الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس التاسع والخمسين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الحياة، استنباطًا من قوله تعالى:
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾
فالضالُّ ميِّت، الشارد ميِّت، العاصي ميِّت، الفاسق ميِّت، المشرك ميِّت، الكافر ميِّت، المنحرف ميِّت، ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ .
أيها الإخوة الكرام؛ كيف أن الجسم من دون روحٍ تسري في خلاياه، فالعين بالروح ترى، ومن دون الروح تُلقى في القمامة، واللسان ينطق، والأذن تسمع، والأنف يشمُّ، والجلد يُحِسُّ، وهذا الجسم يقوم بأعقد العمليات بالروح، فلو قُطِعت عنه الروحُ لكان جثَّة هامدةً، لا تساوي شيئاً، لو عصرنا الجسمَ لكان سبعين بالمئة منه ماء، فالذي وزنه مثلاً مئة كيلو، سبعون كيلو منه ماء، ثلاثون كيلو يُصنَع من الحديد الذي فيه مسمارٌ صغير، من الكِلس الذي في عظامه يُطلَى كوخ دجاجٍ صغير، الأبيض، يُصنع من بعض المعادن قلمُ رصاص مثلاً، مسمار، بُطلى بالجير، كوخ صغير للدجاج، فكل الإنسان مادَّة من دون روح لا يساوي خمساً وعشرين ليرة سورية، لو أردنا أن نعصره وأن نستفيد من مواده الأساسية لا يساوي خمساً وعشرين ليرة سورية، أما بالروح مثلاً يصير قائداً كبيراً، عالماً كبيراً، مصلِحاً كبيراً، إنساناً يهز الأرض، فالإنسان بالروح، كما أن الروح حياة الجسم كذلك معرفة الله، وطاعته، والاتصال به، وذكره، والإقبال عليه، والتوكُّل عليه روحُ النفس، هناك نفس ميِّتة، ميِّتـة بكلِّ معنى الكلمة، يبحث عن طعام وشراب وامرأة فقط، ينام كالدابَّة، يستيقظ كالدابة، يتثاءب كالدابة، يبحث عن طعام وشراب من أيِّ طريق، له أو لغيره، يأخذ ما له وما ليس له، يمكن أحياناً لا أجد كلمةً مُعبِّرة عن إنسان شارد تائهٍ منحرفٍ ضالٍّ مضلٍّ فظٍّ غليظٍ شهوانيٍّ أنانيٍّ، لا أجد لمثل هذا النموذج من وصف يروي الغليل كأن أقول: دابة فلتانة، بغل فلتان، شرير، قاس، أناني، حاقد، لئيم، يعيش لبطنه ولفرجه فقط، هذا هو موت الإنسان، أما حينما تَرِقُّ حاشيتُه، تلْطُف نفسُه، يتواضع لله عز وجل، يرحم الآخرين، يتعرَّف إلى الله، يعرِّف بالله عز وجل، صار حيًّا، ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ الآية الثانية:
﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)﴾
هذا الميت المقبور بشهواته.
ما رآه بعض العلماء في معنى الآية التالية:
بل إن بعض العلماء يرى أن قوله تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
هؤلاء المقبورون في شهواتهم، إنسان مقبور بامرأة، إنسان مقبور بالدرهم والدينار، إنسان مقبور بالمخدِّرات، إنسان مقبور بالخمور، إنسان مقبور بشهوات الدنيا، إنسان همُّه بطنُه، إنسان همُّه فرجُه، إنسان همُّه أناقتُه، إنسان همُّه أن يعيش لملذَّاته السخيفة، هذا مقبور، ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ قال تعالى:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ .
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنـمـا الـمـيت مـيـتُ الأحـيـاءِ
الروح حياة الأبدان والقرآن حياة القلوب:
يا بنيَّ، مات خُزَّانُ المال وهم أحياء، في أوْج حياتهم، نبضُهم سبعون، ضغطهم ثمانية اثنتا عشرة، تحليل دمهم كلُّه طبيعي، ومع ذلك هو عند الله ميت، مات خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانُهم مفقودة وأمثالُهم في القلوب موجودة.
مرَّةً أردتُ أن أداعب طلابي بمسألة، قلتُ لهم: من يأتي باسم غنيِّ عاش في دمشق عامَ ألف وثمانمئة وخمسة وستين وله علامة تامَّة؟ الطلاب فكَّروا فكَّروا فكَّروا، فقلت لهم: وأنا مثلكم لا أعرف، لكن من منكم لا يذكر اسم صلاح الدين الأيُّوبي؟ الشافعي؟ أبا حنيفة؟ مثلاً عمر بن الخطَّاب؟ خالد بن الوليد؟ هؤلاء القادة العِظام، العلماء الأعلام، المصلحون الكبار، هؤلاء الذين غيَّروا مجرى التاريخ، هؤلاء الذين تركوا بصماتِهم في الحياة، من منَّا لا يذكرهم؟ مات خزَّانُ المال وهم أحياء.
الآن أدلَّة أقوى، طبعاً أولُ دليل: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ ثاني دليل: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ ثالث دليل: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ الدليل الرابع:
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾
هذا الوحيُ فيه حياة القلوب، الروح التي تعارفنا على أنها قوةٌ تُمِدُّ الإنسانَ بالحياة و الحركة، الروح حياة الأبدان والقرآن حياة القلوب، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ الوحيُ روح.
التقسيم الحقيقي للصنف البشري:
الآن يمكن أن نقول: الناسُ رجلان؛ ميِّت وحيٌّ، الذي عرف اللهَ حيٌّ، الذي استقام على أمره حيٌّ، الذي عمل الصالحاتِ تقرُّباً إليه حيٌّ، الذي أقبل عليه حيٌّ، والذي غفل عن الله ميِّت، والذي عصى اللهَ ميِّت، والذي أساء لخلقه ميّت، حيٌّ وميِّت، موصول ومقطوع، مُقبل ومُدبِر، مُحسن ومُسيء، مُنضبط ومتفلِّت، سعيد وشقيٌّ، هكذا، وهذا هو التقسيم الحقيقي، هذا التقسيم الواقعي.
أحياناً يقول لك: بين بلجيكا فرضًا وفرنسا الخطُّ الحدودي، لو أن قريةً يمرُّ خطُّ الحدود في وسطها، ما الفرق بين شخص بيتُه في القسم التابع لفرنسا وإنسان بيتُه في القسم التابع لبلجيكا؟ هذا تقسيم مصطنع، بلدةٌ واحدة، وعاداتها وتقاليدها، وجوّها الطبيعي وطقسها، وماؤها وأمطارها، وصناعتها وزراعتها، وثقافتها واحدة، لكن بحسب القوانين هذا بلجيكي، هذا فرنسي، هذا تقسيم مفتعَل، أما التقسيم الحقيقي مؤمن وكافر، مستقيم ومنحرف، صادق وكاذب، محسن ومسيء، سعيد وشقيّ، هذا التقسيم الحقيقي، فكما أن الروح حياة الأجسام كذلك الإيمانُ حياة القلوب.
الوحيُ حياة النفس والروح حياة الجسم:
آيةٌ ثانية، قال تعالى:
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)﴾
الروح مرة ثانية، آية ثالثة:
﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)﴾
فالوحيُ حياة النفس، والروح حياة الجسم، صار الوحيُ روحُ النفس، روح القلب، طبعاً هناك أدلة كثيرة، انظُر إلى وردة صناعية لا روح فيها، انظُر إلى وردة طبيعية، بوْنٌ شاسع وفرق كبير بين وردة طبيعية تفوح منها الرائحة تُحِسُّ أنك قريب منها، أما الوردة الصناعية لا تُحِسُّ بهذا الميل إليها، لأنها عديمة الروح.
مغالطة قد تسري إلى بعض ضعاف الإيمان:
الآن ندخل في آية مهمَّة جدًّا:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
أولُ مغالطة قد يفهم بعضُ ضعاف الإيمان أن الذي يؤمن بالله، ويعمل عملاً صالحاً يحييه اللهُ حياة طيِّبة؛ أيْ يجعله غنيًّا، يجعله قويًّا، يجعله صحيحاً، لا، كلُّ إنسان له ظروف وله معطيات قدَّرها اللهُ بحكمةٍ بالغة، ولكن الحياة الطيِّبة التي وُعد بها المؤمنون حياة الروح، مطمئن.
المؤمن يَألَف ويُؤْلَف اقتبس من كمال الله كمالاً:
الشيء الذي يلفت النظرَ حينما يخاف الناسُ المؤمن لا يخاف، حينما يحقد الناسُ المؤمن لا يحقد، حينما تضعف معنويات الناس المؤمن لا تضعف معنوياتُه، حينما ييأس الناسُ المؤمن لا ييأس، هذه حياة الروح، حينما يفتقر الناسُ ويندبون حظَّهم المؤمن يصبر، وحينما يغتني الناسُ ويتغطرسون المؤمن يتواضع، وحينما ينجب الناسُ أولاداً يربُّونهم تربيةً لا تُرضي اللهَ، المؤمن له ترتيب آخر، يُنشِئ ابنه على طاعة الله، فقضية حياة الروح ميِّتٌ وحيٌّ، بأدقِّ ما في هذه الكلمة من معنى، ميِّت وحيٌّ، أيْ إنسان متَّصل بالله حيٌّ، مقطوع ميِّتٌ، أيْ ميِّت تشمئزُّ منه ويشمئزُّ منك، مقياسه مادي، فإذا رآك ذا دخلٍ محدود وضَعك خارج الاهتمام، هو بدخله الكبير لا يُحتمَل ولا يَحتمِل، يَعاف ويُعاف، هذا المنحرف، أما المؤمن يَألَف ويُؤْلَف، يُحِبُّ ويُحَبُّ، ليِّنُ العريكة، متواضع، أي عنده حياة، اقتبس من كمال الله كمالاً، أي اشتقَّ من الكمال الإلهي الذي أرادنا اللهُ أن نتخلَّق به كمالاً.
والله يا إخوان؛ مستحيل بعالَم الأغنام تجد غنمة ثمنُها مليون ضعف عن غنمة ثانية، أغلى غنمة ستَّة آلاف، أرخص غنمة ألفان، جلدة وعظمة ألفان، كرش كبير ستة آلاف، الفرق ثلاثة أضعاف، أما بعالم الإنسان ممكن إنسان تكون مكانتُه تزيد عن إنسان مليار ضعف،
(( عَنْ سَهْلٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا. ))
ملء الأرض من مثل هذا الإنسان الأول يعدل مليار إنسان.
الحياة الطيبة عند أهل العلم:
العلماءُ قالوا: فُسِّرت الحياةُ الطيِّبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن وغير ذلك، والصواب أنها حياة القلب ونعيمُه، وبهجتُه وسروره، والإيمان بالله ومعرفتُه، ومحبَّتُه والإنابة إليه والتوكُّل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيمُ الجنة.
بعضُ العارفين يقولون: هذه الحياة الطيِّبة، جنُّةُ القربِ، الكافر في جفوة البُعد، في شقاء البعد، والمؤمن في جنة القرب، يقول بعض العارفين: إنه لتمرُّ بيَ أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهلُ الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيِّب، في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنةَ الآخرة، إنها جنة القرب، قال تعالى:
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾
في الدنيا، وقال بعضُ العلماء: إنه ليمرُّ بالقلب أوقاتٌ يرقص فيها القلبُ طربًا، والله الذي لا إله إلا هو إنسان صدَق مع الله، وأخلَص له، وأناب إليه، وتاب توبةً نصوحةً، والله سيمرُّ على قلبه أحوالٌ لا يحلم بها الملوكُ، والله وقد يكون فقيراً، وقد يكون من عامة الناسِ، وقد يكون في الدرجة الدنيا في السلَّم الاجتماعي، هذه عظمةُ الدين، المعيشة الضَّنكُ لمن أعرض عن ذكر الله، والحياة الطيِّبة لمن أقبل عليه.
أقسمَ باللهِ أخٌ قال لي: والله دخلتُ على تاجرٍ في بعض أسواق دمشق الكبرى، قال لي: والله أنا تاجرٌ أعرف أن حجمه المالي يزيد عن أربعة آلاف مليون، أقسم بالله، قال لي: من كثرةِ ما شكا لي همومَه، ومتاعبَه، وتشاؤمَه، وإحباطاته، وضيقَ نفسه، قال لي: يكره بيتَه، ويكره أولادَه وزوجته، ولا يوجد بيعٌ، والناسُ لا يتعاملون، قال لي: والله ما كِدتُ أمشي على قدميَّ بعد أن التقيتُ به، ولحكمةٍ بالغة بالغة أرادها اللهُ عز وجل، قال لي: جاءتني امرأةٌ في محلِّي التجاري، محجَّبة حجاباً كاملاً، تريد مساعدةً، أجرة لبيت، تريد ألف ليرة في الشهر، أين أنتِ يا أختي؟ قالت له: أنا في قرية من قرى ريف دمشق، فقال لها: أنا عندي في المساء اجتماعٌ في جمعية خيرية هناك، أنا سأعطِي تعليماتٍ لهذه الجمعية أن يساعدوكِ، قال لي: في الاجتماع ذكرتُ لهم أن هناك امرأةً اسمها كذا، وعنوانها كذا، تريد مساعدةً، فيُرجى أن تتحقَّقوا من ذلك، وأن تمدّوها بهذا المبلغ، فقالوا لي: قمْ معنا نذهب إليها، قال لي: انطلقنا إلى بيتها، المفاجأة الصاعقة أنَّ البيتَ تحت درَجٍ مع فسحةٍ بسيطة، في المنطقةُ العالية يوجد غرفة، منطقة الزاوية الضيِّقة للمطبخ والمنافع، وهناك ساحة صغيرة، هذا البيتُ أجرتُه ألفُ ليرة في الشَّهر، في قرية من قرى ريف دمشق غربًا، قال: دخلنا البيت نظيف، وزوجها مريض مستلقٍ على سرير، والأولاد في وضع جيِّد جدًّا، ثيابهم نظيفة، يضحكون ويلعبون، وجدنا هذا البيت كأنه قطعة من الجنة، أقسم بالله، ثم قال لهم: هذه الأخت الكريمة، نعطيهم ألفين في الشهر، قالت له: لا، ألف فقط، لسنا في حاجة إلى ألفين، معاشُ زوجي يكفي المصروف، نحن بحاجة إلى ألف أجرة البيت، قال لي: وازنتُ بين الذي كنتُ عنده قبل الظهر، وله حجمٌ يزيد عن أربعة آلاف مليون، وبين هذه المرأة الفقيرة المُعدَمة التي تسكن مع زوجها في بيت قميء، وكيف أن هذا البيت قطعة من الجنة، قال لي: عرفتُ أن الله على كل شيء قدير؛ أي قادر أن يعطيك ويشقيك، وقادر يحرمك ويُسعدك، فاطلُب ما عند الله.
علامة بيعة المؤمن نفسه لله:
إذا شخص دخل عند صائغ، والصائغ صديقُه، قال له: أريد أن أقدم لك هدية قطعة من قطع المحلِّ، اِختَر واحدةً، صاحب المحل مخلص وفهيم، وذوقه مرتفع، قال له: أنت اختر لي، ماذا يكون فعل معه؟ الآن مضطر صاحب المحل أن يقدِّم له أنفسَ قطعة، لأنه قال له: أنت اختَر لي، هذا الدعاء؛ اللهم خِرْ لي واخترلي، خِر لي، واختر لي أنت ما تحبُّه لي، اليوم ذكرت نقطة، أنت بِعتَ بيتك، وقبضتَ ثمنَه بالتمام والكمال، ووقَّعت العقد، وأفرغتَ بالسجل الرسمي، بلغك أن الذي اشترى البيت ألغى حائطاً بين غرفتين، هل تذهب لتختصم معه؟ تقاتله؟ يقول لك: ما شأنك أنت؟ بعتَ البيت وقبضت ثمنه، انتهى الأمر، يلغي حائطاً، يضم غرفة لغرفة، يغيِّر مكان الحمَّام، هو حرٌّ، يدهن، لا يدهن، يبلط، يغير البلاط، أنت بعت البيت وقبضت ثمنه، هذا المعنى البسيط اللطيف وسِّعْه في قوله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
الثمن هو الجنة، فالله عز وجل أراد أن يبعث لك رزقاً وفيراً، أنا بعتُ، أراد أن يجعلك بدخل محدود، تقول: أنا بعت، أراد أن يجعل صحَّتك في أعلى مستوى، تقول: أنا بعتُ، أراد أن يسوق إليك مرضًا، تقول: أنا بعت، فإذا كنت بعتَ نفسك لله حقيقةً لا تنزعج من شيء ساقه اللهُ إليك، علامةُ أنك بِعتَ نفسك بيعةً قطعية لله عز وجل لا تعترض على حكمه أبداً.
طبعاً هذا الكلام يجب أن يكون له توضيحٌ، أنت فقيرٌ وبإمكانك أن ترفع مستوى دخلك، وبإمكانك أن ترفع مستوى معيشة أولادك، وهناك طرقٌ سالكة، ولم تسلكها فأنت آثم، ابذِل قصارى جهدك وينتهي بك الجهدُ عند هذا الحدِّ، عندئذٍ ارضَ عن الله عز وجل، يا ربي هل أنت راضٍ عني؟ فوقع في قلبه أن يا عبدي هل أنت راضٍ عني حتى أرضى عنك؟ لقوله تعالى:
﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)﴾
أن ترضى عن الله، أن ترضى بجسمك، بشكلك، بلونِك، ببشعرك، بإمكاناتك، بحرفتك، بدخلك، بزوجتك، بأولادك، ببيتك، هذه أشياء كلُّها معطيات صارت ثابتةً.
هناك دور ثلاث؛ دار الدنيا ودار البرزخ ودار الآخرة:
أيها الإخوة؛ هناك دورٌ ثلاث، من يذكر هذه الدور؟ طبعاً دور جمع دار؛ هناك دور ثلاث، دار الدنيا ودار البرزخ ودار الآخرة، العلماء قالوا: الحياة الطيّبة في دار الدنيا وفي دار البرزخ وفي الدار الآخرة، والمعيشة الضنك في الدار الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، دار الدنيا سُمِّيت دنيا لأن الحياة في الآخرة حياةٌ عُليا، دار البرزخ ممرٌّ بين الدنيا والآخرة، دار الآخرة دارُ القرار، فالأبرار:
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)﴾
مطلقاً، أي في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾
في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، والقبر-كما تعلمون-روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، قال تعالى:
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾
في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى:
﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)﴾
دقِّقْ الآن: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ فذكر الله سبحانه وتعالى ومحبَّتُه وطاعته والإقبال عليه ضامنٌ لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغَّصة والمعيشة الضَّنك في الدنيا والآخرة، معنى ذلك أن يكون قلبُك حيًّا بذكر الله، فأنت في حياة طيِّبة في الدنيا والبرزخ والآخرة، وأن تكون غافلاً عن الله، فأنت في معيشة ضنك في الدنيا والبرزخ والآخرة.
الحياة مراتب، أي حياة القلب، حياة الروح مراتب؛ المرتبة الأولى حياة العلم من موت الجهل، الجاهل ميِت والعالِم حيٌّ، فإن الجهل موتٌ لأصحابه، قال بعضُ الشعراء:
وفي الجهل قبل الموت موتٌ لأهله وأجســامهم قبل القبور قبـــــورُ
وأرواحهم في وحشة من جسومهم فليس لهم حتــى النشور نشــورُ
الجاهل ميِّتُ القلب وإن كان حيَّ البدن، جسدُه قبرٌ يمشي به على وجه الأرض، معناها قبر متحرِّك، الكون قرآن صامتٌ، والقرآن كون ناطق، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، والكافرُ قبرٌ يمشي، دقِّق في قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ قال تعالى:
﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾
﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ أما الميِّت دعْه فإنه ميِّت، والله الذي لا إله إلا هو المؤمن الصادق أحياناً يلتقي بإنسان ميِّت، مرَّة دعاني أخٌ إلى تناول طعام الغداء في منطقة خارج دمشق، هناك واحد من الحاضرين لا أعتقد أن إنساناً يتحمَّله خمس دقائق، فظ، كلّ شيء متعلِّق بالدين والقيم والأخلاق، لا شيء عنده، مادة مال، مال وشهوات، ما شعرتُ بإنسان ينطبق عليه لفظُ الموت كهذا الإنسان، مرَّة التقيتُ بمندوب شركة، بعد ما انتهى العملُ، قلت أحدثه بضع كلمات عن الله عز وجل، خمس كلمات، قال لي: هذه المعلومات لا تعنيني، ولا أهتمّ بها، ولا ألقي لها بالاً، أنا لا أهتمُّ إلا بامرأةٍ جميلة، وبيت واسع، وسيارة فارهة، وما سوى ذلك وراء ظهري، ميِّت، وكلُّ واحد من إخواننا الكرام ممكن أن يلتقي مع شخصٍ ميت، أنيق جدًّا، جميل الصورة.
جمال الوجه مع قبح النفوس كقـنديل على قبر المجـوسي
جميل الصورة، أنيق جدًّا، حياته في أعلى مستوى، لكنه ميِّت، والله رأيت هذا في أمريكا، والله رأيت الناس بلا هدف؛ ألا يقول لك: خنزير مقوص، استلقاء، راحة، شطرنج، مثلاً، ورق، نوم، أكل، عمل، هكذا بلا قيم، بلا هدف، بلا أدنى درجة من درجات الخجل أو الحياء أبداً.
قال لي أحدهم: إنه ذهب إلى بلد يدرس من بلاد أوروبا الشرقية، جامعة من أضخم الجامعات، الدورات العامَّة أين؟ في الصالون، لا يوجد جدران أبداً، أي خمسون قطعة لقضاء الحاجة، صالون مكشوف كلُّه، الناسُ يقضون حاجاتهم أمام بعضهم بعضاً كالبهائم تماماً، قال لي: الحمَّامات أصعب، شباب وشابَّات يغتسَّلون أو يتغسلون أمام بعضهم بعضاً، كذلك الرشَّاشات بالسقف إلى جنب بعضها بعضاً، لا توجد حواجز أبداً، قال تعالى:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
أرادوا أن يجرِّبوا قياس الدافع الإنساني بفرنسا، جاؤوا بإنسان وضعوا عليه حبراً أحمرَ، كأنه وقع له حادثٌ، وسيارة مهشَّمة على أكثف طريق بفرنسا، بين ليون وباريس، أي كثافة الطريق مخيفة، في بعض الجسور بأمريكا، سبعمئة ألف سيارة تقطعه كلَّ يوم، فكلُّ دولة كبرى فيها طرقٌ كثيفة جدًّا، فأكثف طريق بفرنسا طريق ليون باريس، وضعوا هذا الإنسان على جانب الطريق، كأنه ميِّت، أو كأنه مجروح، وسيارته مهشَّمة، بشكلٍ تمثيلي متقَن، وانتظروا أن تقف بعـضُ السيارات كي تتفقَّد حالَه أو أن تُمِدَّ له يدَ المساعدة، ستُّ ساعات لم تقف ولا سيارة، ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ لي صديق ذهب إلى بريطانيا، قال لي: قبل مئة متر وجدتُ امرأةً وقعتْ على الأرض، على الرصيف، قال لي: والمرور كثيف جدًّا، بحيث كتف بكتف، وصدر بظهر، قال لي: قبل مئة متر تمنَّيتُ أن يلتفت لهذه المرأة إنسان يُنهضها، إلى أن وصلتُ إليها، امرأة متقدِّمة في السِّن، فحاولتُ أن أنهضها، وقفت وانتعشتْ، قالت لي: أنت غريب؟! أول كلمةٍ قالتها: أنت غريب عن هذه البلدة، لأنه لم يرد أبداً أن يساعد أحدٌ أحداً، ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ أي ممكن أن تقتل عشرين مليون غنمةً بالرصاص من أجل أن تحافظ على السعر المرتفع وشعوب تموت من الجوع؟ ممكن؟ ممكن أن تتلف مثلاً خمسمئة ألف طن حمضيات من أجل السعر المرتفع وهناك طبقة فقيرة جداً تموت من الجوع؟ ممكن أن يتسلَّل زنجي ليأكل برتقالةً في العام القادم تُسمَّم المحصولُ تسميماً؟ لو أكل الواحد برتقالة من هذا المحصول المتلَف يموت، ممكن؟ وحوشٌ، ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ .
والله يوجد بالتاريخ الإسلامي مواقف مشرِّفة، فحياة العلم من موت الجهل، الجهل موتٌ والعلم حياة، الجاهل ميِّت القلب والروح، وإن كان حيَّ البدن، قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ*لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ الإمام أحمدُ ذكر في كتاب الزهد من كلام لقمان أنه قال لابنه: يا بنيَّ، جالسْ العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوبَ بنور الحكمة كما يحيي الأرضَ بوابل القطر.
من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة:
أحد إخواننا الكرام؛ توفِّي ابنُه، هو من حلب، له عمل في الدعوة، فذهبنا لتعزيته، عرَّفنا على شيخه، شيخه بالتسعين فما فوق، والله ما رأيتُ إنساناً له هيبة ونورانية ومكانة كهذا الإنسان، حياة العلم، الآن إنسان في التسعين يقال عنه: خرفان، يقول لك: أبي من الطراز القديم، يحتقره ابنُه أحياناً، مهمش، وضعوه في غرفة واحدة، إنسان في التسعين مخدوم، محشود، محفود، حوله إخوانه، طلابه، أولاده، بأدب جمٍّ ودَّعني لمدخل البيت، إنسان موصول بالله عز وجل، شيء رائع جدًّا، فمن لم تكن له بداية محرِقة لم تكن له نهاية مشرقة، البطولة بخريف العمُر، الشباب كلُّهم من حيث النشاط سيَّان، أما خريف العمر تجد شخصًا والله كأنه ملِك، هيبة ووقار.
قال: تعلموا العلم فهو الأنيسُ في الوحشةِ، والصاحبُ في الغربةِ، والمُحدِّثُ في الخلوةِ، والدليلُ على السرَّاءِ والضرَّاءِ، والسلاحُ على الأعداءِ، والزينُ عند الأخلاء، يرفعُ اللهُ به أقوامًا فيجعلُهم في الخيرِ قادةً، وأئمةً تُقتصُّ آثارُهم، ويُقتدى بأفعالِهم، ويُنتهى إلى رأيِهم، ترغبُ الملائكةُ في خُلّتِهم، بأجنحتِها تمسحُهم، يستغفرُ لهم كلُّ رطبٍ ويابسٍ، وحيتانُ البحرِ وهوامُّه وسباعُ البرِّ وأنعامُه لأنَّ العلمَ حياةُ القلوبِ من الجهلِ، ومصابيحُ الأبصارِ من الظلَمِ، يبلغُ العبدُ بالعلمِ منازلَ الأخيارِ، والدرجاتِ العُلا في الدنيا والآخرةِ، التفكرُ فيه يعدلُ الصيامَ، ومدارستُه تعدلُ القيامَ، به تُوصلُ الأرحامُ، وبه يعرفُ الحلالُ من الحرامِ، وهو إمامُ العملِ، والعملُ تابع له، يلهمُه السعداءُ ويحرمُه الأشقياءُ.
[ رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما: وقد روي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام والأصح أن يكون موقوفاً على سيدنا معاذ بن جبل: المحدث : الدمياطي : المتجر الرابح: سنده سقيم: أخرجه ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله))
الأولى أن يكون موقوفاً، الحديث مرفوع أو موقوف أو مقطوع، مرفوع إلى النبي، وموقوف على الصحابي، ومقطوع على التابعي، الأولى أن يكون موقوفاً على سيدنا معاذ. ]
وفي الدرس القادم ننتقل إلى موضوعين اثنين من موضوعات الحياة والموت، وهي مرتبة من مراتب مدارج السالكين في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
الملف مدقق