الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم؛ من السهل جداً أن تدخُلَ في تفاصيل الدين، والدين بابٌ واسعٌ جداً من أبواب المعرِفة، ولكن من حينٍ إلى آخر أرى من المُناسب أن نتحدّثَ في الكُلّيات، الجزئيّات أن تصل إلى دقائق الآيات، إلى دقائق السُّنّة، إلى دقائق السيرة، لِئلا ندخُلَ في التفاصيل، ونغفلَ أحياناً عن الأهداف الكُبرى والكُليّات العُظمى، لذلك أجد من المُناسب من حينٍ إلى آخر أن نعودَ إلى الكُليّات.
لو دخلتَ إلى مكتبةٍ إسلاميّة لوجدتَ عشراتِ بل مئات الآلاف من الكُتب، إن شِئت العقائدُ وأُصولُها، والقرآنُ وعلومُهُ، والحديثُ ومُصطلحهُ، والسيرةُ وأعلام الإسلام، والفِقهُ ومذاهِبُه، قد تجدُ عشرات الآلاف من الكُتب، بل مئات الآلاف من الكُتب، في كُلِّ بابٍ من أبواب الدين، ولا يتّسعُ أيُّ عُمر مهما طال لقراءةِ ما أُلّفَ في أحدِ أبواب الدين، إذاً نحنُ نحتاج أحياناً لا إلى الاستقصاء، لا إلى التفاصيل، لا إلى الجزئيات، نحتاجُ من حينٍ لآخر أن نبقى في الكُليّات، في الأصول، في أُصول الدين، في كُليّات الدين، في الخطوط العريضة، في الأهداف الكُبرى، في الوسائل الناجحة، فأردتُ في هذا الدرس أن يكونَ حولَ كُليّات الدين.
الأركان الأساسية في الدين:
1-رُكن معرِفيّ أي طلب عِلم بكُلّ أنواعُهُ:
الدين يقوم على دعائم، أُولى هذه الدعائم دِعامةُ المعرِفة، أي التديّن من دون طلب عِلم هذا شيء مستحيل، أُولى دِعاماتِ الدين المعرِفة، لأنهُ ما اتّخذَ اللهُ وليّاً جاهلاً، لو اتّخذهُ لعلّمَهُ، لأنكَ إذا تديّنتَ من دونِ معرِفة، ما الذي يحصل؟
تُطبّقُ عشرات العِبادات، وقد تخرِقُ الاستقامةَ لأنكَ لا تعلم، فيكونُ هذا الخرقُ حِجاباً سميكاً بينكَ وبينَ الله، كُلُّ هذه العبادات غير مُجديّة، لن تستطيعَ أن تُحكِمَ الاتصالَ بالله عزّ وجل إلا إذا وقفتَ عِندَ حدودهِ، ولن تقِفَ عِندَ حدودهِ إلا إذا عرفتَ حدودَهُ، ولن تعرِفَ حدودَهُ إلا إذا عرفتَهُ قبلَ أن تعرِفَ حدودَهُ، أي يوجد بالإسلام جانب معرِفي، جانب علمي، جانب عقيدي، أُنا ألاحظ أن هناك أشخاصاً كثيرين يعنيهم من الدين الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، ويعنيهم خِدمةُ الناس، هؤلاء ربمّا في عصور غير هذه العصور ربمّا يصِلونَ إلى الجنّة، لكن في عصرٍ استعّرت فيهِ الفِتن واتّقدت، والمزالق، والشُّبُهات، والتُّرُهات، والأضاليل، والعقائد الزائغة، والباطل المُزيّف، والانحراف المُروّج، والتفلّت من مبادئ الدين تحتَ غِطاءٍ من الحُريّةِ والعصريّةِ والتّقدّمِ، هُناك شُبُهات كثيرة وفِتن، أقول لكم وأنا أعني ما أقول: لا يستطيعُ أن ينجوَ الإنسانُ الآن في عصورِ الانحرافات الفكريّةِ والسلوكيّة إلا بعلمٍ صحيح، بعقيدةٍ راسِخة، بعلمٍ متين، بأدلّةٍ قاطعة.
أساس الدين العلاقة الطيبة بين الله وعبده:
إذاً يا أيها الإخوة الأكارم؛ حينما تنصرِفونَ إلى الدُّنيا، حينما تتحركون، حينما تنطلقونَ إلى أعمالِكم، إذا شعرتم أنكم في غِنىً عن طلبِ العِلم، هذا النقصُ في العِلم لابُدَّ من أن يُترّجمَ إلى انحرافٍ في السلوك، والانحرافُ في السلوك لابُدَّ من أن يُترجمَ إلى حجاب بينكَ وبينَ الله، وحينما يكونُ الحِجابُ بينكَ وبينَ الله، اعلم عِلمَ اليقين أنكَ فقدتَ كُلَّ ثِمارِ الدين، أساسُ الدين هذه العلاقةُ الطيبةُ بينكَ وبينَ الله، وحينما تُفقَدُ هذه العلاقة بانحرافٍ أساسُهُ الجهلُ فقد خَسِرتَ كُلَّ ثمراتِ الدين، بالاتصال لا يوجد خوف، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)﴾
هكذا خُلِق، هذا ضعفٌ خلقيّ، هكذا أرادَ اللهُ عزّ وجل أن يكونَ هلوعاً، قال تعالى:
﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
أي كُلّ نِقاط الضعف البشري الخلقي التي لا سببَ مِنكَ بِها، هذه نقاط الضعف تتلافاها بالاتصال بالله عزّو جل، فلذلك من لم تُحدّثهُ نفسُهُ بحضورِ مجلسِ علمٍ، يزدادُ معرفةً باللهِ أو بكتابِهِ، درس أسماء الله الحُسنى معرفةٌ بالله، درسُ التفسير معرِفةٌ بكتاب الله، درسُ الحديث الشريف معرِفةٌ بِسُنّةِ رسولِ الله، درسُ السيرةُ النبويّة معرفةُ بالتطبيقات العمليّة، درسُ الفِقهِ معرفةٌ بالأحكام الشرعيّة التي ينبغي أن تدور مع حياتِك، فما لم تُخصص من وقتِكَ وقتاً ثميناً لِطلبِ العِلم، ومتابعةِ مجالس العِلم، وأن تزدادَ ثقافتُكَ الدينيّة، وقناعاتُكَ الفِكريّة، وعقيدَتُكَ الصحيحة، أن تزدادَ وتغتني، عندئذٍ ترى أنَّ النقصَ في العِلم سيُسببُ خللاً في السلوك، هذا الجانب المعرفي، والحقيقة الجانب المعرفي بعضٌ منهُ يأتيكَ بالمُدارسة، وبعضٌ مِنهُ يأتيكَ بالتأمل، وبعضٌ مِنهُ يأتيكَ بالنظر:
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
جانبٌ كبير من جوانب المعرفة يمكن أن تحصلَ عليها من وقوفِكَ عندَ دقائقِ خلقِ السماواتِ والأرض، وأقربُ شيء إليك جِسمُكَ الذي بينَ جوانِحك، أقربُ شيء إليك طعامُكَ الذي تأكُله، أقرب شيء إليك من حولَكَ من أهلٍ وأولاد، أقربُ شيء إليك مظاهر الطبيعةِ التي أمامَك، هذه كُلُّها آياتٌ دالّةٌ على عظمةِ الله عزّ وجل، فأنا أتمنى أن يُفكّرَ الإنسانُ كُلَّ يوم في آيات الله الدالّةِ على عظَمتِهِ، أو أن يشغَلَ نفسَهُ كُلما سنحت لهُ فرصةٌ أن يقفَ عِندَ دقائِقِ خلقِ اللهِ جلَّ وعلا، لا تتأثر إذا سمعت أنهُ يوجد عشرون مليون خلية عصبية شميّة، كُل خليّة فيها سبعة أهداب مغموسة بمادة دهنية مذيبة، وأنَّ أيّةَ رائحةٍ تصِلُ إلى أنفِك تتفاعلُ مع هذه المادةِ الدُّهنيِةِ التي على هذه الأهداب تفاعُلاً كيماويّاً، يتشكّلُ مِنهُ شكل هندسي، يُنقل على شكلِ إشارةِ إلى مركز المُخ، وفي مركزِ الشم في المُخ عشرةُ آلافِ بند من بنودِ المشمومات، وأنَّ هذه الإشارة تُشعِرُكَ برائحة هذا الشيء، ثمَّ تنتقل إلى معرفة رائحة هذا الشيء، وأنَّ المادةَ إذا كانت بمقدار نِصف بالمليون من الميلي غرام بالسنتيمتر المُكعّب فإنها كافيةُ لكي تُحسسُكَ برائحةِ هذا الشيء، ألا تشعرُ أنكَ وقفتَ وجهاً لوجهٍ أمامَ عظَمةِ الله عزّ وجل؟ ألا تشعرُ أنكَ عَرَفتَ دِقّةَ الصنع؟
جانب المعرفة جانبٌ أساسيٌّ جداً في الدين:
إذاً أيها الإخوة؛ جانبٌ معرفيّ أحدُ أركانِ الدين، لذلك اللهُ عزّ وجل فَرَضَ على المُسلمين، ماذا فرض؟ تأكيداً للجانبِ المعرفيّ، تأكيداً لأحدِ أركانِ الدينِ الكُبرى، فرضَ على المُسلمين صلاة الجُمُعة، ما طبيعةُ صلاة الجُمُعة؟ طبيعَتُها تعليميّة، عبادةٌ تعليمية فيها خُطبة، فيها خطيب يتلو على الناسِ آيات القرآن، يُفسّرُ هذه الآيات، يتلو عليهم سُنّة النبي، يُفسّرُ هذه السُّنّة، يتلو عليهم مواقِفَ الصحابة، يُفسّرُ لهم هذه المواقِف.
إذاً لأنَّ جانب المعرفة جانبٌ أساسيٌّ جداً في الدين، كانت صلاةُ الجُمُعة، تِلكَ الفريضةُ التعليميّة،
(( عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ تَهَاوُنًا بِهَا، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ. ))
ومن تَرَكَ الجُمُعة ثلاثَ مرات من دونِ عُذرٍ نكتت نُكتةٌ سوداءُ في قلبِه، ثمَّ يكون الران، ثمَّ تلا النبي قولُهُ تعالى:
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾
على الإنسان أن يقتطعَ من وقتِه الثمين وقتاً لمعرفة الله:
إذاً أيها الإخوة؛ أحد أركان الدين أن تقتطعَ من وقتِكَ أقول: الثمين، وقد يكون وقت الناسِ ثميناً، وقد يكونُ الوقتُ ممتلئاً بالمشاغل والمواعيد والإنجازات والخِطط واللقاءات والأعمال وعقد الصفقات وما إلى ذلك، لكن ما قيمةُ هذه الدُّنيا لو رَبِحتَ فيها كُلَّ شيء وخسِرتَ نفسَك؟ ما قيمةُ المال إذا جاءَ مَلَك الموت وقد تركتَ كُلَّ شيء في ثانيةٍ واحدة؟ فالتأمّل في الكون باب، والنظر في الحوادث باب، وقراءةُ القرآنِ وتدبُّرُهُ، وقراءةُ السُّنّةِ وفهمُها بابٌ ثالث؛ أي يوجد نظر، ويوجد تفكّر، ويوجد مُدارسة، وأنا أقول لكم: الإنسان الكامل هوَ الذي يجمعُ بينَ كُلِّ مصادر المعرِفة، يتأمّلُ تارةً، وينظرُ تارةً، ويُفكّرُ تارةً، ويدرسُ تارةً، الآن سماعُكَ مُدارسة، تفكُّركَ الصباحي بآيات الكون تفكّر، نظرك إلى ما يجري في الكون، من حوادث دالّة على عدالِة الله، وعلى حِكمتِهِ، وعلى رحمتِهِ، وعلى قيوميتِهِ، هذا من بابِ طلبِ العِلم.
اسمحوا لي أيها الإخوة؛ أن أقول لكم: والله الذي لا إله إلا هو لو بلغتَ أعلى مراتِبِ العلمِ في الأرض، لو بلغتَ أعلى مراتِبِ العلمِ، ولم يكن لكَ عملٌ يدعمُ هذا العِلم فلا قيمةَ لهذا العِلمِ عِندَ اللهِ إطلاقاً، المُشكلة أنَّ العِلمَ وسيلة وظنّهُ الناسُ غاية، ما لم تتأكد من أن كُلَّ عِلمٍ تتعلمُهُ إنما هوَ وسيلةٌ كي ينقُلَكَ إلى التطبيق، هذا العِلمُ وبالٌ على صاحِبِهِ،
(( عن جابر: العِلمُ عِلمان: فعِلمٌ في القلبِ فذلك العِلمُ النَّافعُ، وعلمٌ على اللِّسانِ فذلك حُجَّةُ اللهِ على ابنِ آدَمَ. ))
[ السمهودي: فيض القدير: خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن ]
حجةٌ عليه لا لهُ، هذا الباب بابُ طلبِ العِلم، بابُ الاستزادةِ بالعِلم، ماذا يؤكدّهُ؟ قولُهُ تعالى:
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)﴾
يؤكدّهُ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى اعتمدَ قيمةَ العِلمِ كقيمةٍ وحيدةٍ مُرجّحةٍ بينَ البشر، قالَ تعالى:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
وقالَ تعالى:
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)﴾
طلب العلم فريضة على كل مسلم:
إذاً إذا أردتَ الدُنيا فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتَ الآخرةَ فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتهُما معاً فعليكَ بالعِلم، والعِلمُ لا يُعطيكَ بعضَهُ إلاّ إذا أعطيتَهُ كُلّكَ، فإذا أعطيتَهُ بعضَكَ لم يُعطكَ شيئاً، هل تسمحُ لنفسِكَ أن تقول: أنا مشغول؟ مشغول بماذا؟ لماذا أنتَ في الدُّنيا؟ أيُّ شيء يشغَلُكَ عن طَلَبِ العِلم سوفَ تَعُدّهُ غبناً كبيراً في يومٍ ما، طالب ذهب إلى دولة أجنبية لينال دكتوراه، عليهِ أن يعمل، وأن يدرس، أهلُهُ فُقراء، هوَ يحتاج فرضاً إلى ألف فرنك فرنسي في الشهر، وجدَ عمل عبارة عن ساعتين، هاتان الساعتان تُحققان لهُ ألف فرنك فرنسي، طبعاً عِندَهُ دِراسة، لو نال الدكتوراه سيعودُ إلى بلدهِ بأعلى مرتبة، بأعلى منصِب، بأكبر دخل، كُل آمالِهِ معقودة على هذه الشهادة، عَثرَ على عملٍ يُحقق لهُ ألفي فرنك بالشهر، لكن أربع ساعات، يقول: لابأس، أوفق، ثمَّ عَثَرَ على عملٍ يُحقق لهُ ثلاثة آلاف، ست ساعات، أربعة آلاف ثماني ساعات، خمسة آلاف تسع ساعات، عمل يُحقق لهُ مئة ألف فرنك بالشهر، لكن أربع وعشرون ساعة، فتركَ الدِّراسة من أجلِ العمل، هل يقول لكَ: أنا هيأت عملاً عظيماً؟ لا، أنتَ هُنا إقامتُكَ محدودة، بقاؤكَ بهذا البلد منوط بجرّةِ قلم، فإذا عُدتَ إلى بلدِكَ بِلا شهادة كُنتَ في خزيٍ شديد، اسمعوا الآن القاعدة: العملُ الذي يستغرِقُ وقتَكَ كُلَّهُ خسارةٌ مُحققة، مهما كانَ الدخلُ كبيراً، لأنكَ عندئذٍ خرجتَ عن هدفِكَ الأساسي.
أيها الإخوة الأكارم؛ أنا أعلم الحياة صعبة، والدخل محدود، والمطالب كثيرة، والوقت ضيّق، أنا أعرف أخوةً كثيرين مضطرين إلى العمل المستمر، ولكن أن أغُضَّ الطَّرفَ عن إنسان عملُهُ استغرقَ وقتَهُ كُلُّهُ، وهوَ ناجح أو رابح؟ لا والله، لابُدَّ من وقتٍ تتعرفُ فيهِ إلى الله.
مرة خطرَ في بالي مثل، طبيب درس ثلاثين سنة، وجاء إلى بلده، وفتح عيادة، وكتب: العيادة بينَ الساعة الخامسة والسابعة بعد الظهر، وهوَ في العيادة جاءهُ مريض الساعة الخامسة والنصف، قالَ لهُ: مشغول، لماذا أنتَ هُنا إذاً؟ لماذا درست أنت؟ إن لم تكُن فارِغاً لأكبرِ عملٍ في حياتِك فأنتَ فارِغ لِماذا؟ إذا شخص قال: أنا ليس عندي وقت أتعرّف على الله عزّ وجل، نقول له: ما الذي يشغَلُك؟
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)﴾
ماذا بعدَ الحقِّ إلا الضلال؟ هذا الكلام أقولُهُ لكم: لابُدَّ من طَلِبِ العِلم، هذا شيء لابُدَّ مِنهُ، لأنهُ لو لم تكن كذلك لظَهَرَ الانحراف، مثلاً بالحج سمعنا باجتماع عٌقِد قبلَ أيام، أن أكثر من عشرين أو ثلاثين حاجاً سورياً بالعام الماضي لم يطوفوا طواف الإفاضة، وهوَ رُكن أساسي، فلمّا قُلنا لهم: لماذا أنتم كذا؟ قالوا: لم يقُل لنا أحد، لا نعرف، من عرفات إلى مكة، وجلسوا بعد العيد، ثمَّ سافروا، ما الذي أبطَلَ حَجَهم؟ جهلُهم، أنا أقول لكم: ممكن أن تكون أنتَ سليم النيّة، ممكن أن تأكُل الرِّبا وأنتَ لا تدري، ممكن أن تتجاوز الحدود لِعلّةِ الجهلِ فقط، والقانون لا يحمي الجاهل، كما أنَّ الدين لا يعذُر الجاهل.
أنا أتمنى من إخواننا الكِرام؛ موضوع مجلس العِلم ليسَ على وقت فراغِهِ، الدنيا شتاء، ضاق خلقنا لا يوجد شيء تعال نحضر الدرس، بالصيف الناس سارحون بالمصايف، وهُنا وهُناك، ليسَ هذا القصد، هذا مِنهاج جامعي، فيجب أن تجعل الأساس الدرس، وحياتك متقولبة مع الدرس، ليسَ الأساس حياتك، والدرس على وقت الفراغ، هذا طبعاً من باب المُتابعة والمُثابرة.
2-العمل بشقيه السلبي والإيجابي:
ماذا تقترحون البند الثاني في كُليّات الدين؟ يوجد كليات كبرى، العِلم بند أول، طَلب العِلم إمّا بالتفكّر بالكون، أو بالنظر في الحوادث، أو بالمُدارسة، والمُدارسة قراءة أو استماع، أنتَ الآن تدرس، تستمع إلى درس، وقد تقرأ، وقد تنظر، وقد تتفكّر، تقترحون كُليّة كُبرى من كُليّات الدين، العمل كلمة كبيرة جداً، ممكن أن يكون لها بندين أساسيين، هناك بند سلبي وبند إيجابي، هناك بند امتناع امتناع امتناع وهناك في بند إيجابي فعل؛ الاستقامة والعمل الصالح.
الاستقامة أيها الإخوة؛ انضباط، غضّ البصر استقامة، تركُ الغيبةِ والنميمة استقامة، تركُ لقمة من حرام استقامة، لكن العمل الصالح بذل، بالضبط دققوا في هذا المثل، لو تصورّنا أنَّ الطريق إلى الله طريق مادّي، تصوّر، افتراض، الطريق إلى الله طريق مادّي، أنتَ راكب مركبة، وعلى هذا الطريق عقَبات، كُل عقَبَةَ ارتفاعها مترين، متران ارتفاع، متران عرض، متران طول، إسمنت مُسلّح، هل بإمكانِكَ أن تسيرَ على هذا الطريق؟ لا، كُلُّ معصيةٍ أيها الإخوة عقبةٌ على طريقكَ إلى الله، فالاستقامة تعني أن تُزيلَ هذه العقبات، كُل إنسان استقام على أمر الله نقول لهُ: ما فعلَ شيئاً، لكنّهُ مهّدَ الطريقَ إلى الله، أزالَ كُلَّ العقَبات، أزالَ كُلَّ الموانع، ألغى كُلَّ الحواجز، المعاصي حواجز وموانع وعقبات وحُفر وما إلى ذلك، أنتَ حينما تستقيم على أمرِ الله عزّ وجل، والاستقامةُ طابعُها سلبيّ، أنتَ ما زِدتَ عن أن مهدّتَ الطريقَ إلى الله، ماذا بقيَ؟ الحركة على هذا الطريق، طريق إلى الله فرضاً مادّي، فيه عقبات أزلتَها، صار الطريق سالكاً، بقيَ عليكَ أن تسير، أن تتحرك، الحركة هيَ العمل الصالح، والعملُ الصالحُ يرفَعُكَ، اسمع القرآن الكريم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
لابُدَّ من استقامةٍ، ولا بُدَّ من عملٍ صالح.
الكلمة التي عبّر عنها القرآن الكريم عن الاستقامة والعمل الصالح:
لكن أحياناً القرآن الكريم يُعبّرُ عن الاستقامةِ والعمل الصالح بكلمة: ﴿وَعَمِلَوا الصَالِحات﴾ والتفسير أنَّ العملَ الصالِح لا يثبُت إلا على أرضيّةٍ من استقامة، كيفَ أنَّ الإنسان معهُ قلم حبر والورق عليه دُهن وكتب لا يُعلِّم؟! لا يثبُتُ أثرُ الحِبرِ إلا على ورقٍ نظيف، كذلك لن تستطيع أن تشعر أنَّ هذا العمل قَبِلَهُ اللهُ عزّ وجل إلا على أساسٍ من استقامةٍ على أمرِهِ، أي بشكل آخر لا تُفكّر أنَّ العمل الصالح يُعينُكَ على الاتصال بالله عزّ وجل إذا كان مبنياً على عدم استقامة، الاستقامة أساس، من باب الأمثلة، الأمثلة توضّح، المستودع الاستقامة، إملاؤهُ بسائل غالٍ جِدّاً عمل صالح، أمّا مستودع بِلا قعر، وصبّ هذا السائل الزِئبقي الغالي عمل أحمق، لا شيء يجمعه، أمّا إذا كان المستودع مُحكماً، لو ألقيتَ فيهِ ليتراً واحداً هو محفوظ، ليترين محفوظين، فلذلك دعوتُنا استقامةٌ تامّة وعملٌ صالحٌ بقدرِ المُستطاع، العمل الصالح بقدرِ المُستطاع، قال تعالى:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
لكن الاستقامة تامّة، فمن رضيَ بانحرافٍ طفيف، هذا الانحراف كما تعلمون لا صغيرةَ معَ الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار، الصغيرة تشبه شخصاً راكباً بمركبتِهِ، يمشي على طريق مستقيم طويل، على جانِبِهِ وادٍ سحيق، حَرَفَ المِقوّد سنتمتراً واحداً، هذا السنتمتر لو ثبت على الوادي، أمّا لِمَ سُميّت صغيرة؟ لأن هذا السنتمتر تصحيحهُ سهل جِدّاً، يحتاج إلى ضغط أقل من غرامين فيعود، أمّا الكبيرة انحراف تسعين درجة فجأةً، فالصغيرة إذا ثَبُتت انقلبت إلى كبيرة من حيثُ النتائج، لأنهاَ نقلَتكَ إلى الوادي السحيق مع مسافة قصيرة، إذاً لا يوجد بالاستقامة حلّ وسط، الاستقامة قطعيّة، أمّا العمل الصالح نِسبي، ممكن أن تتصدّق بألف، باركَ الله، ألفين، باركَ الله، خمسة، باركَ الله، مئة ألف، باركَ الله، مليون، باركَ الله، لكن هذه الصَّدَقَة مبنيّة على مستودع مُحكم وهيَ الاستقامة، أمّا المستودع بِلا قعر، الألف مثل الخمسة آلاف مثل المليون لم يظهروا.
ضرورة الاستقامة التامة على أمر الله:
البند الثاني، العمل، العمل بِشقيه السلبي والإيجابي، السلبي الاستقامة، والإيجابي العمل الصالح، قال تعالى:
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾
قد يقول لكَ أخ: أنا لست نبياً، معك جواب؟ هذه دعوى مُعظم الناس، أخي أنا لست نبياً؟ ومن قال لك: إنكَ نبي؟ لا، لستَ نبياً، فعلاً لستَ نبياً، ولستَ صديّقاً، ولستَ مؤمناً كبيراً، لكن أنتَ مُسلم، هل يوجد عِندكَ دليل قطعي من كتاب الله على أنكَ مُطالَبٌ تماماً تماماً تماماً أن تستقيمَ استقامةً تامّة؟ قال تعالى:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾
لذلك قالَ عليهِ الصلاة والسلام: شيبتني هود وأخواتُها، وما شيّبَهُ في هذه السورة إلا هذه الآية:
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ ، هل يوجد عندنا حديث يؤكّدُ هذه الحقيقة؟
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ.))
أي لو فرضنا ملكاً قاد سيارة، يوجد قواعد للقيادة، هذه القواعد يجب أن يُطبّقَها ملك، وأصغر إنسان يقود سيارة، هذه مبادئ السلامة، أمّا العمل الصالح بحسب الإمكانيات، بحسب الصدق، بحسب الجود، بحسب الشوق إلى الله، هذا نسبي، أكثر الناس يعتقدون بنسبيّة الاستقامة، أطع الله على قدر ما تستطيع، نوعاً ما كلمة بالطاعة نوعاً ما، قدر ما تستطيع، الميسور، اللهُ لم يُكلّفُكَ فوق طاقَتُكَ، أي مرحلة مرحلة، الإنسان ما دام راغباً أن يبقى هناك ثغرات كبيرة بحياتِهِ هذه الثغرات كُلُّها حُجُب تحولُ بينَهُ وبينَ اللهِ جلَّ وعلا.
هل يوجد عندكم كلية ثالثة في الدين؟ الكلية الأولى المعرفة بأبوابِها الثلاث، بالتأمل بالكون، بالنظر بالحوادث، بالمُدارسة، بطابع التلقّي الاستماع، أو طابَع الإلقاء، أو القراءة، عندنا رُكن ثالث؟ الاتصالُ بالله، هذه كُليّة، الصلاة اتصال، والصوم اتصال، والاستغفار اتصال، والتسبيح اتصال، والدُّعاء اتصال، يجب أن تكشف القاسِم المُشتَرك، تُصلّي من أجلِ أن تتصل، وتصوم من أجلِ أن تتصل، وتحُجّ البيت من أجل أن تتصل، وتدعو اللهَ عزّ وجل من أجلِ أن تتصل، وتُسبحهُ وتوحّدهُ وتُكبّرهُ وتُمجّدهُ وتُنزّههُ من أجلِ أن تتصل، إذا كان العِلم نما، والعمل جاد، صار جيداً، والذِكر ضَعف، ماذا يحصل للإنسان؟ دققوا في السؤال: عِلم جيد، أعمال طيبة جيدة، لكن الاتصال بالله ضعيف، الصلاة شكليّة، الذكر قليل، الدُّعاء صفر، القلب يتصحّر، القلب يخلو من مشاعر الإيمان، وإذا خلا القلبُ من مشاعر الإيمان دخلَ السأم والملل والضجر، أي القلب مُحرّك، فإذا المُحرّك واقف، المِقود ممتاز لكن لا يوجد مُحرّك! فلذلك الإنسان، سيدنا سُليمان قال:
﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)﴾
سيدنا سُليمان آثرَ العملَ الصالح على اتصالِهِ بالله فعاتَبَهُ الله، سيدنا داود بالعكس، آثرَ اتصالَهُ بالله على خِدمةِ الخلق فعاتَبَهُ الله، إذاً ما المطلوب؟ أن توازِنَ بينَهُما، أن تسعى إلى إِقام توازن حركي كما يقولون، كُلما خطوتَ خطوةً نحوَ العمل الصالح يجب أن تُلازِمَها خطوة نحوَ ذِكرِ الله، ذِكر وعمل، الآية الكريمة:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)﴾
[ سورة الشرح ]
ما علاقةُ هذه السورة بهذه الفِكرة؟ أينَ موضِعُ الشاهد؟ إذا فرغتَ من عملٍ صالح فعليكَ أن تنصَبَ لِذِكرِ الله، يجب أن تتحركَ على خطين متوازيين؛ خطّ العِلم والعمل، وخطّ الذِّكر.
فروع الذّكر:
مرةً ثانية؛ الذِّكر كلية من فروعه الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة، الاستغفار، الدُّعاء، التسبيح، التحميد، التمجيد، التهليل، التكبير، كُلُّهُ ذِكر، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾
فأنتَ عقلُكَ امتلأَ عِلماً بقيَ القلب، القلب مملوء شهوات، فالمؤمن يشحنُ قلبهُ بِذكرِ الله، عبدي طهّرتَ منظرَ الخلقِ سنين أفلا طهّرتَ منظري ساعة؟
إذاً يا أيها الإخوة الأكارم؛ لابُدَّ لُكلِّ واحدٍ مِنّا من غارِ حِراء، قالَ لي شخص مُداعِباً ومُعاتِباً: أتتركُنا أسبوعين وتذهب وتَحُج؟ قلتُ لهُ: وأنا أريد أن أُشحن أيضاً، ألا أُعطي؟ يجب أن أتلّقى أيضاً، الإنسان عطاء، ثم تفرغ البطارية، يجب أن يُشحن حتى يشحن الآخرين، فالحج عِبادة، فيها تفرّغ تام لله عزّ وجل، كُلّ الحج دعاء وابتهال وطواف وسعي وما إلى ذلك، إذاً الكُليّة الثالثة: وهي الذِّكر، الصلاة، أو اتصال، أعتقد أنَّ الذِّكر أشمل، أولاً: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ أعني ما أقول، القلق، الخوف، الاضطراب، السأم، الضجر، كُلُّ هذه المشاعر المُحزِنة تزول بالذِّكر، والله يا إخوان؛ لو كان عندنا جهاز يقيس معنويات الإنسان العالية، كُلما ازددتَ صِلةً باللهِ عزّ وجل شعرتَ بمعنوياتٍ عاليةٍ جداً، وكُلما ضَعُفَ الاتصالُ بالله عزّ وجل تسرّب القلق والخوف، لذلك لو أُتيحَ لكَ أن تطّلعَ على قلبِ إنسانٍ بعيدٍ عن الله عزّ وجل لوجدت قلبَهُ ممتلئاً خوفاً وذُعراً، والدليل:
﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)﴾
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)﴾
أمّا المؤمن مطمئن لله عزّ وجل، طلب عِلم، عمل صالح بِشقيّه السلبي والإيجابي، ذِكر بِكُلِّ ما تعني هذه الكلمة من صلوات، وصيام، وحج، وزكاة، ودعاء، وما إلى ذلك.
هل يوجد عندنا رُكن رابع أو خامس من أركان هذا الدين العظيم؟ التوحيد، التوحيد يجب أن ينضوي تحت ركن كبير رُكن المعرِفة، الآن نحن معرفة الله عز وجل هذا السؤال ساقَني لموضوع دقيق، أنتَ إمّا أن تعرِفَ أمرهُ وإمّا أن تعرِفَهُ، إذا عَرفتَهُ ولم تعرِف أمرَهُ تفسّقت، وإذا عَرَفتَ أمرَهُ ولم تعرِفهُ تزندقت، لابُدَّ من أن تعرِفَهُ، ولابُدَّ من أن تعرِفَ أمرَهُ في وقتٍ واحد، فلذلك أكبر خطأ يرتكبهُ بعض المُسلمين أنهم يُعلّمون طالب العِلم الأحكام الفقهيةَ فقط، طالِبُ العِلم ما عَرَفَ اللهَ عزّ وجل، يُريد أن يُطيعَ من؟ أن يتّصل بمن؟ أن يخافَ من؟ أن يرجو من؟ يوجد سؤال كبير، هكذا الصلاة؟ الواجبات، السُّنن، تُصلّي لمن؟ نقول لكَ: يا أخي ألا تستقيم؟ أستقيم لمن؟ لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمضى مرحلةً رائعةً جداً من مراحِلِ دعوتهِ في التعريفِ باللهِ عزّ وجل، ثمَّ أمضى مرحلةً أُخرى في التعريفِ بأمرِ اللهِ عزّ وجل، وأيّةُ دعوةٍ إلى الله تفتقر إلى أحدِ شرطيها دعوةٌ عرجاء، لابُدَّ من أن تُعرّفَ بالله، ولابُدَّ من أن تُعرّفَ بأمرِ الله.
مثلاً يوجد عندك ظاهرة مرضية، تجد شخصاً يحمل أعلى شهادة شرعية، تعلّم العقائد، تعلّم التوحيد، تعلّم الفقه، تعلّم المواريث، تعلّمَ أحكام الزواج والطلاق، والعدّة، وأحكام اللقطة، وأحكام الوديعة، وأحكام القرض، وأحكام المُزارعةَ والمُساقاة، وأحكام الوكالة والحوالة، يقول لكَ: ثمانية مجلدات، خير إن شاء الله، وتتفاجأ أنهُ يرتكب مخالفات كبيرة جدّاً، أنتَ كمراقب وجدت شخصاً يحمل أعلى شهادة شرعية، لكن لهُ انحرافات خطيرة، قد يأكُلُ مالاً حراماً، بماذا تُشخّص مرضَهُ؟ عَرَفَ الأمر ولم يعرف الآمر، عَرَفَ الشريعة ولم يعرف الحقيقة، عَرَفَ الأحكام الفقهيّة ولم يعرف المُشرّع، هكذا، وإذا رأيتَ إنساناً معلوماتهُ الفقهيّة ضعيفة جداً، يرتكب مخالفات فقهيّة لا لأنهُ يُحب أن يعصيَ الله، لا، لأنهُ جاهل، لا يعرف، ثمَّ رأيتَهُ يُحدّثُكَ عن أسماء الله الحُسنى، وعن صِفاتِهِ، وعن، وعن، وهذه حالةٌ مرضيّة، عَرَفَ اللهَ من خِلال الكون، ولم يعرف أمرَهُ بالضبط، فوقعَ في المعاصي لا لأنهُ يُحبُّ أن يعصيَ الله عزّ وجل، لا، لأنهُ يجهلُ حُكم الفِقهِ، لا يعرف، ومثلُ هؤلاء كُثُر، يرتكب مخالفةً شنيعةً كبيرةً وهوَ لا يدري، يقول لكَ: لا أعرف أهذه حرام؟! خير إن شاء الله.
ضمّ التوحيد إلى القسم المعرفي:
إذاً التوحيد ينضم إلى القسم المعرِفي، القسم المعرِفي كما قُلنا عندنا كون وحوادث، هذهِ تُمثّلُ معرِفة الله، عندنا قرآن وسُنّة هذه تُمثّلُ أمرَ الله، والدليل الله عزّ وجل قال:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)﴾
فكأنَّ هُناكَ رُكنينِ أساسيّين؛ الكون كتابٌ مفتوح، والقرآن كتابٌ مفتوح، هذا كِتابٌ حروفهُ كبيرة، يقرؤهُ القاصي والداني، العربي والأعجمي، وهذا الكِتاب حروفهُ صغيرة، يقرؤهُ أهلُ العربيةِ فقط، أي هذا خلقُهُ وهذا أمرُهُ، خلقُهُ يدُلُّ على التوحيد، وأمرُهُ يدلُّ على التشريع.
ركن رابع، معرفة، عمل صالح واستقامة، أي عمل، اتصال، محبّةُ النبي عليه الصلاة والسلام، تجديد الإيمان، الحقيقة الذي قال: محبة النبي، والله معهُ وجهة نظر، الآن نحن عندنا شيء اسمهُ البيئة، الله عزّ وجل قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
الآن نحنُ نتصوّر إنساناً فِكرُهُ نيّر، عملُهُ مستقيم، نفسُهُ طاهِرة، لهُ اتصال بالله، لو أنَّ هذا الإنسان عاشَ في مجتمعٍ منحرف، كُلما مضى بهِ الوقت تضعُفُ مقاومتهُ، إلى أن ينزلق من بابٍ إلى باب، ومن مستوى إلى مستوى، لذلك وردَ أنهُ من أقامَ معَ المُشرِكين فقد بَرِئت مِنهُ ذِمّةُ الله، وردَ أيضاً: من هَويَ الكَفَرَةَ حُشِرَ معهُم ولا ينفعهُ عملهُ شيئاً، إذاً أنت إضافةً إلى معرِفتِكَ بالله، وإلى طاعتِكَ، وإلى عملِكَ الصالح، وإلى ذِكرِكَ، لابُدَّ من أن تكونَ في بيئةٍ مؤمنة، لأنَّ المؤمنَ يشدُّ أخاه، هذا معنى قولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ الإنسان أحياناً لا يعرف، وليسَ هذا عاراً، ليسَ العار ألا تعرف، ولكنَّ العار أن تُصرَّ على عدم المعرِفة، ليسَ العار أن تكونَ جاهِلاً، ولكنَّ العار أن تبقى جاهلاً، إذاً أنتَ يجب أن يكون في حياتِكَ إنسان تثق بِعِلمِهِ، تسألُهُ، هذا معنى قولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ إذا قُلت: أنا لا أُريد أيّة جماعة، ولا أيّة جهة، ولا أيّ إنسان، وليسَ لي ثِقة بأحد، ماذا يحدث بالضبط؟ كُن واقعياً، ليسَ لكَ ثِقة بإنسان، ولا بداعية، ولا بعالِم، ولا بجامع، ولا بجماعة، كُلُّهم كاذبون، لابأس، راقب نفسك، تجد نفسك وحيداً مُحاطاً بأُناس بعيدين، مُحاطاً بأُناس شهوانيين، مُحاطاً بأُناس دنيويين، من جانس جالس، عندما أنتَ تكون في بيئة منحرِفة أو كافرة أو فاجرة أو فاسقة، تُحِسّ بنفسك بعدَ فترة من الزمن صِرتَ مِثلَهم وأنتَ لا تدري، إذاً لابُدَّ لكَ من بيئةٍ طيّبة، لابُدَّ من بيئةٍ تنبُتُ فيها، إذاً وجود رسول أو وجود عالِم أو مُرشد أو مؤمنين، أنا أُعمم، لابُدَّ لكَ من بيئةٍ صالحة، لو فرضنا أن إنساناً مؤمناً، كل أصدقائه فسقة، لا يُصلّون، شاربو خمر، أعتقد لهم تأثير عليه سلبي، أمّا إذا مؤمن جلس مع مؤمنين، الأول صلّى قيام الليل، أنا يجب أن أصلي مِثلَهُ، الثاني تصدّق أمامهُ بصدقة كبيرة، ليس أفضل منّي، والله أنا أيضاً يجب أن أتصدق، تجد المؤمن القوي يأخذُ بيد الضعيف، لذلك لا تصحب من لا ينهضُ بك إلى اللهِ حالُه، ويَدُلّكَ على اللهِ مقالُه، أنتَ اجلس مع أهل الدُنيا تُحِسّ بهبوط.
أحياناً الطائرة تكون مُحلّقة في الأجواء، فجأةً تهوي خمسين متراً، قلوب الرُّكّاب تنخلع، ولاسيّما الراكب أول مرّة، يقول لك: انتهينا، يصفر وجهه، ماذا حصل؟ هذه الطائرة دخلت في جيبٍ هوائي فهبطت، وأنتَ أحياناً أيها الأخ الكريم لكَ إخوانُك، لكَ مجلس العلِم، علاقاتُكَ كُلُّها مع مؤمنين، أُناس طاهِرين، مهذّبين، مُحبين، يُصلّون، يذكُرون، يتورّعون، ينصحون، كأنكَ تعيش بينَ أهلِكَ في بحبوحة، اجلس فجأةً مع أهلِ الدُنيا، من مُزاحُهم الرخيص، من مُزاحُهم الجِنسي، من قنصهم، من تعليقاتهم اللاذعة، من وقاحتهم أحياناً، من انحرافهم الأخلاقي، من شهوانيتهم، تُحسّ نفسك كأنكَ تلوّثت وهبطت، فأنا أقول لكم الرُّكن الرابع لا يُمكن أن تلتزم وتتنامى وينمو إيمانُك إلا في بيئة طيّبة، هذا معنى قولِهِ تعالى آية كبيرة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)﴾
آيات كثيرة:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
أي بعدَ أن تتعرفَ إلى الله، من خِلال الكون والحوادث والقُرآن، ومن خِلالِ معرِفتهِ ومعرِفةِ أمرِهِ، ومن خِلالِ التلقّي أو الإلقاء، من خِلال الكونِ أو القُرآن، وبعدَ أن تستقيمَ على أمرِ الله فتُزيلَ كُلَّ العقباتِ من الطريقِ إلى الله، وبعدَ أن تعملَ صالِحاً فتتحركَ على طريقِ الإيمانِ، وبعدَ أن تتصلَ باللهِ في الصلاةِ، والصيامِ، والحجِ، والزكاةِ، والذِّكرِ، والدُّعاءِ، والتسبيحِ، وبعدَ أن تفعلَ كُلَّ هذا لابُدَّ لكَ من بيئةٍ مؤمنةٍ تعيشُ فيها، لا يعرِفُ ما نقول-كما قالَ ابنُ عطاءِ اللهِ السَكندَريّ-إلا من اقتفى أثرَ الرسول، الذينَ عاشوا في بيئاتٍ كافرة، وفي مجتمعاتٍ قاسيّة، في مجتمعاتٍ تُرتكبُ فيهِ الفواحِشُ على قارِعة الطريق، كُلُّ شيء في هذا المُجتمع يدعوكَ إلى معصية الله، كُلُّ شيء في هذا المُجتمع يدعوكَ إلى الفِسقِ والفجور، هذا المُجتمع لا يُعاشُ فيه، لذلك الإنسان إذا اللهُ عز وجل أكرَمَهُ ببلدٍ طيّبٍ، فيهِ مساجد، فيهِ ذِكر، فيهِ مجالس عِلم، فيهِ بقيّة حياء، بقيّة ورع، بقيّة تقوى، بقيّة صلاح، بقيّة عمل صالح، هذه أرضٌ مُبارَكة، بلدةٌ طيّبة، على الرغمِ من كُلِّ السلبيّات، لا تعرِفُ قيمتها إلا إذا تركتها.
أحد إخواننا الكِرام؛ ذهب إلى بلد أجنبي بعيد جداً، ولهُ منصِب لا بأسَ بهِ، ويعيش بطمأنينة وبحبوحة، حدثّني أنهُ سَمِعَ قرآناً يُتلى من بعض المراكز الإسلامية في هذا البلد الكبير الحضاري المُتقدّم، حنّت نفسهُ إلى بلادِهِ، وشعرَ بأشواقِهِ إلى بلادِهِ الإسلاميّة، وإلى المساجد، ومجالس العِلم، وتلاوة القرآن، المؤمن دائماً يشعر بانتمائهِ إلى إسلامِهِ، وإلى بلدِهِ، إذاً الرُّكن الرابع وهناك آيات كثيرة جدّاً، وهناك أحاديث كثيرة جدّاً، هذا الرُّكن الرابع أن تكونَ بينَ جماعةٍ مؤمنة، سافر الآن مع ثلاثة مؤمنين؛ الصلوات، الذِّكر، صلاة الفجر، سافر وحدك، أميل إلى التحلل، التفلّت،
(( عن النعمان بن بشير: الجماعةُ رَحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ. ))
(( عن عمر بن الخطاب رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمِعَ مَقالَتي فَوَعاها، إنِّي رَأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَقَفَ فينا كَمَقامي فيكُمْ، ثُمَّ قالَ: «احْفَظوني في أَصْحابي ، ثُمَّ الَّذين يَلونَهُم، ثُمَّ الَّذين يَلونَهُمْ –ثَلاثًا- ثُمَّ يَكْثُرُ الهَرْجُ، ويَظْهَرُ الكَذِبُ، ويَشْهَدُ الرَّجُلُ ولا يُسْتَشْهَدُ، ويَحْلِفُ ولا يُسْتَحْلَفُ، مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ بُحْبوحَةَ الجَنَّةِ فَعَلْيهِ بالجَماعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطانَ مَعَ الواحِدِ، وهو مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، لا يَخْلوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأَةٍ؛ فإنَّ الشَّيْطانَ ثالِثُهُما، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنتُهُ وساءتْهُ سَيِّئَتُه فهو مُؤْمِنٌ. ))
[ المستدرك على الصحيحين: إسناده صحيح ]
(( عليكم بالجماعة فإنما يأكُلُ الذئبُ من الغنمِ القاصيّة. ))
[ ابن القيم: الفروسية: صحيح ]
إذاً نحن أحياناً يجب أن نعودَ إلى كُليات الدين، إلى أُصول الدين، هذا هوَ الدين معرِفة.
أنا أذكر دائماً وكثيراً أنَّ الإنسانَ خُلِقَ ليعبُدَ اللهَ عزّ وجل، بدليلِ الآية القطعيّةِ في دلالتِها:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
العبادة ثلاث مراحل؛ طاعة قبلها معرِفة، بعدها سعادة، هذا كُل الدين، سلوك مبني على معرِفة يُفضي إلى سعادة، والسعادةُ هدفُ كُلِّ مخلوقٍ حيّ، أي في النهاية أنتَ خُلقِتَ للجنة، والجنة كُلُّها سعادة، متاعب الدُّنيا متاعب مؤقتة، التكليف مؤقت، المشقّة مؤقتة، مصارعة النفسِ مؤقتة، لمّا الإنسان يستحق دخول الجِنان، قال تعالى:
﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)﴾
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)﴾
قال: المؤمن حينما يأتيهِ مَلَكُ الموت، ويطّلعُ على مقامِهِ في الجنّة، يقول: لم أرَ شرّاً قط، لو أنَّ حياتهُ كُلها مُفعمة بالمصائبِ والمتاعب، يقول: لم أرَ شرّاً قط، والكافر حينما يعرِفُ مكانَهُ في النار، يصيحُ صيحةً، لو سمِعَها أهلُ الأرضِ لصُعِقوا، يقول: لم أرّ خيراً قط، أينَ بيوتُهُ؟ أينَ مسرّاتُهُ؟ حفلاتُهُ؟ رِحلاتُهُ؟ أينَ شأنُهُ؟ أينَ الطعام الذي أكلَهُ؟ أينَ النساء اللواتي التقى بِهنّ؟ أينَ السهرات المخملية كما يقولون؟ أينَ هيَ؟ كُلُّها ذهبت وبقيت تبِعاتُها.
نحنُ إذاً بحاجة إلى مجتمع مؤمن، أنا أشعر عليكم أن الإنسان عندما يحضُر مجلس عِلم، يقول لكَ: والله تأثّرت وشعرت بصفاء، وبقي معي يومين أو ثلاثة، يومان أو ثلاثة في ذكر، وفي قُرب، وفي طُمأنينة، وفي قوّة نفسيّة، وفي معنويات مرتفعة، فنحن إذاً عندنا أربعة أركان أساسيّة في الدين، رُكن معرِفيّ، طلب عِلم بكُل أنواعُهُ، العِلمُ بالله، العِلمُ بأمرِهِ، الحقيقة، الشريعة، التفكّر، التأمُل، الدراسة، السماع، القراءة، طلبُ العِلم على إطلاقِهِ، ثمَّ العمل بشقيّهِ السلبيّ والإيجابي، السلبي الاستقامة والإيجابي التقديم، إنفاق المال، إنفاق الوقت، إنفاق الجُهد، إنفاق الخِبرة، ثمَّ الاتصال بالله بِكُلِّ ألوانِهِ؛ من صلاة، إلى صيام، إلى حجّ، إلى زكاة، إلى ذِكر، إلى دُعاء، إلى إقبال، إلى تلاوة قُرآن، والشيء الرابع، أن تحرصَ على أن تكونَ في مجتمعٍ مُسلم، لأنَّ هذا المُجتمع يُقويّك، ((الجماعةُ رحمة والفُرقةُ عذاب، عليكم بالجماعة، وإياكُم والفُرقة، فإنَّ الشيطانَ مع الواحد وهوَ من الاثنينِ أبعد، وإنما يأكُلُ الذئبُ من الغنمِ القاصية)) .
الملف مدقق