وضع داكن
29-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 074 - منزلة المعاينة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة المعاينة :


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيَّاك نعبد وإياك نستعين, والمنزلة اليوم منزلة المُعاينة. 


أنواع المعاينة :


المُعاينة نوعان: 

1- معاينةُ بصرٍ . 

2- ومعاينة بصيرة .

قد تمسكُ شيئاً بيدك, تقول: هذا الشيء أخضر اللون, عاينته ببصرك، أو عاينته بحسِّك, أو عاينته بجلدك، أو عرفت وزنه، أو عرفت شكله، أو عرفت رائحته, أو عرفت أبعاده، هذه معاينة بصر، الناس جميعا مشتركون بهذه المعاينة إلا من ابتلاه الله بفقد أحد حواسه, وهذه المعاينة هي أقل معاينةٍ تُفيد الإنسان.

الدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( إن الدنيا خضرة حلوة ، فاتقوها واتقوا النساء  ))

[ أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحهعن أبو سعيد الخدري ]

الدنيا تغر وتضر وتمر ، قد تجد بيتاً جميلاً، اشتراه صاحبه بمالٍ حرام، الإنسان العادي يقول: هنيئاً له على هذا البيت, أما المؤمن يرى أن هذا البيت سيكون ناراً تحرِقه يوم القيامة, الأشياء الظاهرة جميلة جداً, لو ذهبت إلى بلاد الغرب لوجدت من الجمال الطبيعي، وجمال الأبنية، وجمال الطرق، وجمال الحدائق الشيء الكثير، كل شيء يُمْتِعُ العين، ولكن المصير!!.

أضرب لكم مثلاً: 

هناك قاعة قمار في لبنان, قرأت عنها, ثمنها ثلاثون مليون دولار ، قاعة واحدة، وقد تجد مدرسة مبنية من مائة سنة مُتداعية، هذه تُخَرِّج علماء، وهذه تخرج مقامرين؛ إما إلى السجن، أو إلى الانتحار, مدرسو المدرسة أكْفاء، مخلصون، يقدمون العلم العميق والصحيح، ويؤدبون الطلاب، البناء مُتداع، أما في النهاية هذه المؤسسة تخرِّج أبطالاً أو علماء، بينما هذه القاعة الفخمة جداً التي ثمنها بضْع عشرات ملايين، هذه تخرِّج مقامرين؛ إما إلى سجنٍ، أو إلى كآبةٍ، أو إلى انتحارٍ، أو إلى جريمةٍ، أو إلى انحرافٍ. 

فالعبرة لا بالظاهر, العبرة بالباطن، فالشيء الذي ينفرد به المؤمن هو البصيرة. 

فمثلاً: قد تُعرَض عليه وظيفتان؛ وظيفةٌ دخلها كبير ومعها بيت ومركبة، ووظيفة دخلها لا يكفيه نصف شهر، الوظيفة الثانية فيها مرضاة الله عزَّ وجل، فيها نفعٌ للناس، فيها صدقٌ وأمانة، والوظيفة الأولى تُبنى على أنقاض الناس، وعلى عذاباتهم، وعلى فقرهم، وعلى ابتزاز أموالهم، فالمؤمن إذا ملك البصيرة, اختار الوظيفة ذات الدخل القليل.

مثل بسيط: إنسانة فقيرة جداً, قد تعمل ثماني ساعات بمبلغٍ بسيط في خدمة المنازل ، وقد تعمل امرأةٌ ثانية لساعةٍ أو أقل, فتأخذ أضعاف ما تأخذه الأولى، ولكن تأكل بثديها، تبيعُ جسدها، هنا تعب، هنا في الظاهر مُتعة، ولكن هنا تنتظرها جنةٌ عرضها السموات والأرض، وهذه تنتظرها نار جهنَّم, فالأمر بحقيقته، والأمر بخاتمته، والأمر بمصيره, فأكثر الناس عندهم معاينة بصر. 

فلما خرج قارون بزينته على قومه, قال الذين يريدون الحياة الدنيا:

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[  سورة القصص ]

لكن الذين أوتوا العلم ماذا قالوا؟ قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾

[ سورة القصص ]

معنى هذا: أنك إذا نظرت إلى بناء، إلى بيت فخم, وعلمت أن صاحبه جمَّعه من مالٍ حرام, إذا نظرت إلى مركبةٍ فخمة, وعلمت أن صاحبها جمَّعها من مالٍ حرام, هل تقول: هنيئاً له على هذا البيت أو على هذه المركبة؟ لا، المؤمن لا يضحي بطاعته لله عزَّ وجل ولو قطَّعوه إرباً إرباً، ولو أعطوه أموال الدنيا، المؤمن صامد أمام سياط الجلاَّدين اللاذعة، وأمام سبائك الذهب اللامعة، لا يخضع لتهديد ولا ينهار لإغراء، هو يطبِّق منهج الله عزَّ وجل ويرجو رحمة الله:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

 

الفرق بين معاينة البصر وبين معاينة البصيرة :


معاينة البصر: 

وقوع الشيء على نفس الرائي؛ إما بألوانه، أو بحجمه، أو بشكله، أو بأبعاده، أو برائحته، رؤية الشيء أو رؤية مثاله, لو وقف إنسان في شرفة، وفي هذه الشرفة توجد مغسلة، وأمامها مرآة, ونظر إلى جارته، هو لم يرَ شخصها لكن رأى صورتها، فهؤلاء الذين يقولون: هذه صورة، هذا خيال, هذا كلام مضحك جداً، وقد تكون الصورة أبلغ من الحقيقة، وقد تفعل فعلاً أشد من فعل أصل الشيء، لذلك هناك من يُصِر على أن رؤية المرأة الأجنبيَّة حرام حقيقةً، أو صورةً، أو خيالاً، أو ما إلى ذلك، العبرة بالتأثير, فإذا إنسان خرج إلى الشرفة لبعض شأنه، فرأى امرأةً في المرآة في الطرف الآخر بثياب متبذِّلة، فلو أنه التفت هكذا ونظر إليها، أو لو أنه دقَّق في المرآة الأثر واحد، والشيء واحد لا يتغيَّر، فالبصر وقوع المرئي على ساحة البصر، أو على الحواس الخمس.

قال أما البصيرة: 

فهي وقوع القوة العاقلة على المِثال العلوي المُطابق للخارجي.

الآن: 

لو شخص في أمس الحاجة إلى المال، رآى ملايين أمامه وهو أمين صندوق ، لو نظر إلى هذا المال بشكل ظاهري, وأخذه خلال أيام أو أشهر, يتمتع بسهرات، وبأكل، وبسفر، لكن بعد أن ينكشف أمره قد ينتحر -رُبَّ أكلةٍ منعت أكلات-, فأكثر المنحرفين يعيشون لحظتهم.

في علم النفس يُصَنَّفُ المجرم غبياً، أكثر المجرمين بعد حين يُشنقون، ويعدمون,  وتنتهي حياتهم، تنتهي نهايةً وضيعةً دنيئةً قاطعةً.

أما حينما يكون عقلُ الإنسان راجحاً يقول: هذا الشيء محرَّم لا أفعله, ودائماً الدُنيا محسوسة والآخرة معقولة، وهذا أحد أنواع الامتحانات؛ أمامك امرأة، أمامك مركبة، أمامك بيت محسوس، أما بالمصحف تفتح مثلاً على سورة معينة، على آية معينة:

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)  ﴾

[ سورة الضحى ]

الدنيا محسوسة أمامك، تملأ العين والسمع والأُذن، أما الآخرة معقولة تستنبطها من نص، فما الإيمان بالغيب؟ هذا هو الإيمان بالغيب، تعرض عن شيء محسوس صارخ أمامك ، وتنتظر ما وعد به خالق السموات والأرض ، ( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)) ثمن الجنة الإيمان بالغيب، فلو كانت الآخرة محسوسة فلا جنة. 

مثلاً قل للناس: أي إنسان يدفع مئة ليرة مساعدة لمشروع خيري, نعطه ألف بعد ساعة، ستجد الناس واقفين بالطرقات زُرافات ووحدانا، بالمئات بالألوف، بما يقارب الملايين، منهم المؤمن ومنهم الكافر ومنهم الملحد, ولو قلت للناس: لو نظرت لأُطلق عليك الرصاص, لا أحد ينظر خوفاً من الرصاص، لم يعد هناك اختيار، الله عزَّ وجل قادر أن يحمل عباده جميعاً على الطاعة، ولكن هذه الطاعة القسريَّة لا تسعد صاحبها، و .....:

﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)  ﴾

[ سورة الرعد ]

 

الاستقامة الناتجة عن الضبط الخارجي لا تسعد صاحبها .


في بعض البلاد الغربية الناس جميعاً مستقيمون استقامةً لا تسعدهم، استقامة إلكترون, ضبط إلكتروني مخيف، فأكبر سوق فيه ما يقارب ألف مليون من البضائع، فيه خمسة موظَّفين على الصندوق، أي سلعة في هذا السوق فيها مادة, إن لم تدفع ثمنها يصدر صوت مخيف, وأنت خارج من السوق، إن دفعت ثمنها تمرَّر على جهاز، يُلغى أثر هذه المادة، يا ترى الكل دفعوا؟ فمن هو الأمين؟ من هو الخائن؟ من هو السارق؟ من هو الصادق؟ من هو الكاذب؟ أُلغيت كل هذه القيم, لأن هناك ضبط شديد جداً.

فهذه الاستقامة الناتجة عن الضبط الخارجي، القهري، القسري, ليست مسعدةً لصاحبها، الله يريدك أنت، يريد قلبك، يريد اختيارك, يريد محبوبيَّتك، يريد مبادرتك، لا يريد خضوعك.

لذلك أنا أقول دائماً: الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب, فيمر على النبي -عليه الصلاة والسلام- ألف عام, كلما ذكرت قصته تبكي, ملك القلب، والقوي ملك الرقبة، وشتَّانَ بين من يملك القلوب بكماله وبين من يملك الرقاب بقوته.

 

ما يحتاج إليه المؤمن :


لا بد للمؤمن من بصيرة، هذه البصيرة تخترق ظواهر الأشياء، إنسان قال لي: عنده محل صعب أن يوصف لأنه فخم، لكنه يبدو أنه يوجد فيه معاص كثيرة، فيه موبقات كثيرة، فيه بضاعة محرمة، إلخ .., فقال لي: أنا عملي قذر.

تذهب إلى مكان تصليح السيارات, تجد الشحوم، والزيوت, والأطيان، والمَحل لا يحتمل، لكن صاحبه أصلح السيارة بإتقان, وأخذ أجراً معتدلاً، ومساءً اغتسل، ولبس أجمل ثيابه، نقول: هذا العمل الثاني عمل نظيف، أما الأول قذر، بالعين: الأول نظيف والثاني قذر، بالبصيرة: الأول قذر والثاني نظيف.

لكن النقطة الدقيقة ؛ أن البصيرة لا ترى ذات الشيء، ترى مثالها, قال تعالى:

﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾

[ سورة الأعراف ]

معنى ذلك ؛ أن الإنسان يدرك مثال الأنوار الإلهية ببصيرته، أما إن أدركها بذاتها احترق, يقول عليه الصلاة والسلام:

(( إِذا مَرَرتُم بِرياضِ الجنَّة فَارتَعُوا ، قالوا : وما رِياضُ الجنة ؟ قال : حَلَقُ الذِّكرِ  ))

[ أخرجه الترمذي أنس بن مالك رضي الله عنه  ]

درس علم بمسجد، لا تجد مقعداً وثيراً, ولا وسادة مريحة، جلسة على الأرض، بينما بمطاعم فخمة جداً، مقاعد وثيرة، وطعام طيِّب ونفيس، واختلاط وموسيقا وغناء، بحسب الحس ذاك المطعم ممتع أكثر, بحسب البصيرة في مجلس العلم هنا السعادة، وهنا التوفيق، وهنا السكينة, وهناك الشقاء.

البصيرة تعني: أنه يجب أن تعتقد جازماً أنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف وألف مستحيل أن تعصيه وتربح.

فدائماً أهل الدنيا يصعدون صعوداً حاداً, ثم يسقطون سقوطاً مُريعاً، كل شيء جَمَّعه في الحياة يخسره في ثانية واحدة، أما المؤمن تراكمي, كلما امتد عمره اقترب من الله عز وجل، ازداد قُربه، فإذا جاءه ملك الموت كانت هذه اللحظة كعرسه تماماً.

(( تحفة المؤمن الموت  ))

[ أخرجه الحاكم في مستدركه ]

الموت عُرس المؤمن  .

وظل خَطُّه البياني صاعداً، لذلك من الأدعية التي أُثرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم اجعل نعم الدنيا متصلةً بنعم الآخرة  .

مستمرة، المؤمن يموت إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: 

(( الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود في سننه ]

فهذا الذي قدَّم حياته لله عز وجل، قدم أثمن شيءٍ يملكُه.

وقد ورد في بعض الأحاديث: أن الذي يقتل في سبيل الله, يرى مقامه في الجنة, ولا يتألَّم، ولدمه رائحة المِسْك، وأن هناك من يموت بمعصية.

لذلك باللغة: في إنسان مُضرَّج بدم الشهادة، وإنسان مُلَطَّخ بدم الجريمة, وشتان بين أن يضرَّج الإنسان بدم الشهادة وبين أن يلطَّخ بدم الجريمة.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: 

(( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع ))

لو غمس إنسان إصبعه في البحر المتوسط ورفعها، بم ترجع؟ هذا الذي علِق على يده من الماء هي الدنيا والبحرُ هو الآخرة.

 

متى يكون الإنسان خاسر؟ :


فالكلام الدقيق والصحيح وقد يكون مُراً: إن لم ترَ الدنيا, وحقارتها, وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها، وسرعة انقضائها، وإن لم ترَ أهلها وعُشَّاقها صرْعى حولها، قد عذَّبتهم بأنواع العذاب، وأذاقتهم أَمَرَّ الشراب، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً، سقتهُم كؤوس سَمِّها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها وماتوا بهجرها, إن لم تر هذه الرؤية فأنت خاسر,  إنسان يرى الدنيا فيذوب حباً لها، وإنسان يرى عاقبتها.

وإن لم تر بالبصيرة، إن لم ترَ الدنيا بالبصيرة، وإن لم ترَ الآخرة ودوامها، وأنها هي الحياة الحقيقية، أهلها لا يرتحلون منها، ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار، ومحطُّ الرحال، ومنتهى السير، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال عليه الصلاة والسلام:

ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس بمياه البحر

فأنت أعمى.

أيها الإخوة؛ سأوضِّح لكم بمثل أوضح: 

إنسان يركب مركبة, والطريق شديد الانحدار، والهواء عليل, والمناظر خلاَّبة, والمركبة مريحة، هو يضحك، ويتنعَّم بالمناظر وبالنسيم العليل، لو أنه شعر فجأةً أن مكبحه معطَّل، وأن هذا المنحدر الشديد ينتهي بمنعطفٍ حاد, وبينه وبين هذا المُنعطف تقريباً أربع دقائق، بحسب سرعته العالية, لماذا يصيح؟ ويقول: انتهينا, ومتنا، ورحنا, بقوة بصيرته أدرك المكبح معطل, والسرعة متسارعة، والمنعطف حاد، والوادي سحيق, معناها متنا.

المؤمن وهو في الدنيا، يدرك كما أدرك هذا السائق الذي فقد مكبحه في طريق شديد الانحدار، مع منعطفٍ حاد، ووادٍ سحيق، أما الغافل والجاهل هو يضحك ويلعب، متى يبكي؟ حينما يقع في الوادي، أما إذا الإنسان أدرك قبل أن يقع الشيء أنه يوجد خطر، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)  ﴾

[  سورة التكاثر ]

لما الإنسان يقبض مبلغاً ضخماً بالحرام، تجده يضحك لشعوره بالتفوق والنجاح, ما دام المال بالحرام ..: ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ) لما يعتدي على عِرض إنسانة، يغرر بها، ويقضي شهوته منها, ثم يشعر بلعنة الله له, وإبعاده عنه، يدخل في متاهة وفي آلام نفسية لا تُحتمل، لذلك:

﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53) ﴾

[ سورة الكهف ]

هذه النار التي كنتم بها تكذبون:

﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)  ﴾

[ سورة الأعراف ]

سؤال: 

لو إنسان لا يوجد عنده هذه الرؤية، ماذا يفعل؟ متعلِّق بالدنيا، متعلق بمالها، بنسائها، بشهواتها، بطعامها، بشرابها، ببيوتها, بمركباتها, نقول له: اقرأ كلام الله, صدِّق ما قاله الله لك، إما أن تكون مع النص أو مع الرؤية، الرؤية أقوى بكثير، فمثلاً: 

طبيب قلب عنده كل يوم عملية جراحية، عملية قلب مفتوح، وأكثر عمليات القلب انسداد بالشريان التاجي، وانسداد الشريان التاجي أساسه المواد الدسمة والدهنية, هذا الطبيب نفسه لو جلس إلى مائدة فيها حلويات نفيسة جداً, لكن كلها مواد دهنية؛ قشطة ودسم، تجده لا يأكل مع أنها لذيذة الطعم، هو يرى بعينه كل يوم انسداد الشريان، وكيف أزال قطعة من شريان رجله, ووضعها في قلبه، وأوقف القلب، وعمل للقلب صعقة مع المبالغ الكبيرة التي تدفع، هو رأى مخاطر الدسم، مخاطر الشحوم الثلاثية، مخاطر الأكلات، لذلك لم يأكل لرؤيةٍ رآها، أنا أريد هذه الرؤية.

دائماً: الإنسان الشَقي يعيش لحظته.

رأيت إنساناً في أيام الشتاء الباردة والماطرة، يجري في شارع في دمشق، فكل أبناء دمشق في البيوت, وحول المدافئ, ويأكلون, ويتنعَّمون، ماذا في ذهن هذا الإنسان؛ من قناعات بالرياضة والجري، وصحة القلب, وقوة القلب، والنبض البطيء, وتمرين عضلة القلب على جهد عالٍ، حتى لا يلهث من أدنى جهد, فهؤلاء الذين يجرون عندهم قناعات عالية جداً بجدوى الرياضة وخطر الراحة, وهؤلاء الذين يمتنعون عن التدخين، الذين عندهم معلومات دقيقة عن أخطار التدخين، وقد يكون المدخن متمتعاً بدخينته ومعطلاً عقله.

مرة ذكرت قصة مشابهة لهذه القصص، فأحياناً تجد مركبة عامة واقفة باتجاه، عليها أن تدور دورة كاملة كي تتابع سيرها، أنت قد تجلِس في الشمس, لأنك تحسُب أنها بعد أن تدور هذه الدورة تنعكس الآية، فأنت تجلس في مكان غير معقول، الناس جالسون بالظل وأنت جالس بالشمس، أنت فكَّرت فوجدت أن دقيقة شمس أحسن من نصف ساعة شمس، آثرت التعب القليل أو المشقة القليلة، وطلبت الراحة المديدة.

لذلك قال بعض العلماء: في الدنيا جنةٌ من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

إذا الإنسان اصطلح مع الله تماماً, وصدق في توبته, وفي إقباله, يُلقي الله في قلبه من النَعيم والسعادة ما لا يوصف، سعادته في بيت الله عز وجل، سعادته في أداء فريضة، سعادته في أداء واجب، سعادته في خدمة الخَلق، سعادته في تقديم شيء للناس، هذه سعادته، بينما هؤلاء الذين يتمتَّعون بحسِّهم بمباهج الدنيا يشقون بقلوبهم.

 

هذه الرؤية من أين؟


قال : من نورٍ يقذف في قلب المؤمن، يريه الحق حقاً والباطل باطلاً، الشاهد، الدليل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) ﴾

[ سورة الحديد  ]

آية قُرآنية صريحة: ( يجعل لكم نوراً تمشون به ) كل واحد إذا عرض له شيء يغضب الله, يقول: لا أفعله معاذ الله, عنده رؤية هذا العمل يشقيه، وإذا في طاعة وعمل صالح يفعله، معناها أن كل إنسان يتحرك برؤية، لكن هذا الذي أقدم على قتل إنسان طمعاً بماله، ماذا رأى؟ رأى رؤية معكوسةً، من هنا كان الدُعاء النبوي الشريف:

(( اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. ))

عامَّةُ الناس والجهلة يرون الباطل حقاً والحق باطلاً، الذي يغُشُّ المسلمين ماذا يرى ؟ يرى الربح فقط، ولا يرى عقاب الله عز وجل, الذي يعتدي على أعراض الناس، ماذا يرى ؟ المُتعة الآنية, ولا يرى أن الله سيلعنه، وستغدو حياته شقاءً بشقاء، لا يرى، فأنت مبدئيَّا؛ إما أن تكون مع النص، وإما أن تكون مع الرؤية، في نص، وفي رؤية، الحد الأدنى الذي يحميك من أن تقع بمعصيةٍ النص، الله عز وجل حرم هذا الشيء، فانتهى الأمر، أما في مستوى أرقى ، معك النص ولكن معك رؤية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾

[ سورة الأنفال ]

فرقان، تُفَرِّقُ به الحق من الباطل، لذلك قلما تجد مؤمناً في مخفر أو في قصر عدلي، لأنه يسير على المنهج، الانضباط والاستقامة تنتهي إلى حرية، وعدم الاستقامة تنتهي إلى قَيْد ، إما قيد نفسي كآبة، أو قيد حسي سجن.

والله عز وجل أكرمنا بالعقل، والعقل أداة معرفة الله عز وجل, وأداة فعَّالة، فالإنسان إذا استخدم عقله، وفكَّر بأعماله، وفكر بماله, كيف اكتسبه؟ كيف أنفقه؟ فكر بعلمه ماذا عمل به؟ فكر بنهايته. 

لا أنسى طالباً مرة سألوه, وقد نال الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية: لمَ نلت هذه الدرجة؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تُغادر مخيِّلتي ولا ساعةً في العام الدراسي, يعيش مع الامتحان.

فكل واحد منا يعيش يوم القيامة, كيف سيسأله الله عز وجل؟ لمَ فعلت؟ لمَ تركت؟ لِمَ وصلت؟ لمَ قطعت؟ لمَ غضبت؟ لمَ رضيت؟ لمَ طلَّقت؟ لِمَ وافقت؟ لِمَ خُنت؟ لِمَ أكلت مالاً حراماً؟ ألف سؤال وسؤال.

 

الخلاصة :


هذه الرؤية التي أكرمنا الله بها، أن ترى الحق حقاً والباطل باطلاً, وأنا أعتقد أن كل مؤمن مهما دنت مرتبته على شيءٍ من هذه الرؤية, والدليل يقبل على طاعة الله، يقبل على خدمة الخَلق، يقبل على طلب العلم، يسعى أن يكون بيته إسلامياً، أن يكون عمله إسلامياً، هذه الرؤية تدفعه إلى طاعة الله عز وجل.

في مرتبة: بعد أن تحمل نصاً فيه أمر ونهي.

في مرتبة ثانية: أن تشعر ذوقاً أن هذا العمل لا يرضي الله.

في مرتبة ثالثة: أن ترى حقيقته وما ينطوي عليه.

فالإدراك البياني أول مرتبة، والذوق النفسي ثانيها، والرؤية العميقة ثالثها، من وصل إلى هذه الرؤية العميقة، قطع مرحلة عالية جداً في الإيمان.

والانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، كما أنك تستمتع بمكيِّف, وأنت لا تدري كيف يعمل، وتستمتع بآلات كثيرة جداً وأنت لا تفقَه كيف تعمل، تستمتع بها وتنتفع بها دون أن تعلم حقيقة بُنْيَتِهَا ووظيفة عملها, كذلك منهح الله عز وجل في دقة بالغة, بحيث لو طبَّقه إنساناً وكفى، ولم يعلم حكمته ولا حقيقته, هذا الإنسان يقطف كل ثماره، لكن هذا يكون عابداً ولا يستطيع أن يكون عالماً، والعابد مرتبة أقل من مرتبة العالم.

أمر الله بغض البصر، فغض إنسان بصره، أمر بالصدق، صدق لا يوجد عنده درة على تحليل الأمور، ولكن عنده قدرة على طاعة الله عز وجل، وهذا أيضاً يقطف كل ثمار الطاعة ويوفقه الله عز وجل, ولكن هذا الإنسان مقاومته هشَّة، فقد لا يحتمل إغراء شديداً ولا ضغطاً شديداً.

أما العالم الذي عنده رؤية لو قطعته إرباً إرباً لا يلين, لا تؤثِّر فيه لا سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلاَّدين اللاذعة.

يقول سيدنا بلال: أحدٌ أحدٌ. 

وفي إنسان على قدر ما ضغطت يخرق منهج الله عز وجل, فبقدر هذه الرؤية وبقدر هذه الاستقامة يكون التوفيق والأجر.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور