وضع داكن
07-09-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 075 - منزلة الفتوة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الفتوّة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ومنزلة اليوم الفتوَّة.
 

حقيقة منزلة الفتوّة:


هذه المنزلة كما قال عنها العلماء: حقيقتُها الإحسان، الإحسان نهاية النهاية، لقوله تعالى:

﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)﴾

[ سورة الرحمن ]

أنت حسنةٌ من حسنات الله، خَلَقَك ليسعدك، ليُحسِن إليك، خلقك لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، فإذا كان ردُّ فعلك الإحسان فقد حقَّقت غايتك من وجودك، لذلك هذه المنزلة في حقيقتها هي الإحسان إلى الخلق، محبةً بالحق، لو أردنا أن نُبَسِّـط هذا المعنى: قد تُحسِن إلى طفلٍ من أجل أبيه، إكراماً لأبيه، أو وفاءً مع أبيه، أو تكريماً لأبيه.
قال بعض العلماء: هي الإحسان إلى الخلق وكفّ الأذى عنهم، بل احتمال الأذى منهم، أول مرتبة الإحسان، أو كفّ الأذى، أو احتمال الأذى، أيْ استعمال حُسن الخُلق معهم، ومن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان، الإيمان حُسن الخُلق، وذهب حُسن الخُلق بالخَير كلِّه، وسوءُ الخُلق يُفسِد العَمل كما يُفسد الخَل العسل. 
 

الفرق بين مرتبة الفتوة وبين المروءة:


قال بعض العلماء: والفرق بين هذه المرتبة الفتوَّة وبين المروءَة أنَّ المروءة أعمُّ منها، فالفتوَّة نوعٌ من أنواع المروءة، فإن المروءة بمعناها الدقيق استعمال ما يَجمُل ويزِين مما هو مختصٌ بالعبد، وتركُ ما يُدنِّس ويشينُ مما هو مختصٌ به أيضاً، أي الموقف الكامل وترك الموقف الناقص هو مروءة، كأن مكارم الأخلاق كلّها جُمِعَتْ في المروءة، والفتوَّة فرعٌ من المروءة، المروءة أعَم، أن تقف الموقف الكامل من كل شيء، إن تكلَّمت تتكلَّم بكلامٍ فَصل، إن سكتْ تسكُت عن حلم، إن أعطيت تعطي عن كرم، إن منعت تمنعُ عن حكمة، إن غضِبت تغضب لله، إن رضيت ترضي لله، أن تقف الموقف الكامل في كل شؤون حياتك هذا مروءة، وكأن علماء الأخلاق جمعوا كل خِصال الخَير بكلمة مروءة، وجُمِعَت كل خصال الشر بكلمة لؤْم، هناك إنسان ذو مروءة، وإنسان لئيم، وقيل: ما الذُّل؟ قال: أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه.
 

من معاني إتمام مكارم الأخلاق:


قالوا: هي ثلاث منازل؛ منزلة التَّخلُّق، ومنزلة الفتوَّة، ومنزلة المروءة، فالتخلُّق الإنسان يتحلَّم فيكون في النهاية حليماً، يتكرَّم فيكون في النهاية كريماً، وبعد هذه المَرتبة تأتي مرتبة الفتوَّة، وقد عُبِّر عنها باسم مكارم الأخلاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ. ))

[ أخرجه البزار في مسنده والإمام أحمد: صحيح  ]

وفي روايةٍ أخرى: إنما بُعثت معَلماً، ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) .
يا أيها الإخوة؛ إتمام المَكارم له معنىً دقيق هو أن النفس جُبلت جبلَّةً عالية، جُبِلت على حبّ الكمال، فإذا اتصلت بخالقها اصطبغت بالكمال، فكأن الاصطباغ إتمامٌ للفطرة، الفطرة حبّ الكمال، والصِّبغة اصطباغٌ بالكمال، الإنسان يحب الخير، يحب العدل، يحب الرحمة فطرة، صار خيِّراً عادلاً رحيماً صِبغة، أي الحاجة إلى الشيء وإملاء هذه الحاجة، إذاً إتمام، معنى ذلك أن النفوس فُطرت فطرةً عالية في الأصل، في أصل الخَلق الإنسان فُطِرَ فطرةً عالية، فإن تديَّن واتصل بخالقه حقَّق هذه الفطرة، الفطرة تَمَنّ، الفطرة مَيل، الفطرة محبة، أما إذا تخلَّق بهذا الخُلُق أصبح ذا صبغة.
 

الفتوَّة بالشباب:


ذكرت اليوم لبعض الإخوة أن الشركات الضخمة التي تُعلِّق أهميةً كبرى على تفوُّقها تعتمد على الشباب، الشباب طاقة كبيرة جداً، طاقة هائلة، فإذا رُشِّـدت ووجِّهت آتت أُكلها ضعفين، لذلك قال تعالى:

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾

[ سورة الكهف  ]

﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)﴾

[ سورة الأنبياء ]

ريح الجنَّة في الشباب، ولعلَّ النبي عليه الصلاة والسلام أراد بُعداً عميقاً جداً حينما عيَّن قائدَ جيشٍ شاباً لا تزيد سِنُّه عن ثمانيةَ عشر عاماً، وكان تحت إمرة هذا الشاب سيدنا عمر ابن الخطاب، وسيدنا عثمان بن عفَّان، وسيدنا عليّ بن أبي طالب، كبار الصحابة تحت إمرة هذا الشاب، بل إن الصديق رضي الله عنه مشى في رِكابه، فلمَّا رأى خليفة المسلمين يمشي وهو راكب قال: والله يا خليفة رسـول الله لتركبن أو لأنزلن؟ قـال: والله لا ركبت ولا نزلت وما عليَّ أن تغبرَّ قَدَمايَ سـاعةً في سبيلِ الله، أراد الصّدِّيق رضي الله عنه أن يُبقي عمر، دقِّق في النظام التسلسلي أليس بإمكانه أن يقول له: يا عمر ابقَ معي؟ عمر جندي تحت إمرة قائد اسمه: أسامة، فلابدَّ من أن يستاذن أسامة في أن يسمح له بعمر، قال: يا أسامة أتأذن لي بعمر أن يبقى معي؟ لماذا عيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أسامة بن زيد وتابع هذا التعيين سيدنا الصديق؟ ليُشْعِرنا أن الشابَ إذا عرف الله كان شيئاً كبيراً، ما من شيءٍ أكرم على الله من شابٍ تائب، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب التائب، يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي، ورد في الأثر أن أُحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد، فإذا الإنسان كان يغلي بالميول والرغبات وضَبَطها في سبيل الله، هو الدين كله ضبط، تقريباً للتوضيح، أي شهوة مفتوحة مئة وثمانون درجة، يوجد زاوية محدودة مسموح بها، شهوة الجِنس مفتوحة مئة وثمانون درجة، يوجد زاوية أربعون درجة هي الزواج، من هو المؤمن؟ هو الذي ضبط شهوته في هذه الزاوية المشروعة، شهوة المال مئة وثمانون درجة، مفتوح منها أربعون درجة الكسب المشروع، فالدين كله ضبط هذه الشـهوات من مئة وثمانين درجة إلى أربعين درجة، ثلاثون درجة، هذه مسموح بها، هذا الشيء المشروع، هذه القناة النظيفة، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة:

﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)﴾

[ سورة هود ]

الذي بقيَ لك من هذه الشهوة ما سمح الله لك به، هذا هو الخير، الخير في الزوجة، والخير في المال الحَلال، والخيرُ في العمل الطيِّب، والخير في التفوُّق في الدين، الإنسان يحبّ التفوُّق، إن تفوَّق في الدين كان هذا التفوق مستمراً.
 

الصَّفْحُ عن الزلاَّت أول صفة من صفات الفتوة:


أجمل نقطة في الدرس أن الخط البياني للمؤمن صاعد صعوداً مستمراً، حتى لو مات، وما الموت إلا نُقطة على هذا الخَط الصاعد، بينما غير المؤمن خطُّه البياني صاعد صعوداً حاداً، وبعد هذا الصعود الحاد هناك هبوطٌ وسقوطٌ مريع: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ ، ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ قال الفُضَيْل بن عياض: الفتوَّة الصفح عن عثرات الإخوان، هذه فتوة، بطولة، مروءة.

إذا خَـلـيـلَـيَّ لــم تـكـثـــُر جـنـايـتـــــــه        فأيـن موضع إحسـاني وغُفرانــي؟

ما كنت مُـــذ كنْـــت إلا طـــوْعَ إخواني        ليـست مؤاخذة الإخوان مـن شانِ

[ أبو فراس الحمداني ]

* * *

أول صفة من صفات الفتوة الصَّفْحُ عن الزلاَّت، هو يعامل الله عزَّ وجل، قال لي أخ اليوم: ما موقف مؤمن أحسـن إلى إنسان ثم أساء إليه؟ أحسن لهذا الإنسان، وهذا الذي تلقَّى الإحسان بالغ بالإساءة إلى المحسن، قلت: والله إن كان يُحسِن إليه فهي خَيْبَةُ أملٍ مُرَّة، وإن كان يعمل لله لا يتأثَّر أبداً، إن كنت ترجو رحمة الله، رحمةُ الله واصلة ومحقَّقة، هو شَكَر أو لم يشكر، قدَّر أو لم يقدِّر، ورد في الأثر أن اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، إن أصبت أهلـه أصبت أهله، وإن لم تُصِب أهله فأنت أهله.
إذا كان إخلاصك عالياً لا تتأثَّر بردود الفعل إطلاقاً، إذا إنسان شكرك قل: جزاه الله خيراً، لم يشكرك قل: أنا عاملت الله، حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الفُضَيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان. 
 

تعريف الفتوّة عند أهل العلم:


قال الإمام أحمد: ترك ما تهوى لِما تخشى.
يوجد إنسان أحياناً يكون عمله في الطِّب، يترك أكلة لذيذة جداً، خشية أن تُسهم في إضعاف قوته، أو إضعاف شرايينه، أو ضيق لَمعة الشريان، يخاف من المواد الدسمة مع أنها لذيذة جداً، يخاف أن تَسْلُك في شرايينه سلوكاً فتضيق لمعتها، فيدخل في متاعب لا حصر لها، إذاً ترك ما تهوى لما تخشى.
وقال بعض العلماء: الفتوَّة حُسْنُ الخُلُق، وقال بعضهم الآخر: الفتوة كفُّ الأذى وبذل النَّدَى، وقال بعض الأئمَّة: الفتوة هي اتباع السُّنَّة.
منهج كامل، اتباع السُّنَّة هي الفتوَّة، وقال بعضهم: الفتوة فضيلةٌ تأْتيها ولا ترى نفسك فيها، اسمحوا لي بتعليق أنا أتمنى أن يتخلّق به كل مؤمن، إن فعلت خيراً يجب أن تنساه وكأنَّك لم تفعله، وإن صُنِعَ معك معروف يجب ألا تنساه مدى الحياة، هذا خُلُق راقٍ جداً، هناك أُناس إذا فَعل معروفاً لا يزال يذكره، ويُبَالِغ فيه، ويُمنِّن، إلى درجة أن الطَّرف الآخر يكاد يخرج من جلده، وإذا فُعِل إليه معروف، يقول لك: الفضل لله، أنا لا يوجد إنسان له فضل عليّ، لكن اسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: مَنْ لمْ يشْكُر النَّاسَ لَمْ يشْكُر اللّه. ))

[ صحيح  الترمذي  ]

قال: الفتوّة فضيلةٌ تأْتيها ولا ترى نفسك فيها، وقيل: الفتوة ألا تَحْتَجِب ممن قَصَدَك، قل له ليس هنا، سهلة، بابا فلان؟ قل له: ليس هنا، مساءً اسحب قابس الهاتف، يتصلون قدر ما يريدون، لست فتى، لست في هذه المرتبة، إذا حَجبت نفسك عمن قصدك، هذا الذي قصدك ساقه الله إليك، إذا أحبَّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه، إذا قصدك الناس فهذا فضلٌ من الله عزَّ وجل، ألا تحتَجب ممـن قصدك أو ألا تهرُب إذا أقبل طالب المَعْروف، وقيل: الفتوّة إظهار النعمة وإسرار المِحنة، وقيل: الفتوة ألا تدَّخر وألا تعتذِر؛ أي لا تفعل عملاً تحتاج أن تعتذر منه، وألا تدَّخر وسْعاً، أي بإمكانك أن تقدم خدمة لهذا الإنسان، لا أعرف، انتهت، تعرف فلاناً؟ لا أعرفه، انسحبت، هل أنت فارغ الوقت؟ لا، لست فارغاً، هل معك؟ لا، ليس معي، فأنت ادَّخرت وسعاً، لم تبذله في سبيل الله، أو فعلت عملاً تحتاج أن تعتذر منه، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن عكرمة بن خالد عن سعدٍ أنه قال لابْنِهِ عندَ الموتِ يا بُنَيَّ إِنَّكَ لن تلْقَ أحدًا هو أنصَحُ لكَ مِنِّي إذا أردتَّ أن تصلِّيَ فأَحْسِنْ وضوءَكَ ثمَّ صَلِّ صلاةً لا تَرَى أنكَ تُصَلِّي بعدَها وإيَّاكَ والطَّمَعَ فَإِنَّهُ فقْرٌ حاضِرٌ وعليكَ بِالإيَاسِ فَإِنَّهُ الغِنَى وَإِيَّاكَ ومَا يُعْتَذَرُ إليه من العملِ والقولِ واعملْ ما بدا لَكَ. ))

[ مجمع الزوائد: خلاصة حكم المحدث: رجاله رجال الصحيح ]

الفتى كما عَرَّفه بعضهم أرضٌ خيِّرة مِعْطاءة، لذلك قالوا: الفتوة استرسال الناس في فضلك، أي الكُل يطمع فيك، يطمعون بحلمك، يطمعون بكرمك، يطمعون بقلبك الواسع، يطمعون بحبَّك للخير، يطمعون برحمتك، فإذا استرسل الناس في فضلك فأنت فتىً، وهذه مرتبة عالية عند الله، طبعاً هم لا يسترسلون بفضلك إلا إذا استرسلت أنت معهم، أعطيتهم وجهاً باشَّاً، أعطيتهم عبارةً لطيفة، يقول له: أنا بخدمتك، أنا سعيد جداً لأنني خدمتك، إذا احتجت شيئاً ارجع إليّ، هذا الكلام الطيب استرسلت معهم فاسترسلوا في فضلك.
ولم تجذب عنهُم عنانك، الإنسان أحياناً يُقَطِّب، يكفهر، يتَجهَّم، الضيف لن يعيدها، لا يبالي، يسوِّف، يُماطل، يتأفَّف، يغضب، صرف الناس، صرف الناس سهل جداً.
اسمعوا هذه الكلمة أيها الإخوة؛ ألف تصرُّف ذكي، ومخلص، ورحيم، يشدّ الناس لك، تصرُّف واحد لئيم يسْلَخهم عنك، الفتوَّة أن تسع الناس بخلقك، قيل: إنكم لن تَسَعَوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، الله عزَّ وجل أمر النبي الكريم قال له:

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾

[ سورة الأعراف  ]

إذاً أن تَسَعَ الناس، أن يكون لك قلبٌ كبير، أن تَحْلُم عليهم.
إخواننا الكرام؛ كاد الحليم أن يكون نبياً، الحلم سيد الأخلاق، الحلم أعلى درجات الضبط، أعلى درجات الضبط هو الحِلم، ضابط أمورك، والإنسان أحياناً يخرب بكلمة واحدة ما بناه في عامٍ بأكمله، بل قال بعضهم: الفتوة أن تَدَع الناس يطَؤون عليك من شدة لينك وتواضعك وخَفْض جناحك.
يروون أن أحد العلماء كان يمشي مع إخوانه، يبدو أن بعض جواربه نزل، فهناك أخ ابتسم، قال له: ما الذي يدعوك إلى التَّبَسُّم؟ فاستحى، فنظر الشيخ فرأى جرابه قد نزل، فقال: اللهمَّ أضحكه وأدخل على قلبه السرور، يوجد تواضع، يوجد كثير من المواقف، مرة سيدنا عمر-هكذا قرأت-يمشي في المسجد في الليل، كان غير مُضاء، يبدو أنه داس على قدم أحد المُصلين، غضب المصلي، أو هو في حالة غفلة، قال له: أأعمى أنت؟ قال له: لا، لست أعمى، فقال رجل لسيدنا عمر: معقول؟! فقال له سيدنا عمر: سألني فأجبته، هناك صدر واسع، هناك رحمة، هناك حُب، غلط الرجل، تجاوز حدّه، يرحمه ولا ينتقم منه، قال: الفتوّة ألا تترك لنفسك بينهم رتبةً تتقاضاهم، أنت من مستواهم، إذا أنت رفعت نفسك فوق الناس، وفرضت عليهم مقاماً معيَّناً، وهيمنة معيَّنة، وكهنوتاً معيَّناً، وإذا لم يؤدوا طقوس الاحترام تغضب عليهم، وتُوبِّخهم، وتعنِّفهم، هذه مرتبة تتناقض مع الفتوة، الفتوة أن تكون واحداً منهم.
 

التطبيق العملي للفتوة:


(( دخل أعرابي إلى النبي، وقال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ   قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ أَجَبْتُكَ» فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ». فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ». فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.  ))

[ صحيح البخاري ]

كم تفهمون من هذا النَص ((أيكم محمد؟)) والله أحياناً ترى رجل دين، يلبس ثياباً بمئتي ألف، في بعض الدَّيانات بمئتي ألف ثمن ثيابه، أما إذا كان لباساً عادياً، وجلسة عادية، ليس له ولا ميزة، أيكم محمد؟ هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: عليَّ ذبحها، فقال له الثاني: وعليّ سلخها، فقال الثالث: وعليّ طَبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليّ جمع الحطب، قالوا: نكفيك ذلك؟ قال: أعلم أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه,
 

الدين كله أدب وحياء واحترام:


طبعاً هناك تحفُّظ لابدَّ منه، إذا أنت ليِّن، وكريم، ورحيم، وصدرك واسـع، وترحم الناس، وتتحمَّلهم، وتسعهم بحلمك، ولا تحرجهم، ولا تضيِّق عليهم، لكن هذا الاسترسال في لينك، وذاك الاسترسال في فضلك، أنت استرسلت بلينك، وهم استرسلوا بفضلك، هذا اللين وذاك الفضل يجب ألا يخرج عن حدود الشَّرع وآدابه، بحيث لا تحمِلُهم على تعدّي حدود الله. 
قال رجل: والله لزمت دروس العلم عشرين سنةً، أمضيت ثمانية عشر عاماً في تعلُّم الأدب، وأمضيت عامين في تعلُّم العِلم، أما الآن كنتُ أتمنى أن أُمضي عشرين سنةً في تعلُّم الأدب، الدين كلَّه أدب، الدين كله حياء، الدين كله احترام، ممكن أن تسأل بأدب، ممكن أن تَصل إلى كل أهدافك بأدب، بسؤال لطيف، بتعليق لطيف، تستفهم، وقد تعترض، وقد تنتقد، وقد تناقش لكن بأدب، دون أن تُجَرِّح، دون أن تطعن، دون أن تؤذي، دون أن تُحْرِج.
 

الفتوَّة هي الحِفاظ على القلب مع الله ودوام الإقبال عليه:


أيها الإخوة؛ الفتوَّة الحِفاظ على القلب مع الله، ودوام الإقبال عليه، فإن كنتَ كذلك أنت مع الناس مسترسلٌ برسمك وصورتك، أنت معهم في صورتك وفي جسمك، ولكنك لست مع سقطاتهم ولست مع وحولهم، هذا ينقُلنا إلى تعبيرين لطيفين، يجب أن تكون في برجٍ عاجيٍّ أخلاقي، لا أن تكون في برجٍ عاجيٍّ فكري، يجب أن تعيش مع الناس، وأن تخالطهم، وأن تصلحهم، وأن ترشدهم، وأن توجِّههم، لكن يجب ألا تكون معهم في سقوطهم، أنت في منأى عن سقطاتهم، منأى عن وحولهم، لكنك معهم لتأخذ بيدهم إلى الله عزَّ وجل، ثم منتبه، لا تسمح لأحدٍ أن يجرَّك إليه، قال تعالى:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63)﴾

[ سورة الفرقان ]

ما معنى ﴿هَوْناً﴾ ؟ أي في بطء، السنة خلاف ذلك كان إذا سار أسرع، كان إذا مشى كأنَّه يَنْحَطُّ من صبب، والآية ﴿هَوْناً﴾ قال علماء التفسير: هوناً؛ أي لا يسمحون لمشكلةٍ أن تأخذهم، ولا لشغلٍ أن يأخذهم، ولا لهَمٍّ أن يسحَقهم، هدفهم كبير، وطريقهم واضحة، فيمشون هوناً؛ أي يفكرون لماذا خُلِقوا؟ من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ يُفكِّرون في رسالتهم في الحياة، دائماً السائق يراقب، مرة يراقب الطريق من أمام، مرة على اليمين، مرة على اليسار، ومرة ينظر في المرآة ليرى مَن خلفه، هذه المراقبة الدائمة تجعله على الطريق، وعلى اليمين، وفي سلام، والمؤمن يراقب، هل هناك موقف غَلط؟ هل هناك موقف فيه تقصير؟ هل هناك موقف فيه خيانة؟ هل هناك موقف فيه شُبُهَة؟ إذا لم يراقب نفسه يتورَّط ويقع في شرِّ عمله. 
 

من أراد أن ينقل الحق للآخرين يجب ألا يسـتعلي عليهم: 


قال: الفتوة ألا تشهد لك فضلاً، وألا ترى لك حقاً، هناك شخص نَصَّب نفسـه فوق الناس، يجب أن تعرفوا فضلي، لي حقّ عليكم، قال: الفتوة ألا تشهد لك فضلاً، وألا ترى لك حقاً، أن تفنى بشهادة نقصِك وعيبك عن فضلك، وتغيبَ بشهادة حقوق الخَلق عليك عن شهادة حقوقِك عليهم، أي حق الآخرين عليك كبير جداً، وحقُّك عليهم صغير جداً، أن تشهد بفعلهم معك لا بفعلك معهم، أيْ إنكار الذات، الفتى إن أنكر ذاته فالله يعرفه.
مرَّة جاء أحد الرُّسُل من معركة نهاوند خاطب سيدنا عمر، قال له: ماذا جرى؟ قال: مات خلقٌ كثير، قال: من هم؟ قال: أنت لا تعرفهم، قال: ما ضَرَّهم أَني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم؟! أي يجب أن تغيب عن ذاتك، عن شهود عَملك، وأن تكون متفانياً في شهود عملِ الآخرين، أن تكون غائباً عن شهود فضلك عليهم وحقِّك عليهم، وأن تكون مُتَفانياً بشهود حقِّهم عليك وفضْلِهم عليك، هل تصدِّقون أن النبي عليه الصلاة والسلام أُمِر أن يحاوِرَ الطرف الآخر وكأنه مثلهم؟

﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)﴾

[ سورة سبأ ]

إذا النبي سيِّد الخلق، قمة المجتمع البشري يُخاطب كافراً، مُشركاً، شارب خمر، عابد صنم، قال له: الحق معي أو معك؟ تعالَ كي نتحاور، الحق معك أو معي، أي النبي جعل الطرف الآخر في مستواه تماماً، هكذا الأدب، إن أردت أن تنقل الحق للآخرين يجب ألا تسـتعلي عليهم. 
الإمام الشـافعي له كلمة يقول: الحق معي وقد أكون مُخْطِئاً، وخَصمي مُبطل وقد يكون مُصيباً، اترك احتمالاً، أنت على حق، هذا جيد، أحياناً تُخطئ، وقد أكون مخطئاً، وخصمي مبطل وقد يكون مصيباً.
إخواننا الكرام؛ الناس في هذا مراتب، أشرفُها أهل هذه المرتبة؛ أن تتفانى في رؤية حقّ الناس عليك، وأن تتفانى في رؤية فضل الناس عليك، وأن تَغيب عن رؤية حقِّك عليهم وفضلك عليهم، هذه أعلى مرتبة، أخسُّ هذه المراتب أن ترى فَضْلك عليهم وألا ترى فضلهم عليك. 
هناك مثل وإن كان قاسياً؛ هذا الذي أعطيته مالاً فأنت ارتقيت إلى الله، ألك فضلٌ عليه؟ هناك من يرى العَكس، لولا أنه قَبِلَ مِنك هذا المال لحرمك هذا العمل الصالح، إنسان عَلَّمته، لو لم يقبل أن تُعلّمه لا يوجد عندك شيء، فالذي قبل أن يتعلَّم منك له فضل عليك، الذي قَبلَ أن يأخذ منك له فضل عليك، كن بهذا المستوى، قَبِل أن يأخذ منك، قَبِل أن يتعلم منك، معنى هذا أنه فضّل عليك، لو لم يقبل أن يتعلم منك مشكلة، هكذا يجب أن تكون نفسية الداعية، أنت في خدمة الخلق، كان عليه الصلاة والسلام يشرب آخر أصحابه، وكان في خدمتهم، وكان يصغي الإناء للهرَّة، وكان يرفو ثوبه، وكان يكنس داره، وكان في خدمة أهله-في مهنة أهله-، وتأخذ بيده الجارية، أحياناً طفلة صغيرة تأْخُذك، رجل عظيم بمكتبه، مدير شركة، مدير مؤسسة، قد يكون وزيراً، يدخل للبيت، ابنته أحياناً تطلب منه طلباً، مرة كنت ببلد في الخليج، مدير أضخم شركة في الخليج، شركة بمستوى دولة، جاءه هاتف، أنا لم أعرف من كان يكلِّم، قال لي: هذا الأفندي أعطاني توجيهات أن أوصله لعند رفيقه وأرجع، كان له ابن صغير بالحضانة، قال له: على عيني بابا، الرجل الكبير في بيته واحد من أهل البيت، يعاون بكل شيء، يجلِس مع أولاده، وقد يركبون على ظهره، هكـذا فعلوا مع النبي، كانوا يرتحلونه، كان إذا دخل بيته بَسَّاماً ضَحَّاكاً، كان يقول: أكرموا النساء، ما أكرمهنَّ إلا كريم، ولا أهانهنَّ إلا لئيم، كان يقول: إِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ، إذا دخل أحدنا بيته فهو واحد من أهل البيت، قد يأكل آخرهم، جاء لأهله ضيوف لا مانع أن تأكل منفرداً، ما الذي حصل؟ هناك أشخاص يعمل في البيت هَيْمنة، وعظمة، وسلطنة، وكَهَنوت، لا، كُلْ بنفسك، الزوجة مريضة اخدمها أنت، أحياناً ابنك جاءه ضيف، أحياناً الأب يحس ابنه أنه هو وأبوه قطعة واحدة.
 

ما يتعلق بمرتبة الفتوة:


قال: هذه المرتبة أرقاها أن تتفانى في رؤية فضل الناس عليك، تتفانى في رؤية حقهم عليك، وأن تغيب عن رؤية حقك عليهم، وفضلك عليهم.
أخسُّ هذه المراتب أن ترى فضلك عليهم ولا فضل لهم عليك، وأن ترى حقَّك عليهم وألا ترى لهم حقَّاً عليك.
هناك مرتبة وسط، أنا أقول: الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، وهناك أقوياء أخذوا ولم يُعطوا، وهناك وسط، أخذ وأعطى، هناك إنسان أعطى ولم يأخذ، اللهمَّ صلّ عليه سيد الخلق، الذي عاش للخَلق، الذي ترك حينما توفَّاه الله عزَّ وجل أي نشر الفضل، نشر الخير، نشر الإيمان، نشر الهدى، أين سكن؟ ماذا رَكِب؟ إلى أين سافر؟ كان بيته إذا أراد أن يصلي لا تسمح مساحة غرفته أن يصلي، وأن تبقى زوجته نائمة، بيت صغير جداً.
قال: أوسطهم من شهد هذا وذاك، أي عرف حقه على الناس وحق الناس عليه، وفضله على الناس وفضل الناس عليه.
ذات مرَّة قَدِم أخ من أمريكا، ليس عنده إلا أن يمدح، يمدح، يمدح، قلت له: أنا أطلب منك شيئاً، كلَّما ذكرت ميِّزة تكلَّم عن سيئة، إذا كنت علمياً، وكلمَّا تكلَّمت عن سيئة في الشرق تكلَّم عن ميِّزة، ساعتها أسمع منك، أما كل السلبيات تتكلم بها عن بلادك والإيجابيات كلها عن الغرب، ألا توجد هناك سلبيات؟ ألا توجد جرائم؟ ألا يوجد تفكُّك أسرة؟ ألا يوجد انهيار مجتمعات؟ ألا يوجد شـيوع جريمة؟ ألا يوجد شذوذ؟ ألا يوجد زنا محارم؟ كل شيء عندهم، إن تكلَّمت عن ميِّزة تكلَّم عن سيئة، وإن تكلَّمت عن سيئة في الشرق تكلَّم عن ميِّزة، ألا يوجد تماسك أُسَر؟ ألا يوجد بقية أخلاق؟ ألا يوجد بعض الحياء؟
 

مظاهر مرتبة الفتوة:


من مظاهر هذه المرتبة تركُ الخصومة، والتغافُل عن الزَّلَّة، ونسيان الأذيَّة، فلا يُخاصم بلسانه، ولا ينوي الخصومة بقلبه، ولا يُخطرها على باله، هذا في حقّ نفسه، وأما في حقّ ربه أن يخاصم بالله، وفي الله، ويحتكم إلى الله، كما كان النبي عليه الصلاة والسـلام يقول:

(( عن عبد الله بن عباس: اللَّهمَّ لكَ أسلَمْتُ وبكَ آمَنْتُ وعليكَ توكَّلْتُ وإليكَ أنَبْتُ، وبكَ خاصَمْتُ، أعوذُ بكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ أنْ تُضِلَّني أنتَ الحيُّ الَّذي لا يموتُ والجنُّ والإنسُ يموتونَ. ))

[ صحيح ابن حبان: خلاصة حكم المحدث، إسناده صحيح ]

أيها الإخوة؛ هناك عمل لعلَّه فَوق طاقة عامَّة المؤمنين، قال: المُعاكسة البنَّاءة؛ أي إنسان أساء لك تُحسن له أنت،

(( أُمرت أن يكون صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ونظري عبرةً، وأن أعفوا عمَّن ظلمني، وأُعطي من حرمني، وأن أصل من قطعني. ))

[ مشكاة المصابيح للتبريزي بألفاظ قريبة مما ذكر، وقال: رواه رزين.ويؤيده ما جاء في مسند الإمام أحمد  ]

هذه مرتبة عالية جداً؛ أيْ أن تقرِّب من يُقْصيك، وأن تُكرّم من يؤْذيك، وأن تعتذر إلى من يجني عليك سماحةً لا كَظْماً. 
 

الخُلُق العظيم يرقى بالأنبياء والخُلُق الحَسَن يرقى بنا إلى الله:


أيها الإخوة؛ آخر فكرة بالدرس عندما مدح الله عزَّ وجل النبي بماذا مدحه؟ بالخُلُق، ألم يكن النبي قائداً فذّاً؟ فعلاً، ألم يكن قاضياً حكيماً؟ ألم يكن متكلِّماً بارعاً؟ ألم يكن رجل سياسية من الطراز الأول؟ ألم يكن زعيماً سياسياً؟ ألم يكن قائداً عسكرياً؟ ألم يكن ذكياً ذا فطانةٍ عَجيبة؟ ألم يكن ذا ذاكرةٍ مُذْهلة؟ لكن كل هذه الصفات ما مُدِحَ بها، لكنه مُدِحَ بخُلُقه العظيم، قال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

لأن كل هذه القُدرات من الله عزَّ وجل أما الخُلُق مِنْه، الخُلُق عملية معاكسة للميول، الحلم عملية ضَبْط، والكَرَم معاكسة لحُبّ المال، والشجاعة مُعاكسة لحبّ السلامة، والحُلم معاكسة للانتقام، فالأخلاقي إنسان ضابط أموره، ضابط مشاعره، ضابط حواسه، ضابط لسانه:

احـفـظ لسانـك أيـها الإنســـــــانُ           لا يـلـدغـنَّـك إنـه ثـُـعـبـــــــــانُ

كم في المقابر من قتيل لســانــــه           كانـت تهاب لقاءه الشجعــــان؟

[ الشافعي ]

* * *

إذاً لمَّا مُدِحَ النبي عليه الصلاة والسلام بِحُسْن الخُلُق، معنى ذلك أن الخُلُق من كَسْبِهِ، أما القُدرات العالية جداً التي وهبَه الله إيَّاها من أجل الدعوة هذه مِن الله، ما الذي مِنه؟ حُسن الخلق. 
ممكن أب يشتري لابنه سيارة، ويقيم حفل تكريم لابنه بمناسبة أنه اشترى له سيارة؟! هذا حفل تكريم مضحك، اشترى بيتاً لابنه، أقام حفل تكريم لابنه، لأنه تملَّك بيتاً، البيت منك، أما إذا ابنه أخذ الدرجة الأولى في الدراسة، وأقام له حفل تكريم، صح، لأن هذا من الابن، الدراسة والتفوق من الابن، أما المركبة والبيت من الأب، فلا معنى لتكريم الابن باقتناء بيت، أو باقتناء مركبة، أما معنى هناك معنى كبير إذا كرَّمت ابنك لأنه تفوَّق في دراسته، هذا المعنى في قضية: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ الخلق العظيم كَسْبي، أما القُدرات الفكريَّة، والذاكرة، وطلاقة اللسان، والفصاحة، والحِكمة، وحُسن السياسة، هذه إمكانات أعطاها الله للأنبياء لينقلوا هذه الدعوة للناس، وسائل نشر الدعوة.
يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة محدودة جداً، فوُجِّهت أنه إذا دَخَل عليكِ، قولي:

(( عَنْ عَائِشَةَ  : أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ».  ))

[ صحيح البخاري ]

هذه دعوة، إذا كانت إنسانة محدودة إلى هذه الدرجة، قد تسيء في نقل الدعوة، فالنبي لم يُبْقِها عنده، فإذاً الدعوة تحتاج إلى فطانة، تحتاج إلى اهتمام، تحتاج إلى إدراك عميق، تحتاج إلى إحاطة بالأمور، تحتاج إلى فَهم مُرَشَّد لكل القضايا، هذه من وسائل الدعوة، لذلك الله عزَّ وجل يهبها للأنبياء. 
ما الذي يرقى بالأنبياء؟ الخُلُق العظيم، ونحن ما الذي يرقى بنا إلى الله عزَّ وجل؟ الخُلُق الحَسَن، ومَنْ زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان.
أيها الإخوة؛ أرجو الله سبحانه وتعالى كما أقول في أي درس أن تنقلب هذه الحقائق إلى سلوك، وإلى واقعٍ نعيشه، نرقى بهذه الخُلُق. 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور