، يجوز ألا تجده، تقول: أين هذا؟ مثلاً شخص مع الدولة، شيء منَعَتهُ الدولة، وقالَ لكَ أحدهم: لا تسأل، ضعها في رقبَتي واعمَلها، ففعلَها فأحضروه، لماذا فعلت هذا؟ فُلان قالَ لي، أينَ هوَ؟ أحضِرهُ لي، من قالَ لكَ هذا الكلام؟ أنتَ لا ترضى بهِ مع إنسان، أترضى بهِ مع الواحد الديّان؟ مستحيل، هذا هوَ العِلمُ الصافي، عِلمٌ مُدعّمٌ بالكِتابِ والسُّنّة، لا تقبل شياً من دون آية قُرآنية، دون حديث صحيح، وإيّاكَ أن ترفُضَ شيئاً من دون آية قرآنية أو من دون حديث صحيح.
مفهوم الهمة:
الآن الهِمّة، نحن دائماً عندنا قناعات وعنّدنا أهداف، ما الذي يرفعُنا إلى مستوى أهدافِنا؟ لكَ أن تُسمّي هذا الهِمّة أو العزيمة أو الإرادة، أي صِفة نفسية تُعينُكَ على أن تصِلَ إلى هَدَفِك، يقول لكَ شخص: أخي نحن والله نعرف كُلَّ شيء، لكن لسنا مُطبّقين شيئاً، معناها يفتقر إلى ماذا؟ إلى الإرادة القوية، فهذهِ الهِمّةُ العليّة أو الهِمّةُ الصافيّة، قال: أعلى هذه الهِمم هيَ هِمّةٌ اتصلت بالحقِّ سُبحانه طَلَباً وقصداً، وأوصلت الخلقَ إليهِ دعوةً ونُصحاً، وهذه الهِمةُ هِمّةُ الرُّسُلِ وأتباعهم، أي أعلى هِمّة أن تَصِلَ إلى اللهِ طلباً وقصداً، وأن توصِلَ الخلقَ إليهِ دعوةً ونُصحاً، وصلتَ إلى الله وسعيتَ إلى إيصالِ الخلقِ إليه، قال: هذه هِمّةُ الأنبياءِ والمُرسلين وأتباعِهم الصادقين.
نقول نحنُ أحياناً: اللهمَ صلِّ على سيدنا مُحمدٍ، وعلى آلِ سيدِنا مُحمدٍ، وعلى أصحابِهِ الطيبينَ الطاهرين، الهُداة المَهديين، أُمناءِ دعوتهِ، وقادةِ ألويتهِ، وعلى العُلماء العاملين، ومن اتبعهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، معناها لابُدَّ أن تكونَ عالِماً عاملاً وليّاً.
قال: إذا أردتَ أن تعرِفَ مراتِبِ هذه الهِمم فانظر إلى هِمّةَ ربيعةَ بن كعبِ الأسلمي رضيَ اللهُ عنهُ، هوَ خَدَمَ النبيَ أياماً عِدّة، بعدَ أيامٍ عِدّة قال لهُ النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن ربيعة بن كعب الأسلمي كُنْتُ أبِيتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فأتَيْتُهُ بوَضُوئِهِ وحَاجَتِهِ فَقالَ لِي: سَلْ فَقُلتُ: أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قالَ: أوْ غيرَ ذلكَ قُلتُ: هو ذَاكَ. قالَ: فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ. ))
قال له: من علّمك هذا؟ قال: والله ما علّمني إياه أحد، هُناكَ أشخاصٌ سألوا النبي مالاً، أو سألوا النبيَ زوجةً، هناك إنسان تنتهي آمالُهُ بالزواج، تنتهي آمالهُ بعمل، تنتهي آمالُهُ بِدخل، لكن هناك إنسان آمالُهُ لا تنتهي إلا بالجنّة، لا تنتهي إلا بمرافقةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ: ((فَقُلتُ: أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ)) وكانَ غيرَهُ يسألَهُ ما يملأُ بطنَهُ ويُواري جِلدَهُ، سيدنا إبراهيم ما هذه الهِمّة؟ قال تعالى:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾
أتمَهُنّ، قال تعالى:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾
الهِمّة العليّة ترفَعُكَ عِندَ اللهِ عزّ وجل، أي موضوع ذبْحَ ابنهِ شيء فوقَ طاقة البشر:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾
نحن الأمر أنهُ قُم وصلِّ فقط، وغُضّ بَصَرَك، وأنفق من مالِك، كُل الأوامر معقولة، لكن هذا النبي العظيم الذي هوَ عِندَ اللهِ خليل، يُقال عنهُ: خليلُ الرحمن، ما صارَ بهذهِ المرتبة إلا لأنهُ نفّذَ أمرَ اللهِ عزّ وجل الذي لا يُعقل أن يكونَ أمراً، ومع ذلك نفذّهُ، لكنَّ اللهَ سُبحانهُ وتعالى فداهُ بِذِبحٍ عظيم، النبيّ عليه الصلاة والسلام حينما عُرِضت عليه مفاتيحُ كنوزِ الأرض فأباها، يا مُحمـد أتُحِبُّ أن تكونَ نبياً ملِكاً أم نبياً عبداً؟ قالَ: بل نبياً عبداً، أجوعُ يوماً فأذكُرُهُ، وأشبعُ يوماً فأشكُرُهُ.
الحال ثَمَرِة العِلم الصحيح والعمل الصحيح:
نحنُ نُريد عِلماً صافياً، نقياً من كُلِّ شائبة، ونُريد هِمّة عليّة، إخلاص لله عزّ وجل، صُدق في طلب الحق، عدم التبعثر والتشتت، ونُريد في الأخير حالاً صافياً، هناك قدرات بالحياة، فالحال ثَمَرِة العِلم الصحيح والعمل الصحيح، الثمرة الطبيعية للعلم الصافي والهِمّة الصافيّة الحال الصافي.
المُلخّص أنهُ إذا استطعت أن تَصِلَ إلى عِلمٍ صافٍ من كُلِّ شائبة، من كُلِّ خُرافة، من كُلِّ زيغ، من كُلِّ خطأ، من كُلِّ ظن، من كلّ وهم، إذا قيّدتَ كُلَّ معلوماتِكَ وأفكارِكَ وعقيدَتَكَ وتصوراتِكَ بالكتاب والسُّنّة الصحيحة، هذا العِلم الصحيح الصافي يبعثُ فيكَ هِمّةً عالية، والهِمّةُ العالية تقودُكَ إلى استقامةٍ وعملٍ صالح، يأتي التاج وهوَ حالٌ صافٍ، هذا الحال الطيب الذي يَشُعُّ على الآخرين، هذا الحال نتيجة عمل صالح، واستقامة، وهِمّة عالية، وعِلم صافٍ، فالصفاء إلى أن تكونَ من هؤلاءِ الذينَ اصطفاهم اللهُ عزّ وجل: ﴿وَإِنَّهمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾ .
الملف مدقق