وضع داكن
21-06-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 049 - البصيرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة البصيرة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والأربعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ومنزلة اليوم البصيرة.
هناك بصر وهناك بصيرة؛ البصر يريك ظاهر الأشياء، والبصيرة تريك حقائق الأشياء، فالمؤمن يملكُ بصيرةً، وأي إنسان يملكُ بصراً، فالمؤمن يرى الحقيقة، أي لو أنك دخلت إلى محل تجاري، في أشهر أسواق المدينة، وفيه بيع وشراء للنساء، ولم يكن هذا المحل منضبطاً بضوابط الشريعة، فيه تفلت، فيه أشياء لا ترضي الله، وذهبت إلى محل آخر، المحل فيه تصليح مركبات، أما المعاملة طيبة ونظيفة، هذه العين على شبكية العين المحل الأول أجمل، أكثر أناقة، وأكثر جمالاً، وأكثر روعة، وأكثر نعومة، والمحل الثاني أخشن، لكن في الحقيقة المحل الأول طريق إلى النار، إلى المعصية والآثام، المحل الثاني فيه صدق وأمانة، أما المنظر لا يرضي العين، بحسب البصيرة العمل النظيف الصادق المخلص الأمين هذا طريق إلى الجنة، مثلاً إنسان يملك معمل بلوك فرضاً، وملهى، على الشبكية أيهما أجمل؟ الملهى، تزيينات، وديكورات، ولوحات فنية، وأرض، وفرش، أما المعمل الثاني العمل مشروع بإنشاء البيوت، وفيه صدق وأمانة واستقامة، فليس كل ما تُسرّ به العين يكون خيِّراً، وليس كل شيء يخدش العين يكون شراً، طبعاً مثل صارخ. 
القلب له بصيرة، والعين فيها بصر، فالإنسان الشارد عن الله يعيش في ظواهر الأشياء، يعيش في سطوحها الخارجية، مثلاً مثل آخر؛ أب توفي ترك ثروة ضخمة، أحد أولاده الخبثاء استولى على الثروة كلها، وأنشأ بيتاً فخماً جداً، واسعاً، مُزَيَّناً، فرشه بأرقى الأثاث، جعل فيه أبهاء، وأجنحة، على الشبكية البيت جميل جداً، أما بنور البصيرة هذا فيه اغتصاب، فيه عدوان، ترك إخوته جميعاً بلا مأوى، وبلا دخل، جعلهم يتضورون جوعاً، هو تَنعَّم وحده بهذا البيت الفخم، وحرم إخوته، فالبيت من حيث الشكل، والموقع، والتزيينات، والأثاث مريح جداً، لكن من حيث أن صاحبه أكل المال الحرام، وحرم إخوته، وكان سبب شقائهم، هذا البيت بعين البصيرة قطعة من النار. 
 

أخطر شيء تأثر الإنسان بظواهر الأشياء:


مرة دخلت إلى مزرعة، علمت أن صاحبها دخله ليس حلالاً، والله شعرت كأن هذه الأشجار تشتعل بالنار، فالبطولة أن يكون دخلك حلالاً، وأن تكون مطيعاً لله، وأن يكون مصيرك إلى الجنة، وأن تستحق وعد الله عز وجل، أخطر شيء حينما يتأثر الإنسان بظواهر الأشياء، الله عز وجل قال:

﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾

[ سورة الروم ]

﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لو طالب شرد من المدرسة، وذهب إلى الملاهي، والحانات، ودور السينما، وصحب رفقاء السوء، بحسب العين هو يستمتع بالطعام والشراب والنوم والضحك، أما هذا الطالب النظامي، الذي يلتزم الدوام، ويقعد على مقعد الدرس، ويدرس، ويؤدي الواجبات، ويسهر إلى ساعة متأخرة من الليل، هذا سيصبح إنساناً محترماً جداً في المجتمع، فدائماً العين تغش، إياك أن تعتمد على البصر، اعتمد على البصيرة، والإنسان كلما هبط مستواه يعتمد على البصر، وكلما علا مستواه يعتمد على البصيرة، لذلك أخطر شيء في تربية الأولاد أن الطفل يتعامل مع الصور، فإذا أريته إنساناً له زي ديني في حالة لا ترضي يكره الدين، وإذا أريته إنساناً منحرفاً في دينه لكن بحالة ترضي يحب التفلت، لذلك أخطر شيء حينما تربي الطفل من خلال الصورة، وهذه فرية جاءتنا من الغرب، أي بدل أن تُلقي عليه كلاماً أعرض عليه صورة، فالصورة مُرَّغِبَة، وتجعلك تعيش بظواهر الأشياء لا بحقائقها. 
 

مرتبة البصيرة في الإسلام:


أيها الإخوة؛ البصيرة مرتبة في الإسلام عالية جداً، تعيش مع الحقيقة، تعيش مع بواطن الأمور، تعيش مع مؤدى الأمر، لو أن إنساناً يسرق، ويدخل البيوت، ويجمع الأموال، ويسهر في الحانات، لكن مصير هذا الإنسان إلى الخزي والعار والسجن، إذاً لا تغتر بتفلته، وانغماسه في الملذات، ولَعِبه بالأموال، يجب أن ترى مصيره، والإنسان المؤمن يبحث دائماً عن العاقبة، الله عز وجل قال: 

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

[ سورة القصص ]

 

تعريف البصيرة:


قال: إذا صحَّت فكرة الإنسان قادته إلى البصيرة، والبصيرة في التعريف الدقيق نور في القلب، يُبصر به الوعد والوعيد، والجنة والنار، وما أعَدَّ الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم، مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، ووُضِع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصِب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعـت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكَثُر العطاش، وقلّ الوارد، ونُصِب الجسر للعبور، ولزّ الناس إليه، وقُسِمت الأنوار دون ظلمة العبور، والنار يَحطِم بعضها بعضاً تحته، والمتساقطون فيها أضعافُ أضعاف الناجين.
انظر إلى المستقبل، إلى المصير، المؤمن ببصيرته كل تصرف يفعله يتصور وقد وقف بين يدي الله عز وجل، ليجيب عن سؤاله، الكافر يعيش لحظته بعينه، المؤمن يعيش المصير ببصيرته، شيء دقيق جداً، الدنيا محسوسة، الآخرة خبر، آيات في القرآن، أمامك امرأة، أمامك مركبة، أمامك بيت، أمامك طعام نفيس، الدنيا بشهواتها محسوسة، أما الآخرة أخبرك الله عنها فقط، لا ترى منها شيئاً، فإذا الإنسان بنور البصيرة يرى المصير، يرى العاقبة، لذلك الشيء الذي يرقى بالإنسان عند الله أنه لا يتعامل مع بصره، بل مع بصيرته، الشارد عن الله يعيش لحظته، يعيش وقته، أينما وجد مغنماً اقتنصه، أينما وجد شهوة مارسها، أينما وجد متعة مارسها، وينسى ما وراء ذلك، وهذا مرض العصر، الناس يعيشون لحظتهم، يعيشون واقعهم، يعيشون وقتهم، ولا يفكرون في المصير، هل هناك إنسان يستطيع أن يتفلت من الموت؟ ماذا بعد الموت؟ ترى إنساناً منهمكاً في الدنيا إلى قمة رأسه، يُشيد بيتاً فخماً، المسبح، الحديقة، الأبهاء، حسناً هل تستطيع أن تبقى في هذا البيت إلى أبد الآبدين؟ لابدّ من مغادرته إلى القبر، ماذا في القبر؟ أكثر شيء في هذا الدرس أحبّ أن أُعَلّق عليه الأهمية، تحرك لا وفق البصر بل وفق البصيرة، لا وفق ظواهر الأشياء بل وفق بواطنها، فالبصيرة -كما قلت قبل قليل-نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي العين، رجل عَرَض عليك عملاً بالدنيا، فيه مخالفة للنظام، الواعي، العاقل، العميق يرى أنه هو هذا العمل فعله، ثم ضُبِطت هذه المخالفة، ثم اقتيد إلى السجن، ومكث فيه عشر سنوات، فلا يقبل هذا العمل، رفضه ببصيرته، قد يكون فيه إغراء كبير، ربح فاحش، هو يرى المصير، فالإنسان إذا أراد إنفاذ أمرٍ عليه أن يتدبر عاقبته. 
 

درجات البصيرة:

 

1-البصيرة في الأسماء:

الآن العلماء قالوا: البصيرة على ثلاث درجات، من استكملها فقد استكمل البصيرة؛ بصيرة في الأسماء والصفات، وبصيرة في الأمر والنهي، وبصيرة في الوعد والوعيد، فالبصيرة في الأسماء ألا يتأثر إيمانك بشبهة تُعَارض ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فقلبك يشهد أن الله سبحانه وتعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم، علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمْر الممالك تحته بتدبيره، نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكه بين يديه، تُنفّذ أوامره في أقطار الممالك، موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، مُنزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، فهو كما وصف نفسه في كتابه، وفوق ما يصفه به خلقه، حيّ لا يموت، قيّوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصير يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميع يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً، هذه رؤية القلب.
المؤمن الصادق بنور البصيرة الذي يقذفه الله في قلبه يرى أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، يراه مستوياً على عرشه، بيده مقاليد السماوات والأرض، إليه يُرجع الأمر كله، يده فوق أيدي خلقه، أمره نافذ في خلقه، خلق كل شيء فقدره تقديراً، هذه رؤية لا تقدر بثمن، هذه الرؤية تجعلك تسمو، تجعلك تبقى على منهج الله المستقيم، تمّت كلماته صدقاً وعدلاً، وجلَّت صفاته أن تُقاس بصفات خلقه شَبَهاً ومثلاً، تعالت ذاته أن تُشبه شيئاً من الذوات أصلاً، وسعت الخليقة أفعاله عدلاً وحكمة ورحمة، وإحساناً وفضلاً، له الخلق والأمر، وله النعمة والفضل، وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد، أول ليس قبله شيء، وآخِرٌ ليس بعده شيء، ظاهرٌ ليس فوقه شيء، باطن ليس دونه شيء، أسماؤه كلّها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد، لهذا كانت حُسْناً، وصفاته كلّها صفات كمال، ونُعُوته كلها نُعُوت جلال، أفعاله كلها حكمة ورحمة، ومصلحة وعدل، كل شيء من مخلوقاته دال عليه، مُرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه. 
 

الفرق بين المؤمن والإنسان الشارد عن الله:


أخ كريم يرتاد المساجد، يصلي، يدعو، يصوم، يحج بيت الله الحرام، ينفق ماله، يطلب العلم، يدعو إلى الله، يصلي الليل، يذكر الله كثيراً، ينفق ماله، يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، مع عمر مديد، في هذا الجهاد العظيم تكون له هذه الرؤية، يوجد بقلبه نور، إنسان متميز.
من باب المفارقات، وازن بين قطعة من اللحم المتفسخ، أحياناً لها رائحة لا تستطيع أن تحتملها ولا دقيقة، تكاد تخرج من جلدك حينما تشمّ رائحتها، وقطعة من اللحم الطازج المشوي وأنت جائع، هذه قطعة لحم، وهذه قطعة لحم، وشتان بين القطعتين، وهذا إنسان شارد، تائه، أعمى، أحمق، أرعن، قذر، منحط، دنيء، وصولي، خائن، وهذا مؤمن، صادق، أمين، وفي، محب، عفيف، يرى حقائق الأشياء، أي العمر المديد في طاعة الله يورث هذه الرؤية.
نتابع هذه الرؤية، كل شيء من مخلوقاته دالّ عليه، ومُرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولا ترك الإنسان سدىً عاطلاً، كم إنسان يعتقد أن هذه الحياة لا يوجد غيرها؟! هنالك أقوياء يملكون كل شيء، وهناك ضعفاء يُسحقون كل يوم، ويوجد أغنياء يكادون يموتون من التّخمة، ويوجد فقراء يكادون يموتون من الجوع، ويوجد إنسان أوتي من حظوظ الدنيا الشيء الكثير، وإنسان حُرِم الدنيا كلها، هذا الذي يعتقد أن تنتهي الحياة هكذا ولا شيء بعد الموت، هذا عبث، هذا العبث لا يليق بكمال الله ولا بجلاله:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[ سورة المؤمنون ]

أي هل من المعقول أن المستقيم كالمنحرف؟ المحسن كالمسيء؟ الصادق كالكاذب؟ يستويان عند الله؟ أن يستويا عند الله هذا يتناقض مع وجود الله. 
 

المؤمن صاحب رؤية:


المؤمن صاحب رؤية، يرى المصير، أقرب تقدير مؤمن يرى شاباً مستقيماً، لا يملك شيئاً، لا درهم، ولا دينار، ولا بيت، ولا حرفة، ولا دخل، يقول بنور البصيرة: هذا الشاب المُعْدَم الذي ليس أمامه شيء سوف يوفقه الله عز وجل، سوف يوفقه في الدنيا والآخرة، وقد يرى إنساناً مُرابياً خبيثاً منحرفاً زانياً، يقول: هذا سوف يُدمّر، بالعين المرابي قوي، غني، يملك، يتصرف، والشاب المؤمن ضعيف، فقير، بعين البصيرة العاقبة لهذا الشاب، وبعين البصيرة الهلاك ينتظر هذا المنحرف، بعين البصر هذا يمشي في طريق مسدود، وهذا يمشي في طريق كله ورود، بحسب العين، لذلك لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولا ترك الإنسان سدىً عاطلاً، بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته، تعرّف إلى عباده بأنواع التعريفات، وفرّق لهم الآيات، ونوّع لهم الدلالات، ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب، ومدّ بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب، فأتمّ عليهم نعمه السابغة، وأقام عليهم حجته البالغة، أفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب الذي كتبه، قوله تعالى:  

﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)﴾

[ سورة الأعراف ]

وتفاوت الناس بهذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشُّبَه المخالفة لحقائقها. 
 

أثمن شيء في الإيمان أن يقذف الله في قلبك نوراً ترى به حقيقة الذات الإلهية:


أيها الإخوة؛ هذا أثمن شيء بالإيمان، أن يرى قلبك هذه الرؤية، أن يقذف الله في قلبك نوراً ترى به حقيقة الذات الإلهية، تراها معك، قال تعالى: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد ]

تراها مالكة، متصرفة، إليها يُرجع الأمر كله، علاقتك مع الله، حياة المؤمن، أسباب سعادته علاقته مع الله، أي مستحيل أن يجتمع الحزن مع الإيمان بالله، الله موجود، غني، قوي، سميع، مجيب، مُحب، لمَ الحزن؟ لمَ الخوف؟ لمَ القلق؟ فمن كان في قلبه هذه البصيرة عاش حياة سعيدة، واثقاً بالله، واثقاً بنصر الله، واثقاً برحمة الله، واثقاً بتوفيق الله، واثقاً بعدالة الله، همه أن يُطبّق أمر الله، همّه أن يكون على منهج الله المستقيم، وصراطه القويم، هذا همّه.
لو كان الإنسان شارداً الحياة موحشة، كما قلت قبل قليل: يوجد قوي، ويوجد ضعيف، هو ضائع بينهما، إن انحاز إلى هؤلاء خسر هؤلاء، انحاز إلى هؤلاء خسر هؤلاء، قال تعالى: 

﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾

[ سورة النساء ]

حياة الشرود عن الله حياة موحشة مخيفة. 
 

البصيرة محصلة التفكر القويم:


محصلة التفكّر القويم البصيرة، البصيرة نور يقذفه الله في قلبك يريك به حقائق الأشياء، يريك به حقيقة الذات الإلهية،والدليل قوي جداً، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾

[ سورة الحديد  ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾

[ سورة الأنفال ]

 

القضية بين الناس قضية رؤية:


إخواننا الكرام؛ قضية رؤية، القضية بين الناس قضية رؤية، هل آتيكم بمثل صارخ؟ سيدنا يوسف، امرأة، زوجة ملك، طبعاً الملوك يختارون أجمل النساء، زوجة ملك، امرأة العزيز، دعته، وهي سيدته، وهو بعيد عن أهله، شاب في ريعان الشباب، غير متزوج، غريب، تلقى أمراً منها، ليس من صالحها أن يعلم بهذا أحد، ماذا رأى؟ رأى أن هذا العمل يُبعده عن الله، رأى أن هذا العمل يجعله في أسفل سافلين، فقال: 

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف ]

هذا الذي يتربّع على أعلى منصب في العالم الآن، وقع في المطب نفسه، ماذا فعل؟ سقط، فصار مضغة الأفواه، أنا ما سمعت عن إنسان بلغ من الذّل والإهانة من قبل شعبه ما بلغ هذا الإنسان بسبب انحرافه، الشهوة نفسها، ماذا رأى؟ رآها مغنماً، ماذا رأى يوسف؟ رآها مغرماً، هذه البطولة، إنسان يأكل مالاً حراماً يتوهم أنه شاطر، ذكي، كسب باحتيال شديد، ثم يُكشف أمره، ويُودع في السجن، وتصدر بحقه مذكرة توقيف، ويُفضح أمره، ويسقط من عين الناس جميعاً، كل بطولتك أن تملك البصيرة، كل بطولتك أن ترى الأشياء بحقائقها، بنتائجها، بعواقبها، بنهاياتها لا ببداياتها، اللهم ألهمنا هذه البصيرة.  

2-البصيرة في الأمر والنهي: 


قال: والمرتبة الثانية في البصيرة مرتبة في الأمر والنهي، فهذا المؤمن الذي أُلقيَ في قلبه نور، فرأى به الحق حقاً والباطل باطلاً، لا يتأثر لا بتقاليد، ولا بعادات، ولا بأهواء، الناس الآن عباد لصرعات الأزياء، امرأة مسلمة ترتدي ثياباً فاضحة، حجتها أنها هكذا رأت في كتب الأزياء، حسناً أين دينكِ؟ أين مرضاة ربكِ؟ أين سعيكِ إلى الجنة؟ أين التزامكِ بالإسلام؟ لا ترى، فالمؤمن يرى أن طاعة الله هي أثمن شيء، أما غير المؤمن يرى صرعات الأزياء، يرى العادات والتقاليد السائدة، غير المؤمن إمعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، وكل إنسان يقول لك: هكذا الناس، هكذا نشأنا، هكذا جميع الناس، كلهم على خطأ، هذا أعمى البصيرة، قال تعالى: 

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾

[ سورة الحج ]

فليس في حياة المؤمن تقليد أو هوى، ولا شبهة تحول بينه وبين طاعة الله، ولا شهوة تمنع تنفيذ أمر الله، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقّي الأحكام من مشكاة النصوص، هذه بصيرة الأمر والنهي، أي الأمر والنهي فوق كل شيء، أكثر كلام يقال: ماذا نفعل نحن مضطرون؟ أين المجاهدة؟ أين مجاهدة النفس والهوى؟ لأتفه سبب يقول لك: مضطرون، مضطرون، ليست هذه هي الضرورة، الضرورة التي ذكرها الفقهاء أن تخشى الهلاك أنت وأهلك ومن تعول، جوعاً وعُرياً وتشرداً، هذه الضرورات التي تبيح المحظورات، أما لأتفه سبب تأكل المال الحرام؟ لأتفه سبب تُداهن على حساب دينك؟ لأتفه سبب تنافق؟ 

3-البصيرة في الوعد والوعيد:

المرتبة الثالثة في البصيرة: البصيرة في الوعد والوعيد، الناس كلهم تقريباً متساوون، كل الناس لهم بيوت، لهم غرف نوم، غرف ضيوف، مطابخ، يأكلون ويشربون، صباحاً وظهراً ومساء، ويسهرون على هذه البرامج، ويلتقون، ويختلطون، ويملأ بعضهم عينه من محاسن النساء، والمؤمن بينهم ليس له أي ميزة، واحد من مجموع، لكن حينما يقوم الناس لرب العالمين يقال لهم: 

﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)﴾

[ سورة يس ]

قفوا هنا على اليسار، أصبح هناك فرز، الآن لا يوجد فرز، كالصف أثناء العام الدراسي، كل الطلاب سواء، متساوون، كلّهم يرتدي ثياباً موحدة، يأتي الساعة الثامنة، يخرج الساعة الواحدة، ست حصص، الحصة خمسون دقيقة، الفرصة عشر دقائق، الأستاذ مُوحّد، لكن عند الامتحان يُفرز الطلاب، ناجحون وراسبون، متفوقون وناجحون وراسبون، متى كان الفرز؟ عند الامتحان، فالمؤمن الصادق يرى مصائر الناس، يرى المرابي لابدّ من أن يهلك، يرى الزاني لابدّ من أن يهلك، يرى الذي يأكل المال الحرام لابدّ من أن يهلك، يرى الذي يعتدي على حقوق الناس لابدّ من أن ينتقم الله منه، يرى الذي ينحرف لابدّ من أن يدفع الثمن باهظاً، يرى النتائج، يكاد المؤمن يرى ما سيكون، لا عن علم بالغيب، مستحيل، ولكن عن علم بقوانين الله عز وجل. 
والله أخ حدثني عن إنسانة ظلمت أخاها ظلماً لا يُصدّق، جعلته شريداً هو وأولاده الكثر، واستولت على بيته لأنه باسمها وقد دفع نصف ثمنه، أخذت البيت من أخيها ظلماً وعدواناً وشردته، حدثني ابن أخيها عن فعل عمته مع أخيها، والله من باب المعرفة بقوانين الله عز وجل قلت: هذه ينتظرها هلاك كبير، والله ما مضى ثلاثون يوماً إلا وأصيبت بمرض عُضال، وبعد ثلاثين يوماً ثانية انتهى المرض بها إلى الموت، وعاد أخوها إلى البيت وارثاً لها وحيداً، إلى البيت الذي يملك نصفه، هذا ليس علم غيب، لكن علم بالقوانين، أي إذا أنت نظرت إلى مركبة تنطلق بسرعة كبيرة جداً في طريق نازلة، وهذا الطريق ينتهي بمنعطف حاد، وليس في هذه المركبة مكبح، هل من الصعب أن تتوقع الحادث؟ بالمئة مليون، هل أنت تعلم الغيب؟ لا، هذا ليس علم بالغيب، أعوذ بالله، هذا علم بالقوانين، مركبة تنطلق بسرعة مئة وعشرين بطريق هكذا، والمنعطف هكذا، وهنا يوجد وادٍ سحيق، مكبح لا يوجد، أخي أنت تعلم الغيب؟ لا، أنا أعلم القوانين، الحادث حتمي، فالمؤمن ببصيرته التي أكرمه الله بها، بهذا النور الذي أُلقي في قلبه يرى مصائر الناس، لا عن علم غيب، ولكن عن معرفة بقوانين الله عز وجل، وكم من مرة تتفاءل بمستقبل شاب مؤمن لا يملك من الدنيا شيئاً؟! لكن لأنه مستقيم، وتقرأ أنت قوله تعالى: 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

تقول: هذا ينتظره حياة طيبة، تعلم الغيب؟ لا، لا أعلم الغيب، ولكن أعلم قوانين الله عز وجل، قال تعالى: 

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

 

من يؤمن بعدالة الله ينضبط أشدّ الانضباط:


أيها الإخوة؛ أما البصيرة الثالثة، أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت، كل إنسان سيحاسب على عمله، كل إنسان سيدفع ثمن أخطائه، وكل إنسان سيقبض ثمن أعماله الصالحة بأعلى سعر، البصيرة التي تتعلق بالوعد والوعيد أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت، في الخير والشر، عاجلاً وآجلاً، في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك هو موجب ألهيته وموجب ربوبيته. 
والله أيها الإخوة؛ حينما نؤمن بعدالة الله، والله ننضبط أشدّ الانضباط، والله نضبط كلامنا من أن ننطق بكلمة، والله نضبط ابتساماتنا، والله الابتسامة تضبطها، أحياناً يوجد ابتسامة ساخرة تحاسب عليها، تضبط كل حركاتك وسكناتك، وكل أعضائك وحواسك، وكل دخلك وإنفاقك، تضبط بيتك وعملك، إذا آمنت بعدالة الله، وبأن الله قيوم السماوات والأرض، وأن الله سيحاسب كل إنسان حساباً دقيقاً، والله يوجد آيات لو تأملنا بها تأملاً حقيقياً لكفتنا. 
 

بحياة المؤمن لا يوجد مفاجأة أو دمار:


هذا الأعرابي الراعي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام: عظني ولا تطل؟ لا تطل عليّ، تلا عليه قوله تعالى: 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

قال: كفيت، فقال عليه الصلاة والسلام: فقه الرجل، صار فقيهاً، أنت إذا تحققت من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ*﴾ إذا تحققت من الآية فأنت فقيه، انتهى الأمر.
لا يوجد بحياة مؤمن مفاجأة، لا يوجد دمار، لا يوجد فضيحة، لا يوجد هلاك، لأنه على منهج الله، لأن كل أبواب الخطر أغلقها، كل الثغرات سدّها، كل المزالق ابتعد عنها، كل نقاط الضعف قوّاها، أضعف نقطة بحياة الإنسان المال والمرأة، المؤمن يغضّ بصره ويتحرّى دخله، صار ملكاً، يرفع الرأس دائماً.
فقال: البصيرة في الوعد والوعيد أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت، في الخير والشر، عاجلاً وآجلاً، في دار العمل، ودار الجزاء، أي إنسان يُمضي حياته في طاعة الله، الله عز وجل لحكمة بالغة، ولكرامة المؤمن عند الله يجعل موته مُلخّصاً لكل حياته، يموت وهو يصلي، وهو يقرأ القرآن، يموت في المسجد وهو صائم، وإنسان أمضى حياته في المعاصي والآثام، يموت وهو في المعصية، وهو يمارس المعصية يأتيه ملك الموت، ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ .
 

من شكّ في ألوهية الله وربوبيته وجبت له النار:


أن يقوم الله على كل نفسٍ بما كسبت في الدنيا والآخرة، في دار العمل ودار الجزاء، هذا موجب ألوهية الله عز وجل وربوبيته، لماذا هو إله ورب؟ لأنه سيكافئ المحسن ويعاقب المسيء، موجب ألوهيته وربوبيته وعدله وحكمته، فإنّ الشكّ في ذلك شكّ في ألوهية الله وربوبيته، إذا كان من الممكن أن تشك لثانية واحدة أنه يمكن للمحسن أن يضيع حقه والمسيء ينجو، تشكّ أنت بربوبية الله وبألوهيته، إذا كان من الممكن أن يأكل إنسان مالاً حراماً، وأن يتمتع فيه طيلة حياته، ويعيش ببحبوحة كبيرة، ثم يموت ويذهب إلى الجنة، ورجل استقام على أمر الله، هذا حرام، هذا حرام، أصبح وراء الناس فقيراً لا يملك شيئاً، إذا ممكن أن يكون هكذا والله أن تعتقد هكذا فهذا شك في ألوهية الله وربوبيته، مستحيل ومستحيل ومستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل ومستحيل ومستحيل أن تعصيه وتربح، مستحيل أن تطيعه وتذل، مستحيل أن تعصيه وتعز، أبداً، سبحانك إنه لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، مادياً ومعنوياً، مستحيل أن تطيعه وأن تخسر الدنيا وأن تُذلّ فيها، ومستحيل أن تعصيه وأن تربح الدنيا وأن تُعزّ فيها.
قال: الشك في ذلك شك في ألوهية الله وربوبيته، قال: بل شك في وجوده، لمجرد أن تعتقد أن القوي الظالم يربح، والضعيف المظلوم يخسر، الآن تعمقنا، ليس هذا شكاً في ألوهيته وربوبيته بل شكّ في وجوده. 

  الله موجود وينتقم من الظالم:


والله قلت أنا-قبل أشهر كنت مسافراً في بلد بعيد-قلت: قوة كبيرة في العالم غاشمة ظالمة تقوم على أنقاض الشعوب، أن تنجح في تخطيطها إلى ما لا نهاية، وأن تفعل ما تريد إلى ما لا نهاية، وأن تقوم على أنقاض الشعوب إلى ما لا نهاية، والله هذا يتناقض مع وجود الله، قلت: مع وجوده، لا مع عدالته فحسب، بل مع وجوده، الله موجود، هو الحق، هو الذي ينتقم من الظالم، قال تعالى: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)﴾

[ سورة آل عمران ]

شعوب تُقتّل كل يوم، ليس لها من ذنب أبداً، إلا الجبروت الغربي، الجبروت والقهر والسيطرة على العالم، قال تعالى: 

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[ سورة آل عمران ]

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا، أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ. ))

[ صحيح البخاري ]

 

سنة الله في خلقه:


بل شكّ في وجوده فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ولا يليق أن يُنسب إليه تعطيل الخليقة، وإرسالها هملاً، أي إذا كان الخليقة لم يرسل لها نظاماً عطّلها، أنت كأب ابنك أمامك، والمدفأة أمامه، وهو إدراكه ضعيف، ويسير باتجاه المدفأة، هل تبقى ساكتاً وأنت أب؟ هذا مستحيل، ألا توجه ابنك؟ ألا تعطيه تعليمات؟ نصائح؟ مستحيل، فإذا الله عز وجل ترك الله عز وجل عباده من دون رسل، من دون أنبياء، من دون دعوات، من دون هدى، من دون دعاة، من دون كتاب، يكون قد أهملهم، وإذا كان لم يحاسب الناس فقد خلقهم سدى دون سبب.
موظفان بمحل تجاري، أحدهما يسرق المحل والثاني أمين، هل يستويان عند صاحب العمل؟ غير معقول، هذا إنسان غير إداري، الذي سرق مُقرب لك والذي كان عفيفاً مُبعد عنك؟! قال: ولا يليق أن يُنسب إليه تعطيل الخليقة، وإرسالها هملاً، وتركها سدى، وتعالى الله عن هذا الحسبان علواً كبيراً، تعالى الله، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة.
أب هل من المعقول أن يترك أولاده يعتدي بعضهم على بعض وهو ينظر إليهم؟ تصور أنت أمماً، وشعوباً، وغزواً، وحروباً، وقهراً، وذلاً، ونهب ثروات، الله عز وجل معنا في الأرض، ينظر إلينا فقط، لا يتدخل؟ هذا الكلام مستحيل، هذا الكلام يتنافى مع كماله أساساً، أبداً، بحكمة بالغة، وعلم بالغ، وقدرة بالغة، لكن الله له حكمة، يُقوّي هؤلاء، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾

[ سورة القصص ]

هذه سنة الله في خلقه، الذي يؤمن به وقد قصّر في طاعته يُسلط عليه من لا يعرفه ليتوب، فإذا تاب قوّاه عليه، هذه سياسة الله عز وجل، يُسلط الذي لا يعرفه على من عرفه وقصّر في طاعته، ودائماً وأبداً هذه سنة الله في خلقه، فتعالى الله عن هذا الحسبان علواً كبيراً. 
 

شهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية:


قال: شهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية، كيف أنك تؤمن أنه لا إله إلا الله، يجب أن تؤمن أنه لابدّ من أن يحاسب العباد، إذا كان لابدّ من المحاسبة من هو العاقل المستقيم؟ إذا كان لابدّ من أن تُحاسَب، من هو الفالح؟ المنضبط، شهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية، لذلك المعاد معلوم بالعقل، كيف؟ كلام دقيق، الإيمان بالآخرة إيمان إخباري، الله أخبرنا أن هناك آخرة وجنة وناراً، لكن بعض العلماء يقولون: الإيمان بالآخرة ممكن أن يكون إيماناً عقلياً، الفكرة دقيقة، كيف؟ هذا الكون فيه إعجاز، فيه كمال مطلق في الخلق، فيه حكمة بالغة، فيه علم عظيم، فيه قدرة بالغة، فيه لطف، فيه جمال، فيه رحمة، معنى هذا الكلام أن خالق الكون رحيم، جميل، لطيف، قوي، غني، هذه كلها صفات كمال، هل يتناسب مع هذه الصفات أن يدع خلقه سدى من دون محاسبة؟ لا يتناسب معها، هل يتناسب مع صفات الكمال ألا يحاسب عباده؟ أن يدعهم هملاً؟ أن يدعهم يأكل قويهم ضعيفهم؟ أنت أب وعندك خمسة أولاد، قام أحد أولادك وضرب أخاه ضرباً مبرحاً، وأنت تنظر إليهم، ولا تتكلم أي كلمة؟ ولا تتدخل؟ ولا تحاسب؟ معنى هذا أنك لست أباً، فإذا فهم الإنسان أن الأمور تجري هكذا، والأقوى ينتصر، يقول لك: تنازع البقاء، الآن نحن في مجتمع بالتجارة مجتمع الحيتان، الحوت الأكبر يأكل الأصغر، العالم كله هكذا، شركات عالمية تتحد وتحتكر على حساب الشركات الضعيفة، العالم يتحرك كأنه لا يوجد إله، الأقوى يأكل الأضعف، والأغنى يستغل الفقير. 
قال: شهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية، لهذا المعاد معلوم بالعقل، أما تفاصيله بالوحي، أن هنالك جنة وناراً، والجنة فيها حور عين، ويوجد جنات تجري من تحتها الأنهار، وهناك أنهار من اللبن الذي لم يتغير طعمه، ويوجد أنهار من العسل المصفى، ويوجد رضوان من الله، ويوجد جهنم، ويوجد زبانية جهنم، ويوجد كلما نضجت جلودهم أبدلناهم جلوداً غيرها، هذه التفاصيل عُلِمت بالوحي، أما بالمنطق، بالعقل لابد من يوم آخر، تُسوى فيه الحسابات. 
 

من أنكر يوم القيامة أنكر عدالة الله:


أعجبني مرة من أحد الخطباء مثل أنا أرويه عنه، أن أناساً دخلوا مسرحية، في المسرح رُفِع الستار، تحرك الأبطال، أحد الأبطال قتل البطل، ثم أسدل الستار، لا أحد يقوم، أرخوا الستار؟ لم تنته المسرحية؟ نريد أن نرى ماذا سيحدث مع القاتل؟ قد تكون المسرحية خمسة فصول، أول فصل لم ينتهِ، الأمر لم ينته بعاقبة مريحة، متى تنتهي القصة؟ تنتهي بنهاية مريحة للقارئ، أن المعتدي نال جزاءه، والمخلص نال جزاءه، تنتهي القصة، أما المعتدي فاز والمعتدى عليه خسر والقصة انتهت؟! هذه ليست قصة، لا تتناسب، فالعقل يؤمن لابد من يوم جزاء، أما التفاصيل تأتي بالوحي، لهذا يجعل الله سبحانه إنكار المعاد كفراً به سبحانه وتعالى، إذا أنكرت يوم القيامة أنكرت عدالته، إذا أنكرت يوم القيامة أنكرت أسماءه الحسنى، لأنه إنكار لقدرته ولألوهيته، وكلاهما مستلزم الكفر به، قال تعالى دقق الآن: 

﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)﴾

[ سورة الرعد ]

لمجرد أن تكفر بعدالة الله فهذا كفر بالله، أنك أنت نسبت له الظلم وهو ليس كذلك. 
 

علة إعادة الخلق الجزاء والعدل المطلق:


أيها الإخوة؛ للموضوع تتمة إن شاء الله في درس قادم، لكن أجمل ما في هذا الدرس أنه إذا أنكرت عدالته فهذا كفر به، وعدالته قائمة، ولكن أسماءه الحسنى كلها مُحققة في الدنيا، أما اسم العدل فمحقق في الآخرة، قال تعالى: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)﴾

[ سورة يونس ]

علة إعادة الخلق الجزاء والعدل المطلق.

﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)﴾

[ سورة الجاثية ]

فلذلك: 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران ]

هنالك دفعات على الحساب بالدنيا، للمحسن دفعات على الحساب، وللمسيء دفعات على الحساب، والخير للأمام، أما الرصيد فيوم القيامة، للمؤمن يوجد دفعات على الحساب، وللكافر يوجد ضربات على الحساب، أما الرصيد رصيد الدفعات والضربات فيوم القيامة، وهذا هو الإيمان بالله عز وجل. 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور