وضع داكن
13-08-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 078 - الحياة - 2 الفرق بين الأخلاقي واللا أخلاقي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الحياة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، وقد سبق وأن تحدَّثنا عن منزلة الحياة، وهذا الدرس جزءٌ ثان لِمَنزلة الحياة التي عدَّها مؤلّف الكتاب أحد مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
أيها الإخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء أحدُ كبار العلماء يقول: الإيمان هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان، ولعلّه قال هذا القول استنادًا إلى أنّ الله جلّ جلاله حينما أثْنى على نبيِّه المصطفى صلى الله عليه وسلّم أثْنى عليه بِخُلقِه العظيم، مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان قائدًا، وكان زعيمًا، وكان محاربًا، وكان زوْجًا، وكان مجتهدًا، وكان قاضيًا، وكان وكان، كلّ هذه الخصائص الفائقة المتميّزة أغفلها القرآن الكريم حينما أثنى على نبيِّه صلى الله عليه وسلّم، أثنى عليه بِخُلقه العظيم.
 

ثناء الله على النبي بخلقه العظيم:


لعلّكم تتساءلون ما السبب؟ السبب أنّ كلّ هذه القُدرات الفائقة التي تحلّى بها النبي إنّما منَحَهَ الله إياها لِتَكون أداةً فعّالةً في دعوته، هي ليسَتْ منه، من الله، قد يُعطيك الله ذاكرةً دقيقة جدًّا، قال تعالى:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)  ﴾

[ سورة الأعلى  ]

كان عليه الصلاة والسلام إذا نزلَت عليه السورة حفظها من أوّل مرّة، هذه قدرة عاليَة جدًّا، هذه القدرة هي هبة من الله، آتاه الحكمة هبة من الله، آتاه قوّة القلب، آتاه حُسْن القيادة، آتاه الرحمة، قال تعالى: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

لكن بماذا أثنى عليه؟ أثنى عليه بما هو منه، بما هو من كسْبِهِ، بما هو نتيجة انتصاره على نفسه، إذًا لا يُعْقَل أن يمْنَحَ أبٌ ابنه سيارةً، ثمّ يُقيمُ حفلاً تَكريميّا لهذا الابن، لأنّهُ مُنِحَ هذه السيارة، ليس له أي دور هذا الابن إلا أنه أخذ هذه السيارة واستمْتَع بها، أما إذا نجَحَ الابن بِدَرجة عاليَةٍ جدًّا في الامتحان يُقام له حفل تكريم، لأنّ هذا التفوّق في النجاح من جهده.
إذًا اِجْعَل في ذِهْنك أنّ الذي يرفعُكَ عند الله تعالى لا ذكاءٌ فِطري منحهُ الله إياك، ولا شكلٌ وسيم جبلكَ الله عليه، ولا قدّ رشيق، ولا نسبٌ عريق، ولا إمكانات عاليَة، ولا ذكاءٌ عالٍ، ولا عقلٌ راجح، هذه كلّها خصائص خصّ بها بعض عباده، فهذا العبد إذا أراد أن يفتخر لا ينبغي أن يفتخر بشيءٍ ليس من عنده، لكن بماذا يفتخر الإنسان؟ يفتخر بأخلاقه، لذلك الخُلُق هو الإيمان، الإيمان كَسبي، والخُلُق كَسْبي، وهذا الذي أراده الله عز وجل حينما أثْنى على نبيِّه فقال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

 

قاعدة الخُلق العظيم:


يوجد نماذج الحقيقة مؤلمةٌ جداً، يصلّي، ويصوم، ويحجّ البيت، ويؤدّي الزكاة، وطبْعُهُ شرس، كلماته قاسيَة، قلبهُ قاسٍ كالصَّخْر؛ لا يلينُ، لا يرحم، لا يتساهل، لا يبش، لا يبتسم، ما قيمة هذا الإيمان؟ وما قيمة هذه العبادات إن كنت أداة تنفير للمجتمع؟ قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
بالمناسبة أيها الإخوة؛ هناك قاعدة لهذا الخُلق العظيم، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ أي يا محمّد بِسَبب رحمةٍ اسْتقرَّتْ في قلبك من الله، من خلال اتِّصالك به كنتَ ليِّنًا لهم، الرحمة شيء غير مرئِيّ، أما اللِّينُ فهو شيءٌ مَرئيّ، أي منعكسُ الرحمة اللِّين، منعكسُ الرحمة التساهل، منعكسُ الرحمة الإشفاق، منعكسُ الرحمة الخِدْمة، منعكسُ الرحمة العفو، منعكسُ الرحمة الحلم، منعكسُ الرحمة العطاء، الرحمة شيءٌ داخلي.
الآن إنسانة تنام وقد عملَت عملاً شاقًّا، وإنسانةٌ أخرى تنام جنبها، إذا بكى طفل الواحدة استيقظت أمّه، لماذا؟ لأنَّ الله أوْدَع في قلبها الرحمة، لا يهدأ لها نوم إذا كان ابنها يبكي، الرحمة شيء لكن لا يظهر إلا منعكساته، تظهر منعكسات الرحمة، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ .
بالمناسبة أيها الإخوة؛ أعود وأقول وأُكرّر،

(( عن جرير بن عبد الله: من لا يرْحَمُ لا يُرْحَمُ. ))

[ صحيح البخاري ]

صاحب القلب القاسي بعيدٌ عن الله عز وجل.
 

علامة إيمانك رحمةٌ في قلبك ترحم بها عباد الله:


علامة إيمانك رحمةٌ في قلبك ترحم بها عباد الله بل ترحم بها خلق الله، مرّة مررْتُ أمام بائع دجاج يذبحُ الدجاجة، ويضعها فورًا في ماءٍ يغلي، من أجل أن يسهُل عليه نتْفُ ريشها، في ماءٍ يغلي! مخلوق لها إحساس، ذبحتها وأحرقتها بالماء الذي يغلي: ((من لا يرْحَم لا يُرْحم)) علامة اتِّصالك بالله رحمتك، الله رحيم، كلّ من اتَّصل به اشتقَّ من رحمته، فإن اتَّصلْت به أصبحت رحيمًا، العكس وإن لم تكن رحيمًا فهذا دليل أنَّك لسْتَ متصلاً به، دليل قطعي، وعليه الصلاة والسلام لحكمة بالغة قال،

(( عَنْ أبو حاتم المزني: إذا أتاكم من تَرضَون دِينَه وخُلُقَه فأنكِحوه إن لا تفعلُوه تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ. قالوا: يا رسولَ اللهِ وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكُم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فأنكِحوهُ. ))

[ خلاصة حكم المحدث: حسن إرواء الغليل: أخرجه الترمذي  ]

أضاف إلى الدِّين الخُلق، قد يصلِّي صلاةً شَكليّة وقلبهُ قاسٍ كالجلمود، هذا عند الله مَطرود، وقد يصوم صيامًا شَكليًّا، وهو متكبّر عتُلٌّ جبّار، وقد، وقد، ((إذا جاءكُم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فأنكِحوهُ)) .
 

الإيمان هو الخُلق:


سألت مرَّةٍ أخاً لماذا يفحصون من يرغب نَيل إجازة سياقة الشكل التالي: يُكَلِّفونه أن يرجع بالمركبة إلى الوراء، وفي طريقٍ ضيِّق لا يزيد عن عرض عجلات السيارة، والطريق على شكل S، منعطفات، وهناك علامات على طرفيّ الطريق، فلو أخطأ عدّة سنتيمترات، وأبعد هذه الإشارة عن مكانها يرسب، سؤال دقيق، هذا أصعب شيء بالقيادة؛ أن ترجع إلى الوراء في طريق ضيِّقٍ جدًّا، وهناك علامات تظهر واضحةً إذا أخطأت، والطريق متعرِّج، فإن أحسنْتَ الرّجوع فقد تُحْسنُ أيَّ نوعٍ من القيادة،

(( عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي، وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ. ))

[ صحيح الترمذي ]

الإنسان خارج بيته يوجد قواعد عامّة، إذا تجاوَزَ الإشارة هناك شرطي، وإذا تهجَّم على إنسان هناك محكمة، وإذا استعلى على مدير عملهِ يطردهُ، وإذا تكلّم كلمة بذيئة يحتقرهُ الناس، وإذا ضرب من دونه يحقد عليه الناس، هناك روادع وهناك ضوابط، أما في البيت لا يوجد من يُحاسبُه، هو ربّ الأسرة، فإذا انضبط الإنسان في بيته، وكان أخلاقياً، وكان رحيمًا، وكان متواضعًا، معنى ذلك أنّه في الأعمّ الأغلب منضبط خارج المنزل، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)) .
أنا والله أعجبُ أحيانًا أستمع إلى قصص لِهَوْلها لا تُصدّق، إنسان يضرب زوجته ضربًا مبرِّحًا وهو يُصَلِّي؟! يضرب زوجته أمام أولاده وبناته، أو يحقِدُ على أولاده فيطردهم خارج المنزل ولا يعبأ أين ناموا؟ ومع من أقاموا؟ ويُصلّي!! هذا القلب القاسي ما ذاق طعْم الصلاة، هذا القلب القاسي ما ذاق طعم القرب من الله عز وجل، الله رحيم، كلّ من اتَّصل به اشْتقّ من رحمته، فأنت علامة إيمانك رحمتك، وعلامة إيمانك عدلك، وعلامة إيمانك تواضعك، وعلامة إيمانك بذْلَكَ، وعلامة إيمانك كَرَمك، وعلامة إيمانك شجاعتك، الإيمان هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان، والذي ذكرتُه قبل قليل من أنّ الله عز وجل ما أثنى على نبيّه إلا بِخُلقه العظيم، لأن ما سوى ذلك مِنَحٌ من الله عز وجل.
 

الخلق عملية ضبط:


مرّةً كنتُ في عقْد قِران، وقد أُثْنِيَ على أحد الحاضرين ثناءً عاطرًا، وكان أحدُ الحاضرين من علماء دمشق، وقف وخطب وقال:-نقل كلمة لابن عطاء الله السَّكَندري-ما مدحك من مدحك إلا ومدح من منحك، فإذا آتى الله الإنسان حكمة، المانح هو الله، آتاه رحمة، المانح هو الله، آتاه إدراكاً دقيقاً، المانح هو الله، ما الذي منك؟ الخُلق فقط، الخُلُق عمليّة ضبْط فقط، ممكن أن تقول أيّة كلمة، فقلتَ كلمة الحقّ، ممكن أن تلقي النظر إلى أيّ جهةٍ، ونظرت إلى الحقّ، ولم تنظر إلى الباطل، يمكن أن تستمع إلى كلّ شيءٍ، فاسْتمعت إلى ذِكر الله وحده، عمليّة ضبط، ضبط السمع والبصر واللّسان واليد والرّجل، ضبط العلاقات، ضبْط الدّخل، ضبْط الإنفاق، هو الدِّينُ كلّهُ ضَبْط.  
 

الفرق بين الأخلاقي واللا أخلاقي:


أنا يحْلُو لي أحيانًا أن أتهم إنساناً لا يوجد فيه دين إطلاقاً، قاسٍ، وقِح، مُتَهجِّم، أقول: دابّة فلتانة، المؤمن كائنٌ راقٍ منضبط، يضبطُ لسانه، يضبط عينهُ وسمعه وبصرهُ وحركتهُ وإنفاقه ودخله، فالإيمان ضبط، والضبط هو خُلُق.
كلّ إنسان إذا أخطأ ابنه خطأً شديدًا بإمكانه أن يضربهُ ضرْبًا مُبرِّحًا، ولكن قد ينصحُه، قيل: علِّموا ولا تُعَنِّفوا، فإنّ المعلّم خير من المعنّف، لذلك نحن حينما بدأنا الدرس بأن منزلة الحياة أحد مراتبها حياة الأخلاق، فالأخلاقيّ حيّ، وغير الأخلاقيّ ميّت.
 

الإنسان الحي هو من استجاب لله ولرسوله:


يا أيها الإخوة الأكارم؛ الشيء الثابت أنّ حياة الجسد لا قيمة لها إطلاقًا، العبرة حياة القلب، والدليل الله عز وجل قال: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

فأنت حيّ إن اسْتجبْت لله ولرسوله، حياتك بهذه الاستجابة، فإن لم تسْتجب فأنت مع الموتى:

ليس من مات فاستراح بميِّتٍ       إنما الميّت ميِّتُ الأحياء

[ ابن الرعّاء الضبابي ]

* * *

أحياناً تجلس مع إنسان منته، لا يوجد نبض أبداً، ماديّ، شهواني، أيّة قيمةٍ دينيّة أو قيمة أخلاقيَّة تحت قدمِه، مُسْتَعِدّ أن يفعلَ كلّ شيءٍ من أجل مصلحته، مُستعدّ أن يفعل أيّ شيءٍ ولو كان محرَّمًا من أجل الدّرهم والدينار، هذا ميّتٌ، لا نبْضَ له، أحياناً الطبيب يجد إنساناً يتوهمه ميتاً، يضع يده على أحد شرايين يده، هذا الشريان سهل جداً، يقول لك: ليس هناك نبض، يأتي بمرآة يضعها على أنفه، لا يوجد بخار، يأتي بمصباح شديد يفتح عينه ويضيء المصباح، الحدقة تبقى في مكانها لا تضيق، يقول له: عظّم الله أجركم، ميت، لا يوجد أثر تنفس، ولا يوجد أثر استجابة لمؤثر الضوء في العين، ولا يوجد أثر لنبض القلب، يقول: عظّم الله أجركم، أحياناً إنسان لأنه عديم الأخلاق لا يستحي، لا يخجل، لا يشعر بِذَنب، لا يندم إطلاقًا، يأخذ ما يحلو له، ويضرب ويشتم.
 

من هو المفلس؟ 


يا أخوان؛ يوجد عدد من الأحاديث بالصحاح، هذه الأحاديث خطيرة جداً، والله الذي لا إله إلا هو لو عقَلَهَا الناس لارْتَعَدَت مفاصلهم،

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. ))

[ صحيح مسلم ]

الآن دقق بتعريف النبي للمفلس: ((ِإنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) إنسانٌ عاتب إنساناً قال له: لقد اغْتبتني، بلغني أنك قد اغتبتني، فقال له: ومن أنت حتى أغْتابك؟ لو كنتُ مغتابًا أحدًا لاغْتَبْتُ والديّ، لأنهما أحقّ بحسناتي منك، هذا الإنسان مؤمن وموقِن أنّ المُغتاب سوف يخسر من حسناته، وسوف يأخذها من اغتابه، وهذا بِنَصّ كلام النبي، فإذا لم يستمع الإنسان للغيبة يصبحُ إنسانًا راقيًا.
 

المؤمن إنسان صحَّتْ عقيدته وصحَّ عمله وأدَّى عباداته:


أنا سمعتُ عن الشيخ بدر الدّين رحمه الله تعالى، لا يجرؤ أحدٌ أن يغتابَ أحدًا أمامه، كان يقول: يا با اسكتْ أظلم قلبنا، تجد المجلس فيه راحة، أما يوجد مجالس أخرى يُشرّح الناس، يُشرّحون، يُعَرَّوْن، أي كلّ مثالبهم تُفْتضح في مجلس، أما المؤمن لا يسمحُ أن يُغتاب في حضرته أحد، طبعاً قيل: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كمُلت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوّته، وحرمت غيبته، كلّ إنسان صحَّتْ عقيدته، وصحَّ عمله، وأدَّى عباداته ممنوع أن تغتابهُ، مؤمن.
 

الأخلاقي حياته أخلاقه:


قال: الأخلاقي حياته أخلاقه، لو عملَ عملاً فيه خطأً، صدقوا أيها الإخوة؛ أنه يتألَّم ألمًا لا حدود له، إذا إنسان فرضاً يرتدي ثياباً أنيقة جداً، ودخل ليصلي بالمسجد، ليس منتبهاً جواربه فيها ثقب كبير وصلّى إماماً، وثيابه أنيقة جداً، ومحترم، وارتدى هذه الجوارب خطأ دون أن ينتبه، بعد أن يرى هذا الذي حصل، وأن كل المصلين رأوا هذا التناقض في ثيابه، ألا يتألم؟ يتألم ألماً شديداً، هذا الألم لا شيء أمام خطأ أخلاقي، إنسان وثقَ بك فأسأتَ فيه الظنّ، إنسان تقرَّب إليك فنَهَرْتهُ، إنسانٌ علَّق عليك الأمل فيأَّسْتهُ، إنسان ما ارتكبَ ذنْبًا خطأ وبَّخْتهُ، إنسان يجْهدُ لإرضائك فَأغضبْتَهُ، والله مشكلة، فالإنسان حينما يُسيء ولا يتأثّر معنى ذلك أنَّه ميّت، أي المؤمن إذا ارتكبَ خطأً لا ينام الليل.
بالمناسبة الحديث الذي يحار الناس في تفسيره،

(( عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: قَدْ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ، لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ وَيَغْفِرُ لَهُمْ. ))

[ صحيح الترمذي ]

الحديث على ظاهره غير مقبول، مع أنّه في الصِّحاح، أي لحق حالك بذنب معقول؟ ((لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ وَيَغْفِرُ لَهُمْ)) لا، المعنى أنّ هنا لو لم تذنبوا أي لو لم تُحسُّوا بِذُنوبكم لكنتم هلكى عند الله، لذهَبَ الله بكم، علامة حياة إخواننا الكرام؛ إذا أذْنَب يندم، يعتذر، يقول لك: سامحني، أخطأتُ، نسيتُ، ما قصدتُك، أتمنَّى ألا تحمل عليّ، يُقدِّم هديَّة تكفيرًا لِذَنبهِ، علامة حياة قلبه، أما ما الذي حدث؟ معنى هذا أنّه ميّت، إذا الإنسان ارتكب الذّنب، ولم يعبأ باعتِذارٍ ولا بإصلاح ذات بينٍ هذا إنسان ميّت.
 

متى يكون الإنسان في حكم الموتى؟


لذلك الفقرة الثانية من منزلة الحياة، هناك حياة الأخلاق؛ فأنت حيّ لأنّك أخلاقي، فإن لم تكن أخلاقيًّا فأنت في حُكْم الموتى، هناك أزواج يتزوّجها، يحملُها على تسجيل بيتها له، وتُسجِّلُهُ، ثمّ يُطلّقُها أو يطردها، والله أسمعُ قِصَصًا أحيانًا لا أصدّقها، طرَدَ زوْجته وتركها بالطريق الساعة الثانية ليلاً، بقميص النوم ورجع نام وارتاح، وحش، فهذا ميّت، أنت حيّ إذا كنتَ أخلاقيًّا، هذا درس اليوم، حيّ إذا كنتَ أخلاقيًّا، قد تكون فقيرًا، وقد يكون الفقْر وِسام شرفٍ لك، لكنَّك تحرصُ على أهلك، هناك إنسانٌ دَخْلُه محدود، ممكن، وقد يكون في أعلى عِلِيِّين، أساسًا النبي عليه الصلاة والسلام كان فقيرًا.
 

الحكمة من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان فقيراً وضعيفاً:


وقد يسألك أحدكم: لماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام إنسانًا فقيرًا وضعيفًا؟ سؤال وجيه، لو كان غنِيًّا مُتْرفًا لما صدَّقه الناس.
ثمّ هناك شيء مهمّ جدًّا: أنت حينما تقول للفقراء: اصْبِروا وأنت غنيّ، هذا الكلام يجرحهم، ماذا يقولون لك؟ لو ذُقْت طعْم الفقْر لما قلتَ هذا الكلام، أما النبي فقد كان فقيرًا، كان إذا دخلَ بيته ولم يجِدْ طعامًا، يقول: فإنِّي صائم، الآن لا يوجد إنسان مِنَّا يدخلُ بيته لا يجد شيئًا إطلاقًا يأكلهُ، إذاً قضيّة الحياة هنا حياة الأخلاق، قد تكون فقيرًا، وصاحب دخْل محدود، وعندك عيال كثيرة، وقد يكون الإنسان مريضاً، وعنده مشكلة في بيته، ومشكلة في عمله، كلّ هذا ممكن، أما إذا كان لا أخلاقيّاً، هذا الذي هو وصْمةُ عارٍ بحق الإنسان.
 

حياة الأخلاق تطبعُ على الحياء والعِفَّة والجود:


قال: حياة الأخلاق تطبعُ على الحياء والعِفَّة والجود والسَّخاء والمروءة والصِّدْق والوفاء ونحوها، قال: هذه الحياة حياة الأخلاق حياةٌ مُسْعِدَة، تجد الإنسان بِحَسب فطرته بالدرجة الدنيا اجتماعياً لكنه أخلاقي، تجدُهُ يعيش بسعادة لا توصَف، قد يكون حاجب، آذن، لكنه موصول بالله، وقد يكون إنسانًا لا أخلاقياً، جمع المال بالحرام، ويعيش بِمَظهر فخْم جدًّا، أما هو عنده انهيار داخلي، فالأخلاق حياة، أضربُ لكم مثلاً دقيقًا، لو أنّ أحدكم دخل بيته الساعة الواحدة ليلاً، قالَتْ له أُمُّه: يا بنيّ، أنا أُعاني من وجَعٍ في الرأس شديد، أريد حبّة دواء مُسكِّنَة، يقول لها: كلّ المحلاّت مغلقة الآن، تأخرت، وهو يعلم أنّ في البلد عِدَّة صيدليات مناوبة، الآن تأخرت بصراحة، لا يرتاح بالنوم أبداً، إذا عنده حسّ أخلاقي سليم، والدتهُ سبب وُجوده، سبب حياته، لو أنّ هذا الإنسان استيقظ عنده الحسّ الأخلاقي، وارتدى ثيابه، وخرج يبحث لها عن هذا الدواء، وفعلاً بحث في كلّ الصيدليّات المناوبة ولم يجد عندها هذا الدواء، رجع قال لها: لا يوجد، لماذا في المرّة الثانية ينام مرتاحًا؟ وبالحالتين الأمّ لم تستعمل الدواء، لكنّ أوّل مرّة هناك محاسبة داخليّة، أما المرّة الثانية أصبح معذورًا، خرج من بيته وبحث ولم يجد فاعْتذَر، إذاً الإنسان قد لا يستطيع تحمّل وِزْر الذّنب، قد لا يستطيع تحمّل وزر العمل السيّئ.
إذا كان هناك أربعة أو خمسة أولاد لهم أمّ في سن متأخر جداً من الذي يبكي عليها أشدّ البكاء؟ هو الذي قصَّر بحقّها، يبكي عليها أشدّ البكاء من قصّر في حقها، معناها يوجد إحساس داخلي.
وإخواننا الكرام؛ مادام الدرس انبحث بهذا الموضوع، أي بِقَدْر ما تُحاسب نفسك أنت عند الله غال، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، حاسِبْ نفسكَ على كلمة، على نظرة، على تعليق علقته بغير محلّه، حاسِبْ نفسكَ على إنسانٍ ما رحَّبْتَ به، حاسِبْ نفسكَ على إنسانٍ أهْملتَهُ وقد أقْبَلَ عليك، هذا الحِساب، من حاسبَ نفسهُ حِسابًا عسيرًا كان حسابهُ يوم القيامة يسيرًا.
 

كلّما كانت الأخلاق في صاحبها أكْمَل كانتْ حياتُه أقوى:


قال: وكلّما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكْمَل كانتْ حياتُه أقوى وأتمّ، انظر الإنسان المستقيم عنده قوَّة، عندهُ جرأة، شجاعة، يعتمد على الله، يتوكَّل عليه، الإنسان لمَّا ينحرف يضعف، يصير خرقة بالِيَة، سهل جداً أن تهيمن على إنسان لا أخلاقي، لأنه لمّا ترك الأخلاق أصبح عنده خوف من الله، ضعيف النفس، حينما الإنسان يرتكب عملاً لا أخلاقياً، أو حينما يُشْرك يقذف الله في قلبه الخوف، قال تعالى:

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)﴾

[ سورة آل عمران ]

وقد يكون الذي يخاف أقوى الأقوياء، وقد تكون أمَّةً، ومع ذلك يقذف الله في قلبها الخوف. 

اشتقاق خُلق الحياء من الحياة اسمًا وحقيقةً:


قال: لهذا كان خُلُق الحياء مشتقًّا من الحياة اسمًا وحقيقةً، الذي عنده حياة عنده حياء، والذي عنده حياء عنده حياة، والحياء من الإيمان، قال له: خُذْ أجارَتَكَ لا حاجةَ لنا بك، فإنِّي أراك لا تستحيي من الله، الإنسان يستحي أن يتكلَّم كلمةً بذيئة، يستحي أن يكذب، يستحي أن يخون العهد، يستحي أن يقصّر، يستحي أن يتجاوَز، قال: أكْمَلُ الناس حياةً أكْملُهم حياءً، ونُقصان حياء المرء من نقصان حياته، ونقصان حياته من نقصان إيمانه، الإنسان إذا مات لا يحسّ بما يؤلمُه من الجروح، أما إذا كان هناك حياة فيصيح، لكن هناك حديث صحيح ورد في الصّحاح:

(( عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْت. ))

[ صحيح البخاري ]

من أدقّ معاني هذا الحديث أنّك إذا لم تستحِ من الله في عمل فافْعَلْهُ ولا تعبأ بالناس، أحيانًا الإنسان يتحرّج، أو يتهيَّب الناس وهو على حقّ، فإذا كنت على حقّ، وكان الله راضيًا عنك فافعل ما تشاء، ولا تعبأ بأحد.
الآن بِالتَّعبير الدقيق، من هو أقرب إلى الحياة الشّجاع أم الجبان؟ الشجاع، حياة الشجاع أكْمَلُ من حياة الجبان، حياة السخيّ أكْملُ من حياة البخيل، حياة الفطن الذكيّ أفضل من حياة البليد، فالأنبياء عليهم صلوات الله كانوا أكْمل الناس حياةً.
 

من ينتهك حرمات الله إنسان مهين:


تجد إنساناً عادياً لكنه محترم جداً، بيته مضبوط، أخلاقهُ عظيمة، صادق لا يكذب، ربّى أولاده، ضبط أولاده، قانعٌ بِزَوجته، زوجته راضِيَة عنه، البيت صغير جدًّا، الدخْل قليل جداً، لكن تجد النفسيّة نفسيّة ملِك، تجد شخصًا دنيء النفْس، خسيس الصفات، قد يكون معه ملايين، قد يكون بِمَركز جيّد، قد يكون بيته قصْراً، لكنّه هو منهارٌ داخليًّا، تجد هذا الإنسان تشعر أنّك أرقى منه، يوجد كثير من الأشخاص من الطّبقة الدنيا عندهم نفسيّة الطّبقة العليا، وهناك أناس عندهم نفسيّة الطبقة الدنيا وهم من الطّبقة العليا، بسبب ِبُعْدِهِم عن الله تعالى، وصفُ الله تعالى من أدقّ الأوصاف، قال تعالى:

﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)﴾

[ سورة القلم ]

انظر إلى وصف ربنا، حلّاف مهين، مهين أمام نفسه، كثير الحلف، همَّاز مشّاء بِنَميم، دائماً يطعن وينمّ بين الناس، يفسد العلاقات بينهم، منّاع للخير، لا يكتفي أنَّه لا يفعل الخير، يمنع فِعْل الخير، معْتَدٍ أثيم، يعتدي ويأثَم، يأثَم بِمَعاصي الشهوات، ويعتدي بِمعاصي العدوان، أي يأخذ أموال الناس بالباطل، هذه هي المعصِية، وهذا هو العدوان، وحينما ينتهك الحرمات والأوامر الإلهيَّة عندئذٍ يكون أيضاً مَهينًا.

أخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام:


قال: والبسْط من أجلّ هذه الأخلاق، وأقواها في صفة الحياة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه وأهله، النبي كان لطيفًا، باشّ الوجه، متواضعاً، إذا الإنسان عاشرهُ أحبَّه، من رآه بديهةً هابهُ، ومن عاملهُ أحبَّه، فكان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، ومع أهله، ومع الغريب والقريب في سَعَة صدْر، ودوام بِشْر، وحُسْن خلقٍ، يُسلِّم على من لقِيَهُ، ويقفُ مع من اسْتَوْقفَهُ، يمْزحُ بالحقّ، مع الصغير والكبير، يُجيبُ دعْوَة الداعي، ليِّنُ الجانب، حتى يظنّ كلّ واحدٍ من أصحابه أنّه أحبّهم إليه، وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبًا أو مستحبًّا أو مباحًا يُعينُ عليهما، هذه حياة الإنسان، لذلك قال تعالى:

﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)﴾

[  سورة الدخان ]

المعنى المخالف من يقوله؟ الله يصف الكفار بأنَّهم ما بكتْ عليهم السماء والأرض، معنى ذلك أنّها تبكي على من؟ على المؤمن، قال علماء التفسير: مَوْضِعُ سجود المؤمن يبكي عليه عند الموت، وموضعُ رفع عمله إلى السماء يبكي عليه عند الموت، المؤمن خيِّر، مؤنس، وجُوده مُحبَّب، قد يكون الأب بخيلاً، أقرب الناس إليه يتمنَّونَ موتهُ، والله مرة حدَّثني طبيب، اسْتَدْعوه لعند مريض على وشك مرض شديد، وكان أولاده قلقين جدًّا أن يكون المرض غير شديد، فلمّا قال لهم: عَرَضِيَّة، انْزَعَجوا كثيرًا، ما معنى عرضية؟! هم أرادوا أن تكون القاضية كي يتخلَّصوا منه، فالمؤمن وُجودهُ مُحَبَّب، كلّ من حوْلهُ يتمنَّى وُجوده،

(( عن جابر بن سمرة: إِنَّي لَأَعْرِفُ حجرًا بِمَكَّةَ، كانَ يُسَلِّمُ علَىِّ قبلَ أنْ أُبْعَثَ. ))

[ صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث: صحيح ]

دخل مرة بستاناً فرأى ناقة، فلما رآها ذرفت عيناها، حنَّت إليه:

(( عن عَبْدِ اللهِ  بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ، أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ. فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدِ أتَاهُ فَجَرْجَرَ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، قَالَ بَهْزٌ، وَعَفَّانُ: فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ: مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَمَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ. ))

[ رواه أحمد في المسند، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه بتمامه البيهقي في الدلائل،  ]

هذا التجاوب مع الحيوان، كان عليه الصلاة والسلام يُصغي الإناء للهِرَّة، كان يرى أن مَن ذَبَحَ شاةً أمام أختها فقد أخطأ، فقال: أتُريدُ أن تُميتها مرَّتَين؟ هلاَّ حَجَبْتها على أختها؟

(( كان عليه الصلاة والسلام يقول: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

يوجد رحمة بقلبه، هذا نبيُّنا، وهو قُدْوتُنا، فنحن كلّما اقتربنا من سنّته كنّا أقرب إليه.
 

لا يرفعنا عند الله إلا اتباع سنة نبيه:


مرة قلت لكم خطر ببالي مثل: أستاذ جامعي كبير جدًّا، له مئات المؤلّفات، ويحمل أعلى الشهادات، وله مكتب فخْم، وعنده مستخدم أُمي لا يقرأ ولا يكتب، حاجب، فَبِغِياب هذا الدكتور، البروفسور، جاء هذا الحاجب جلس مكانه على مكتبه، وأخذ وَضْعِيَّة معيّنة، وهو لا يقرأ ولا يكتب، أي جلوسُهُ بهذا المكان هل يرفعُ قدره؟ أبداً، أما لو أخذ ابتدائية سار في طريق سيده، فنحن لا يرفعنا عند الله مديح النبي فقط، أن نكتفي بمديح النبي، يرفعنا عند الله اتِّباعُ سنَّته، فمن شدَّة أخلاقه العليَّة كلّ من أصحابه صلى الله عليه وسلّم كان يظنّ أنّه أقربُ الناس إليه.
 

البلاغة الرائعة في الآية التالية:


قال: ومن العباد من وفَّقه الله فنال حظًّا من هذا البسْط النَّبَوي الكريم، وجعل الله انبساطهم مع الخلق رحمةً لهم، كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ مرة خطر في بالي أن هذه الآية معادلة رياضيَّة، لكن فيها بلاغة رائعة، قال: ﴿فَبِمَا﴾ الباء باء للسَّببِيَّة، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ هذه ذكرتها أول الدرس، لكن لم أذكر الطرف الثاني، أي حينما تتّصل بالله تستقرّ في قلبك رحمة تجاه الخلق، هذه الرحمة تنعكس ليناً في المعاملة، هم يلْتفّون حولك، فاللين الذي هو انعكاس الرحمة التي هي بسَبب الاتّصال بالله، هذه الرحمة انعَكَسَت لينًا، وهذا اللّين جذب الخلق إليه فالْتَفُّوا حوله، الآن: الطرف الثاني: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ أي لو لم تتَّصل بنا لامتلأ قلبُكَ قَسْوَةً مكان الرحمة، والقَسْوَة انعَكَسَت غِلْظةً وفظاظة ووقاحة، وتعليق قاس واتِّهام مفاجئ بلا برهان، ومواجهة الناس بما يكرهون، والتَّحطيم والتوبيخ والتعنيف، والموقف القذر، والوقاحة، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ فالقسْوة منعكسها الفظاظة، والفظاظة من لوازمها أن الناس ينفرون منك، إذًا اتّصال، رحمة، لينٌ، التفات، انقطاعٌ، قسْوةٌ، فظاظة –غلظة-، انفضاض، معادلة رياضية، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ .

  المهمتان الكبيرتان اللتان بُعِث بهما النبي:


بالمناسبة إخواننا الكرام؛ لا يخفى عليكم أن النبي عليه الصلاة والسلام له مهمّتان كبيرتان؛ الأولى هي التبليغ، والثانية هي القدوَة، أما لو سألتموني أن أُوازِنَ بين هاتين المهمَّتين، مهمَّة التبليغ بالنسبة إلى مهمّة القدْوَة صغيرة جدًّا، التبليغ سهل، أما أن تكون أخلاقيًّا فهذه بطولة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مُبلِّغًا وكان قُدْوةً لنا، لذلك جاع فصَبَرَ، واغْتنى فأعطى، قُهِرَ فاعتذر، سيْطَرَ فعَفَا، في الطائف قُهِر، قال: إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أُبالي، ولك العتبى حتى ترضى، في فتح مكّة انتصر، فقال: اذْهبوا فأنتم الطلقاء، دخل بيته فلم يجدْ طعامًا، قال: فإني صائم، جاءهُ مالٌ كثير، فقال: لِمَن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ فقال: هو لك، ذاق موت الابن، إنّ العين لتَدْمع، وإنّ القلب ليَحْزَن، ولا نقول إلا ما يُرضي الربّ، وإنا عليك يا إبراهيم لمَحزونون، ذاق الهِجرة، الاستِئْصال من الجذور، ذاقها، ذاق زوجةً مشاكسة، زوجاته تعب معهم كثيراً، لِيَكون قدْوةً لنا، ذاق أن يُقال عن زوجته الأقاويل، هذه لا تُحْتَمَل، وصبر، وانتظر تبرئة الله لها، أي هناك أناسٌ هجَوْهُ، واستطالوا عليه بالهجاء من كفار مكّة صَبَرَ عليهم، هو قدوة، وأنت يمكن أن تكون قُدْوة، وتأثيرك بعد أن تكون قدوة أضعاف تأثيرك إن لك تكن قدوةً لغيرك.
 

العلماء ثلاثة:


آخر شيء بالدرس قال: هؤلاء الذين أكرمهم الله، وجعلهم دعاةً إليه، هؤلاء يقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحَيْران، ويُشْفى بهم العليل، ويُسْتضاء بِنُور هدايتهم ونُصْحهم ومعرفتهم في ظلمات دياج الطّبْع والهوى، قال: هؤلاء الدعاة إلى الله الصادقين هم خلفاء الرّسل حقًّا، وهم أولو البصر واليقين، فجمعوا بين البصر والبصيرة، قال تعالى: 

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾

[ سورة السجدة ]

أيها الإخوة الكرام؛ استنباطًا من هذه الحقيقة العلماء ثلاثة، عالمٌ اسْتنار بِنُوره واسْتنار الناس به، فهذا من خلفاء الرسل، وعالمٌ اسْتنار بِنُوره ولم يسْتنِر به أحدٌ، فهذا من العُبّاد، وغيره لا استنار بِنُور ولم يسْتنِر به أحد، فهذا من ضعفاء الناس، إما أن تسْتنير وتُنير، وإما أن تسْتنير لِنَفسك، أما ألا تستنير وألا تُنير فهذا عبءٌ على الناس.
أيها الإخوة؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس مُتَرْجمًا للواقع، أي أنت بِقَدْر ما أنت أخلاقي أنت مؤمن، أما إذا تخلَّيْت عن أخلاقك بَعُدْت عن الإيمان، فحياة النفس حياة الأخلاق.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور