وضع داكن
12-07-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 057 - الذوق - 2 ما أعده الله للمؤمنين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الفرق بين حلاوة الإيمان وحقائق الإيمان:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع والخمسين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ولا زلنا في منزلة الذوق، وقد بينت لكم في الدرس السابق أن حقائق الإيمان شيء، وأن حلاوة الإيمان شـيء آخر، حقائق الإيمان كخارطة لقصر مُنيف على ورق، أما حلاوة الإيمان أن تسكن القصر نفسه، وشتان بين ورق عليه صورة قصر وبين قصر تسكنه وتستمتع به، وذكرت لكم أيضاً أن الذي يشدّ الإنسان إلى الدين ليست حقائق الدين الناصعة الواضحة فحسب، بل حلاوة الإيمان التي جاءت هنا مُعبَّراً عنها بكلمة الذوق، الإيمان فكرة تستوعبها وطعم تذوقه، إن ذُقت طعم الإيمان أصبحت إنساناً آخر، بذلت الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وكانت راحتك في التعب، وسعادتك في بذل الجهد، وقمة نشوتك في القرب من الله عز وجل، لأنك ذقت حلاوة الإيمان،

(( عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً. ))

[ صحيح مسلم ]

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. ))

[ صحيح البخاري ]

وبينت عند التعارض ((وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
 

قمة الذوق في الدار الآخرة:


لا زلنا في مرتبة الذوق، ولكن قمة الذوق في الدار الآخرة، في الدنيا يذيقنا الله حلاوة الإيمان تشجيعاً، في الدنيا يسمح الله لنا بنفحة من عنده فتُحركنا، في الدنيا نحن بين القبض والبسط، ما لك يا حنظلة تبكي؟ قال: نافق حنظلة،

(( عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية : كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))

[ صحيح مسلم  ]

ساعة فيها نشوة، وفيها قُرب، وساعة فيها فتور، ويتفاوت المؤمنون في عدد ساعات القرب إلى عدد ساعات الفتور، ساعة قرب ومئة ساعة فتور، مرتبة متدنية، خمسون ساعة قرب وخمسون ساعة فتور، كل ساعة تلو ساعة، تسعون ساعة قرب، عشر ساعات فتور، أما مئة بالمئة الأنبياء وحدهم، المؤمنون ساعة وساعة يتفاوتون في عدد ساعات القرب إلى عدد ساعات الفتور، وإياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تتوهموا أنه في ساعة الفتور تقع المخالفة، لا، دائماً وأبداً في طاعة الله، ولكن بين تألق وبين فتور، بين اتّقاد وبين خمول، بين إقبال وبين قعود، لا بين طاعة ومعصية، لا، إذا كان بين طاعة ومعصية ليس هذا حال أهل الإيمان.
 

ما أعدّه الله للمؤمنين في الجنة:


أما قمة هذا الذوق في الجنة، في الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار:

﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)﴾

[ سورة محمد ]

﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)﴾

[  سورة الطور ]

﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)﴾

[ سورة الصافات ]

قطوف هذه الأشجار دانية، قال تعالى:

﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)﴾

[ سورة الحاقة ]

﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)﴾

[ سورة الإنسان ]

إلى أبد الآبدين، قمة الذوق في الجنة، ذوق مستمر، ذوق متنامٍ، قال تعالى:

﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)﴾

[ سورة الحجر ]

هل تعتقدون أيها الإخوة أن فوق هذا الذوق ذوق؟ نعم، أنا أجيب عنكم، نعم وألف نعم، أعلى من الجنات التي تجري من تحتهـا الأنهار، وأعلى من الحور العين، ومن الولدان المخلدين، ومن قطوف الجنة الدانية، أعلى من ذلك النظر إلى وجه الله الكريم، قال تعالى:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

[ سورة القيامة ]

 

أكبر شيء في الجنة أن يُشعرك الله أنه راض عنك:


سؤال ثانٍ؛ ورد في بعض النصوص الصحيحة أن المؤمن يرى وجه ربه الكريم في الجنة كما يرى القمر ليلة البدر، وفي بعض النصوص أنه يغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة، هل بعد هذا الذوق من ذوق؟ الجواب: نعم، ماذا بعد النظر إلى وجه الله الكريم؟ قال تعالى:

﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾

[ سورة يونس ]

الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، لو دخلت إلى بيت، وكان صاحب البيت على درجة من التألق والجمال يفوق حدّ الوصف، هيبة، وقار، نور، جسم جميل، وجه منير، حركات متألقة، أنت ذُهلت بهذا الجمال وهذه النورانية، لكنه لم ينظر إليك، ولم يعبأ بك، ولم يلتفت إليك، أنت مستغرق في كماله، وجماله، ونورانيته، وهو منصرف عنك، ألا تتألم؟ ها أنت تنظر إلى وجهه، وتستمتع بتألقه، وتكتشف نورانيته، ولكنه لا يلتفت إليك، فوق هذه المرتبة، دققوا الآن:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾

[ سورة التوبة ]

أكبر شيء في الجنة أن يُشعرك الله أنه راض عنك، وأنه يحبك، وأنك أثير عنده، فصار هناك جنات تجري من تحتها الأنهار، نظر إلى وجه الله الكريم، رضوان من الله أكبر، هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وهذا النظر إلى وجه الله الكريم، وهذا الرضوان العظيم نُضحي به كله من أجل سنوات معدودات في الدنيا مشحونة بالمتاعب، والخوف، والقلق، والمرض، وما إلى ذلك، أليس هذا هو الخسران المبين أن يبيع الإنسان آخرته بدنياه؟ أن يبيع جنةً عرضها السماوات والأرض، أُكُلها دائم وظلّها إلى أبد الآبدين، بسنوات معدودة لا تصفو لإنسان، إن جاء المال فقد الولد الصالح، وإن جاء الولد الصالح فقد المال، وإن جاء المال والولد الصالح لم تكن زوجته كما يتمنى، وإن كانت زوجته كما يتمنى يشكو من بعض الأمراض، وإن كان صحيح البدن هناك مشكلة في عمله، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، أيعقل أن نضيع هذه الآخرة ويقيننا بحصولها يقين قطعي بسنوات معدودات؟
 

من قطعه عن الجنة أمل في الدنيا فقد فاز بالحرمان:


قال: من قطعه عن هذه الجنة أمل في الدنيا فقد فاز بالحرمان، ورضي لنفسه بغاية الخسران، والله المستعان، وعليه التكلان، وما شاء الله كان، ومن عاقته أمنية، وهي ما يتمناه العبد من الحظوظ، من عاقه أمل، أو عاقته أمنية، الأمل ممكن، الأمنية غير ممكنة:

ألا ليت الشباب يعود يوماً          فأخبره بما فعل المشيب

[ أبو القاسم الشابي ]

* * *

 أمنية، لن تكون هذه الأمنية، من عاقه أمل أو عاقته أمنية، فقد فاز بالحرمان، ورضي لنفسه بالخسران.
الأماني الباطلة رؤوس أموال المفاليس، المفلس رأس ماله الأماني، يتمنى، بها يقطعون أوقاتهم، وبها يتلذذون كتلذذ من زال عقله بالمُسْكِر، أو بالخيالات الباطلة، وفي الحديث المرفوع،

(( عنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ. ))

[ أخرجه الترمذي في سننه ]

وقال بعض العلماء: ولا يرضى بالأماني عن الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة.
 

من يأنس بالله حالاً يزداد انطلاقاً:


أيها الإخوة الكرام؛ ثم يذوق العبد بالإرادة طعم الأنس، والإرادة وصف للمريد، فالعبد يعتقد بأحقية وعد الله فينطلق، هناك مرتبة أعلى، أنت حينما تعتقد بأحقية وعد الله تنطلق، أما حينما تأنس بالله حالاً تزداد انطلاقاً، شخص وُعِد أن يدخل بيتاً جميلاً، هو يسعى، أما إذا دخل هذا البيت يسعى سعياً حثيثاً للبقاء فيه، تضاعفت همته، قال: الأنس به سبحانه وتعالى أعلى بما يرجوه العابد من نعيم الجنة، أي يوجد جنة نسعى إليها، ويوجد جنة في الدنيا نعيشها، الجنة التي نسعى إليها جنة الآخرة، أما الجنة التي نعيشها جنة القرب في الدنيا، ومن لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة، هناك جنة وَعَدنا الله بها وجنة ينبغي أن نعيشها، لأن الجنة التي وُعِدنا بها أجمل ما فيها الاتصال بالله، وبإمكانك في الدنيا أن تتصل بالله، لهذا بعضهم يُوجه قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: أبو بكر في الجنة، أي هو الآن في الجنة، في جنة القرب، جنة القرب في الدنيا، في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هناك آية تؤكد هذا:

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾

[ سورة محمد ]

أي أذاقهم بعضها، أذاقهم نموذجاً منها في الدنيا، ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ .
الأنس بالله مقام من مقامات أهل القرب، هو على التحقيق مقام الإحسان، هناك مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان، الإسلام أن تنصاع للواحد الديان، والإيمان أن تُقبل على الله، والإحسان أن تعبده كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
 

في الحياة حقيقة هامة هي السعي إلى مرضاة الله عز وجل:


قال بعض العارفين: كل ما سوى الله عارض، شيء طارئ، جاءت موجة حر مدة يومين وانتهت، سحابة صيف عارضة، سخونة انتهت، أما الشيء القائم الدائم هو المعول عليه، فقالوا: الله عز وجل هو الحي الباقي على الدوام، ما سوى الله عارض، من أراد سوى الله وقع في العارض، ولم يهتم بالجوهر، في الحياة حقيقة ليس بعدها حقيقة ولا قبلها حقيقة ولا فوقها حقيقة، أن تسعى إلى مرضاة الله عز وجل.
الآن كل شيء يُقرِّبك إلى الله أمر به النبي، وكل شيء يُبعدك عن الله نهاك النبي عنه، المؤمن همه الأوحد أن يتقرب إلى الله، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.

من معاني اسم الله الودود:

 

1- الودود يتودد إلى عباده بالإكرام: 

ذكرت اليوم في درس عَقِب صلاة الظهر عن اسم الله الودود، أن الودود هو الذي يُكرم عباده متودداً لهم:

﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)﴾

[ سورة البروج ]

أكرمك بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، منحك عقلاً، منحك جسماً:

﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾

[ سورة الانفطار ]

خلقك في أحسن تقويم، أكرمك بمأوى، خلق لك الطعام والشراب، خلق لك سائر المخلوقات، سخر لك ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، منحك نعمة الزوجة، نعمة الولد، حدث ولا حرج، كل شيء تتنعم به هو تودد الله إليك، هذا معنى. 

2- الودود خلََق بين عباده علاقات الود:

المعنى الثاني: خلق بين عباده ودّاً، هناك ودّ بين المؤمنين، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾

[ سورة مريم ]

الود بين المؤمنين من خلق الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾

[ سورة الأنفال ]

الود بين الزوجين، الود بين الأم وأولادها، الود بين الأولاد والأم، الود بين الأولاد والأب، الود بين الإخوة، الود بين الجيران، هذا الود من خلق الله عز وجل، أما المعنى الثالث مهم وخطير. 

3- الودود خلق لك إليه ألف طريق كي تتودد إليه ليكرمك بعد ذلك:

المعنى الثالث: لأنه خلقك ليسعدك، خلق لك ألف طريق وطريق إليه، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، رجل قوي ملك لا تسـتطيع أن تصل إليه، لا أن تقابله ولا أن تزوره، ولا أن تقدم له هديةً، ولا أن تتصل به هاتفياً، لا تستطيع، لا يوجد طرق سالكة له، لكن الله عز وجل خلق لك ألف طريق وطريق إليه، وأنت في بيتك هناك عشرات الطرق إليه، أن تكون زوجاً صالحاً، أباً رؤوفاً، أن تكون ابناً باراً، أن تكدَّ وتسعى من أجل أن تربي أولادك، في عملك لك ألف طريق إلى الله، أن تنصح المسلمين، أن تُكرمهم، أن تخفف عنهم، أن تنصحهم، في الطريق لك ألف طريق إلى الله عز وجل، فالودود يتودد إلى عباده بالإكرام، والودود خلق بين عباده علاقات الود، والودود خلق لك إليه ألف طريق كي تتودد إليه، كي يكرمك بعد ذلك.
 

الأشياء الثلاث التي تقوِّي حالة الأنس بالله التي هي من مقامات الإحسان:


أيها الإخوة الكرام؛ الأنس بالله حالة من حالات مقامات الإحسـان، قال: هذا الحال حالة الأنس بالله التي هي من مقامات الإحسان تقويها ثلاثة أشياء: دوام الذكر:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾

[ سورة الأحزاب ]

وصدق المحبة، ودليل صدق المحبة اتّباع سنة النبي لقول الله عز وجل:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]

ربنا عز وجل ما قَبِل من أحد من عباده دعوى محبته إلا بالدليل، فالذي يُقوّي حالة الأنس بالله التي هي فرع من حالة الذوق، الذوق منزلة من منازل السالكين إلى الله عز وجل، ويُقوّي هذه الحالة حالة الأنس بالله عز وجل إحسان العمل، عمل طيب، محبة صادقة علامتها اتباع سنة النبي، كثرة ذكر الله عز وجل، هذه تقوي حالة الأنس بالله عز وجل. 

بعض العوارض التي قد تصرف العبد عن ربه:


هناك عوارض كثيرة مفسدة، نحن نعلم أن هناك عوائق وهناك صوارف، والمؤمن البطل هو الذي لا يسمح لعائق أن يعيق حركته إلى الله عز وجل، ولا يسمح لصارف أن يصرفه عن الله عز وجل، أي طالب ملتفت إلى أستاذه في الصف، قد يسمع صوتاً فينظر من النافذة، فينصرف عن أستاذه، فالمؤمن لا ينصرف ولا يعيقه عائق إلى الله عز وجل.

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)﴾

[ سورة الإنسان ]

أي يوجد أحياناً صوارف من حبّ الشهرة، قال: هناك إخلاص يحتاج إلى إخلاص، هناك إنسان يحبّ أن يؤكد ذاته فيتحدث عن أعماله، وعن إنجازاته، وعن أقواله، هذا انصرف إلى حبه لذاته، وتأكيد ذاته عن الإقبال على الله عز وجل.
 

للإنسان حالان:


أيها الإخوة؛ هناك موضوع دقيق جداً أريد أن أوضحه لكم لأنه في هذا الدرس مكانه الصحيح، الإنسان له حالان؛ له حالة مع الخلق وله حالة مع الحق، البطولة أن تكون مع الخلق ومع الحق في وقت واحد، أي كما ذكرت من قبل العبادة المطلقة، أي أحياناً في وقت السحر أن تكون مع الله مُصلياً، ذاكراً، متهجداً، تالياً للقرآن، في وقت جلست إلى أناس يستمعون إليك، يجب أن تكون معهم، وأن تؤْثرهم على حظّ نفسـك من الله عز وجل، عندك ضيف، إكرام الضيف هو العبادة الأولى، أقامك الله رجلاً غنياً، عبادتك الأولى إنفاق المال، أقامك رجلاً عالماً، عبادتك الأولى تعليم العلم، أقامك رجلاً قوياً، عبادتك الأولى إنصاف الضعيف، فهذه العبادة المطلقة مهمة جداً أيها الإخوة، أن تعبد الله فيما أقامك، وفي الظرف الذي وضعك فيه، وفي الوقت الذي يُظلك، لك هوية، ويوجد أرضية، ويوجد زمان، فالظرف لك ابن مريض، العبادة الأولى العناية بهذا الابن، عندك ضيف، العبادة الأولى إكـرام الضيف، هذا ظرف، أما أنت من أنت؟ رجل علم؟ علِّم العلم، رجل مال؟ أنفق المال، رجل قوي؟ أنصف الضعيف، فبهذه الطريقة تجمع بين حالك مع الله وحالك مع الخلق.
 

الإسلام وسطي:


في القرآن الكريم قصتان نموذجيتان عن سيدنا داود وعن سيدنا سليمان، سيدنا داود آثر أن يكون مع الحق على أن يكون مع الخلق فعاتبه الله عز وجل، وسيدنا سليمان آثر أن يكون مع الخلق عن أن يكون مع الحق فعاتبه الله عز وجل، فلابدّ من التوازن، وهذا شأن أكثر المؤمنين. 
أحياناً يُقبل الناس على الإنسان، يعيش معهم، يُذكّرهم، يلقي عليهم المحاضرات، كل وقته معهم على حساب وقته مع الله، فهذا آثر أن يكون مع الخلق عن أن يكون مع الحق، صار هناك اختلال توازن، إنسان آخر ليس له عمل صالح، عمله تهجده، صلاته، ذكره، قراءته، تلاوته، ولكن ما علّم أحداً، ولا وجّه أحداً، ولا سلّك أحداً، ولا أعان إنساناً، ولا ربّى أحداً، همه صفاؤه، وهمه ذكره، وهمه إقباله، وهمه حظه من الله، هذا عابد، وذاك عالم، لكن العالم يحتاج إلى شحنة روحية من شحنات العابد، والعابد يحتاج إلى عمل صالح من أعمال العالم، لابدّ من التوازن، الإسلام وسطي، الإسلام متوازن، الفضيلة وسط بين طرفين، الإسلام بين الإفراط والتفريط، بين التطرف والغلو، الإسلام في الوســط، الإسلام اعترف بالإنسان كائناً له جسد، قال عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ   قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».  ))

[ صحيح البخاري ]


الإسلام متوازن:


جاءت امرأة إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام رثة الهيئة، حالتها لفتت نظر السيدة عائشة، ذكرت ذلك للنبي، سألتها عن حالتها، قالت: إن زوجي صوّام قوّام، طلب النبي زوجها وهو سيدنا عثمان بن مظعون، قال له: يا عثمان، أليست لك بي أسوة؟

(( عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ   قَالَ: آخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «صَدَقَ سَلْمَانُ».  ))

[ صحيح البخاري ]

إن لأهلك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه، في اليوم التالي جاءت امـرأة عثمان بن مظعون إلى بيت النبي عطِرة نضِرة، فقالت لها السيدة عائشة: ما لكِ هكذا أصبحتِ؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس.
فالإسلام متوازن، الإسلام اعترف بالجسم له حاجات، حاجات بقاء الفرد بالطعام والشراب، وحاجات بقاء النوع بالجنس، لكنه أقره قوةً إدراكية فجعل غذاءه العلم، قال تعالى:

﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[ سورة الزمر ]

بل إن الذي يرفع الإنسان عند الله عز وجل هو العلم لقوله تعالى:

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾

[ سورة المجادلة ]

بل إن رتبة العلم أعلى الرتب، واعترف به كائناً جمالياً، له نفس غذاؤها الحب، وأعلى درجة في الحب أن تحبّ الله، أي أعلى سعادة أن تكون مع أصل الجمال، والإنسـان-كما تعلمون-يحبّ الجمال والكمال والنوال، فطرته، جِبِلته، تصميمه، يحبّ الجمال ويحب الكمال ويحب النوال، يحبّ الذي يعطيه، ويحبّ الإنسـان الكامل، ويحبّ الإنسان الجميل، فالإسلام أقرّ في الإنسان جسده وحاجات جسده، وأقرّ في الإنسان عقله وحاجات عقله، وأقرّ في الإنسان نفسه وحاجات نفسه، فلذلك الإسلام متوازن، فأي إنسان يسلك طريقاً واحداً، أي إنسان يُؤْثِر جانباً على حساب جانب، أي إنسان يتعامل مع نفسه على أنه قلب فقط فقد تطرف، أي إنسان يتعامل مع نفسه على أنه عقل فقط فقد تطرف، أي إنسان يتعامل مع نفسه على أنه جسد فقد تطرف، وهذا حال بعض المسلمين، أناس يعتنون بأجسامهم فقط، يأتي الموت يُنهي كل هذه المكتسبات، مهما اعتنى الإنسان بجسمه لابدّ من أن يموت.
أنا سمعت عن إنسان في مصر، عنايته بجسمه تفوق حدّ الخيال، في كل حياته ما تناول عشاءً إلا الفواكه، وما أكل إلا اللحم الأبيض، وكان يعتني بالرياضة عنايةً فائقة، وما ركب طائرةً في حياته ثم مات، لابد من أن يموت، لأن كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.

والليل مهما طال فلابدّ من طلــــوع الفجر         والعمر مهما طال فلابدّ مـــن نــزول القبر

[ صالح بن محمد بن عبد الله ]

* * *

فأنت حينما تتعامل مع جسمك، ومع نفسك، ومع عقلك تتوازن، فالإسلام وسطي، والإسلام متوازن.
 

المؤمن الصادق يفعل ما يُرضي الله:


أيها الإخوة؛ العلماء وقعوا في حيرة؛ أيؤثر الإنسان حظوظه من إقباله على الله أم أن يؤثر حظوظه من العمل الصالح بأن يكون مع الخلق؟ ماذا يفعل؟ قال: المؤمن الصادق يفعل ما يُرضي الله، فإذا كان الذي يرضيه أن تكون مع الخلق، يجب أن تُؤْثر الخلق على حظك من الله، وإن كان الذي يرضيه أن تكون مع الحق، وجب أن تؤثر حظك من الله على حظك من الخلق، ما المناسب؟ وهذا شيء يعرفه الإنسـان بالفطرة، إنسان لهفان، جاءك من أقصى البلاد، طرق بيتك لتحلّ له مشكلة، ليستفتيك في قضية، لتصلح ذات بينه وبين زوجته، لتعينه على متاعب الدنيا، قل له: ليس هنا، مشغول، هذا وقت ذكر، لا، اِستقبله، واجلس معه، وحلّ له مشكلته، فأنت في أعلى درجات الذكر، والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا، سيدنا ابن عباس كان معتكفاً في مسجد رسول الله بعد وفاته، جاءه رجل رآه كئيباً، قال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال: والله ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، فقال ابن عباس: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، يوجد إنسان استغرب: أنت معتكف!! قال له: أما علمت أنك معتكف؟ قال له: بلى، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب، والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا.
كلامي دقيق، ماذا أؤثر؟ أن أكون مع الخلق أم أن أكون مع الحق؟ هناك من يؤثر أن يكون مع الحق، أي أكبر همه سـلامة صدره، إقباله، صفاؤه، لا يعكر نفسه أبداً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:

(( عن عبد الله بن عمر: المؤمنُ الَّذي يخالطُ النَّاسَ ويصبِرُ علَى أذاهُم خيرٌ منَ الَّذي لا يخالِطُ النَّاسَ ولا يصبرُ علَى أذاهم. ))

[ إسناده حسن، ابن حجر العسقلاني: بلوغ المرام ]

ينسـحب من أي موضوع، من بيته إلى عمله، هذا رجل صالح، وعابد، ومستقيم، ومصلٍّ، وذاكر، لكن لا يحبّ أن يخدم الخلق، يحب أن يكون مع الله دائماً، هذا عابد، وعالم واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد، العابد يعمل لذاته فقط، يؤثر ذاته على الخلق، أما الإنسان الآخر هو الذي يكون مع الخلق، يعلمهم، يرقى بهم، ويرقون به، فيبدو:

(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. ))

[  صحيح البخاري ]

فلابدّ من التوازن.
 

الإنسان الصادق في طلبه يؤثر مرضاة ربه على حظه:


أيها الإخوة؛ القول الفصل في هذا الموضوع، الإنسان الصادق في طلبه يؤثر مرضاة ربه على حظه، فإن كان رضا الله في القيام بذلك العمل وحظه في أن يكون مع الخلق تخلّى عن حظه، وقام بما يرضي الله عز وجل، ومتى علم أن الله عز وجل راض عنه فقد حقق أمنيته في الحياة.
دائماً وأبداً انظر، أي الأمرين أحبّ إلى الله، لا أحبّ إلى نفسك، الإنسان أحياناً يؤاثر أن يجلس وحده يقرأ القرآن، أو يتفكر، أو يطالع، أو يذكر الله عز وجل عن أن يجلس مع إنسان عنيد، غير منطقي، يحتاج أن يبين له الحق مع أدلته، لكن أنت إذا جلست مع إنسان، وهذه الجلسة انتهت إلى هدايته:

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾

[ سورة المائدة ]

ما كل شيء ممتع هو الأنفع، قد يكون الشيء المتعب هو الأنفع، على كلٍّ؛ والله أعلم الإنسان يعلم بفطرته ما الذي يرضي الله عز وجل، أحياناً تشعر أو يلقي الله في روعك أنك إذا جلست مع الناس كنت أقرب إلى الله مما لو جلست مع نفسك، وأحياناً تجد جلسة عادية، كلام لا يوجد به صدق، لا يوجد اهتمام، دع هؤلاء وكن مع الله، يوجد حالات يجب أن تكون مع الخلق بشكل مستمر، إذا أمر جامع، مشكلة كبيرة حلت بالمسلمين، لابد من أن تنهض لخدمتهم، أما أن تنسحب من خدمتهم، وأن تؤثر الصفاء والذكر على هذا، هذا لا يرضي الله، والله أعلم إن كل مؤمن يعلم بفطرته وبحاسته السادسة ما الذي يرضي ربه، ولا تكن مع ذاتك، ولا تكن مع حظك، كـن مع الذي يُرضي الله عز وجل ولو خالف هواك.
على كلٍّ؛ الهوى أنواع، حتى لو كان الهوى أن تكون مع الله، حينما ترى أنه لابد من خدمة الخلق وأن تكون معهم، سيدنا خالد لما فتح البلاد، يمكن ما كان يبكي كثيراً على مصلاه، كما يفعل إنسان يصلي قيام الليل، لكنه فتح هذه البلاد، وجعل أهلها مسلمين، وهذه البلاد تنعم بنعمة الإيمان بفضل هؤلاء الصحابة الكرام الذين خرجوا، وفتحوا البلاد، وبذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس.
 

مرتبة الذوق هي من أقرب المراتب إلى النفس البشرية:


إذاً الملخص أن مرتبة الذوق هي من أقرب المراتب إلى النفس البشرية، وهي قمة سعادة الإنسان مع الله عز وجل، ولكن هذا الذوق أحياناً يزداد بأن تكون مع الله، وقد يزداد أحياناً بأن تكون مع الخلق، ورضاء الله عز وجل مقدم على أي رضا:

﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)﴾

[ سورة آل عمران ]

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور