الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيَّاك نعبد وإيّاك نستعين، والدرسُ اليوم أو المنزلةُ اليوم منزلةُ التعظيم.
بادئَ ذي بدء كيف أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾
الأمر يتعلَّق بالذكر الكثير لا بمطلق الذكر، لأن المنافقين يذكرون الله، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
فالمؤمن الصادق يذكر الله ذكراً كثيراً، الأمر هنا متعلِّق بالذكر الكثير، قياساً على هذه الآية:
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
آمن بالله.
﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾
إبليس قال: ربي:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
آمن به رباً، وآمن به عزيزاً، وآمن به خالقاً، وآمن بالآخرة:
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)﴾
ولكن ما آمن بالله العظيم، يبدو أنَّ إيمانك بالله العظيم يحملك على طاعته، فكل إيمانٍ لا يحملك على طاعة الله معنى هذا أنه إيمانٌ لا ينفعك ولا يجدي، إن لم تعمل وَفْقَ ما تعلَم فلا قيمة لعلمك، العلم ما عُمِلَ به، فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى.
ضعف الإيمان يحمل الإنسان على المعصية:
إذا قال الله عز وجل: ﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ أي أن ضعف إيمانه بالعَظمة الإلهيَّة حملته على المعصية، عندنا آلاف الحالات؛ موظَّف يخالف تعليمات المدير، وهو يعلم أنه موجود، ويعلم أن هذه التعليمات تعليماتُه، ويعلم أنه يخالفها، يبدو لسببٍ أو لآخر أن هذا المدير مثلاً ليس في نظره كبيراً، وإذا سأله هو يسأله أيضاً، إذا حاسبه يحاسبه أيضاً، لأنه لم يَرَه عظيماً، فأجاز لنفسه أن يُخالفَ تعليماته مثلاً، فيبدو أن الإيمان بالله العظيم لابدَّ من أن يحملك على طاعة الله.
الآن يوجد لدينا استنباط معاكس؛ لو أن الإنسان ضعُفت همَّته في طاعة الله، أو انتهك حُرُمات الله، أو قصَّر فيما أمره الله به، معنى ذلك أن إيمانه باللـه العظيم أقل مما ينبغي، ضعف إيمانه حمله على المعصية.
علامة المؤمن أنه يُعظِّم الله عز وجل:
أيها الإخوة؛ هذه المنزلة منزلة التَّعظيم، التي هي إحدى مدارج السالكين، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، هذه المَنزلة تابعةٌ للمعرفة، تُعظِّمُه بقدر معرفتك به، ولو جدلاً عرفته كما عرفه صدِّيقٌ لعظَّمته كما عظَّمه صِدِّيق، التعظيم مُتعلِّق بالمعرفة، أذكر لكم بعض الأمثلة؛ لو أننا دعونا أكبر جرَّاح قلب في العالَم إلى زيارة بَلدنا، وخرج لفيفٌ من كبار أطبَّاء بلدنا لاستقباله، في المطار يوجد ألوف الأشخاص، هذا الذي وصل إلى بلدنا إنسان قد يرتدي ثياباً عادية، قد يراه بضعُ مئاتٍ من الناس في أرض المطار ولا يعرفون من هو، أما هذا الذي جاء لاستقباله، ويعرف حجمه العلمي، ويعرف سُمعته العالية، ويعرف براعته في إجراء العمليات الجراحيَّة، يستقبله، ويُسلِّم عليه بسلام حار مُفْعَم بالتعظيم.
كنت مرَّة في مسجد أُصلي المغرب، كان يصلي في المسجد رجل قصير القامة، مُنحني الظهر، يرتدي ثوباً أبيض، من ينظر إليه يظنه إنساناً أقل من عادي، أنا أقبلت عليه، وسلَّمت عليه سلاماً فيه مُنتهى التكريم، صديقٌ لي كان معي، قال لي: من هذا الذي أقبلت على التسليم عليه هكذا؟ قلت: هذا كان عميد كُلِّيتنا، وهو من أعلم علماء بلدنا في النحو والصرف، أنا بحكم أنني كنت تلميذه، وكان عميد كُليتنا، وأعرف مؤلَّفاته، أعرف باعه الطويل في اللغة العربيَّة وفي علومها، أقبلت عليه دون أن أشعر بسلامٍ مُفْعَمٍ بالتعظيم، فأنت تُعظِّم بني البشر بقدر ما تعرفهم.
أهل الدنيا لو التقوا بإنسان حجمه المالي خمسة آلاف مليون مثلاً، يكادون ينحنون أمامه، الذين يحبون المال يُعظِّمون أهل المال، هذا بيل غيتس معه مئة مليار دولار، هذا أكبر غَني في العالم، هو صاحب شركة ميكروسوفت للكمبيوتر، لو فرضنا إنساناً يحب المال، والتقى ببيل غيتس يكاد يركع أمامه تعظيماً له، المؤمن يُعظِّم الله عزَّ وجل.
بالمناسبة أيها الإخوة مادام ذكرنا اسم بيل غيتس وذكرنا اسم الأغنياء من علامة الإيمان أنه يُعظّم الله، وأنه يعظِّم رسله وأنبياءه، ويعظِّم المؤمنين، ويوالي كلَّ ما يتَّصل بأهل الإيمان، ولا يملأ عينه إلا أهل الحق، ولا يتأثَّرُ إلا بأهل الحق، ولا يعبأُ بإنسان يعصي الله.
الفرق بين المؤمن وبين أهل الكفر والعصيان:
التقيت مرَّة إنساناً يحمل شهادتي دكتوراه، وشهادتين في حقلين متباعدين؛ واحدة في الفيزياء، والثانية في التربية، قال لي دون أن يشعُر: أنا لا أصلي، سبحان الله! سقط من عيني، أي هذا الذي خلقك من ترابٍ، ثم من نطفةٍ، ثم سوَّاك رجلاً، ألا ينبغي أن تعبده؟ ألا ينبغي أن تخضع له؟ ألا ينبغي أن تُقِرَّ بنعمه عليك؟ فالمؤمن يعظِّم أهل الإيمان، أما أهل الكفر والعصيان لا يعبأُ بهم، ولا يُلقي لهم بالاً.
من سِيَر العلماء الصالحين:
يروى أن أحد العلماء الكبار كان في الحَرَم المَكِّي، فجاء أحد الخلفاء قال له: سلني حاجتك؟ هذا رأس مجتمع، قال له: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، أنا في هذا المكان لا أسأل إلا الله، فلما التقاه خارج البيت الحرام قال له: سلني حاجتك؟ قال: والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟! فلما أصرَّ عليه قال: حاجتي أن تُدخلني الجنة، قال له: هذه ليست بملكي، فقال له: إذاً ليس لي عندك حاجة.
يروى أن أبا جعفر المنصور التقى أبا حنيفة بن النعمان، قال له: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا؟ أيْ تعالَ زرنا، قال له: ولِمَ أتغشَّاكُم وليس لي عندكم شيئاً أخافكم عليه؟ وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء؟ إنك إن أكرمتني فتنتني، وإن أبعدتني أزريتني، ليس لي مصلحة.
ذكرت أن أهل الدنيا يعظِّمون الأغنياء، أما المؤمنون والله المؤمن الصادق قد يُعَظِّم إنساناً فقيراً جداً، في أدنى درجة اجتماعية، لأنه مؤمن ومستقيم يحتفل به.
سيدنا الصديق من أرقى أرومات قُريش، سيد، فلما اشترى بلالاً من سيِّده قال له سيده: والله لو دفعت به درهماً لبعتكه، قال له: والله إن طلبت مني مئة ألفٍ لأعطيتكها، وضع يده تحت إبط بلال، وقال: هذا أخي حقاً، وأنتم أيها الإخوة؛ يجب أن تعظَّموا أهل الدين؛ المؤمنون، المستقيمون، الأطْهار، الأَعفَّة، أما إنسان تارك صلاة، إنسان تارك السُّنة، إنسان يتحرَّك وفق شهوته، هذا إنسان مسموحٌ لك أن تعامله معاملةً محدودة، مسموحٌ لك أن تقيم معه علاقات عَمل فقط، أما العلاقات الحميمة لا تكون إلا مع المؤمنين الصادقين.
على قَدْرِ المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القَلب:
على قَدْرِ المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القَلب، أعرف الناس بالله عزَّ وجل أشدّهم له تعظيماً وإجلالاً، وقد ذمَّ الله تعالى من لمْ يُعظِّمه حقّ عظمته، ولا عرفه حقّ معرفته، ولا وصفه حقّ صِفته، وأقوالهم تدور على هذا فقال تعالى:
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)﴾
تعظيماً.
﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)﴾
قال ابن عبَّاس ومجاهد: ما لكم لا ترجون لله عظمةً؟ وقال سـعيد بن جبير: ما لكم لا تُعظِّمون الله حقّ عظمته؟ وقال بعضهم: ما لكم لا تخافون الله حقَّ الخوفِ منهُ؟ وقال بعض العلمـاء: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يُثيبكم على توقيركم إيَّاه خيراً؟ قال بعض العلماء: روحُ العبادة الإجلال والمحبَّة، فإذا تخلَّى أحدُهما عن الآخر فسدت.
كما أقول لكم دائماً: العبادة غاية الخضوع مع غاية الحُب، إجلال ومحبَّة، إجلال بلا محبة العبادة فاسدة، محبة بلا إجلال كذب، العبادة فاسدة.
روح العبادة الإجلال والمحبة، فإذا تخلَّى أحدهما عن الآخر فسدت، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المُعَظَّم فذلك حقيقة الحمد، والله سبحانه وتعالى أعلم، إجلال ومحبة وثناء.
الآن لو دخلنا في تفاصيل هذا الموضوع، أول التعظيم تعظيم الأمر والنهي، ليس الوليٌ الذي يمشي على وجه الماء، وليس الوليُّ الذي يطيرُ في الهواء، ولكن الوليَّ كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.
إذاً أول أنواع التعظيم تعظيم الأمر والنهي، ومن علامات تعظيم الأمر والنهي ألا يشوبَهُما تَرَخُّصٌ جافٍ، أو تشددٌ غالٍ، أي هناك وضع وسطي، وضع معتدل، وضع سليم، وضع قياسي، فإذا تساهلت هذا التساهل يعني أنك لا تُعظِّم الله عزَّ وجل، وإذا غالَيْت معنى ذلك أنك لا تُعظِّم الله عزَّ وجل، فالغلوُّ يُقابل التفريط، أو العبادة الحقة بين الإفراط والتفريط، هناك تفاصيل سآتي على ذكرها بعد قليل.
قال: هناك أمران يُنافيان تعظيم الأمر والنَهي، أحدُهما التَّرَخُّص الذي يَجْفو بصاحبه عن كمال الامتثال، أي يُصلي كنَقر الديك، يصوم ويغتاب، يصوم ويُطلق بصره في الحرام، يحجُّ بيت الله الحرام وهو ساهٍ ولاهٍ، ولا يعنيه إقباله على الله بقدر ما يعنيه أداء المَناسك فقط.
تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب:
أنا حدثني أخ، قال لي: أصلي العصر يوم عرفة بجدَّة، ما هذا الكلام؟ قال لي: أبداً، أركب سيارتي من جدة إلى مكة الطريق خالٍ، لا يوجد فيه إنسان، أدخل الكعبة، أطوف سبعةَ أشواط في أقلَّ من ربع ساعة، لأنه لا يوجد أحد، الناس كلهم في عرفات، ثم أتَّجه نحو عرفات وأوقف سيارَتي في أوَّل عرفات، فإذا غابت الشمس عُدت أدراجي إلى مِنى والطريق فارغ، لأنني أول سيارة، قال لي: أصلي المغرب والعشاء في مزدلفة جمعاً ثم أتجه إلى منى، وأرجم الجمرات أول إنسان، وأنزل وأطوف البيت طواف الإفاضة في الليل، وأُوكِّل برجم الجمار في الأيام التالية، وأعود إلى بلدي، قلت له: هذا حج، ثماني ساعات كل الحج، ثماني ساعات فقط، أقل من ثماني ساعات، تقريباً ثماني ساعات، قلت له: هذا الحج يُشبه إنسان دُعي إلى طعام نفيس، والمُضيف واضع سجل زيارات، فجاء ووضع "م" ووقّع ورجع ولكن لم يأكل شيئاً، سجَّل حضوراً، ولكنه لم ينتفع بالدعوة، هذه دعوة.
فالعبادة إذا تساهلنا بها فهذا من عدم تعظيم الله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
من علامة تعظيم أمر الله ألا تغالي وألا تُفرِّط:
إذا شدَّدنا على الناس، امرأة جاءتها الدورة قبل طواف الإفاضة، والمسؤول صاحب مَذهب مُتعصِّب، قال لها: عليكِ بدنة، بركت كالبدنة، امرأة لم تستطع أن تطوف طواف الإفاضة بسبب الدورة، فعند بعض المذاهب عليها بدنة، أيْ مئة ألف ليرة، وهي لا تملك شيئاً منها، شدَّد، لا يوجد عندي غير هذا الحل، ألا يوجد مذهب ثانٍ؟ لا يوجد، أبداً، كذلك التشدُّد، تكليف الناس ما لا يطيقون، وحملهم على ما لا يستطيعون، والتضييق تضييق المسار إلى درجة ممر إجباري ضيِّق، هذا ليس من شأن الدين العظيم، طبعاً عند السادة الشافعية تغدو أميرة الحج، ينتظرُها فوجها، وعند المالكية تطوف البيت ولا شيء عليها، فإذا كانت موسرة نقول لها: عليكِ بدنة، انفعي الفقراء، وإن كانت مقيمةً، إن كان لها قريب مقيم في جدَّة أو في مكة، نقول لها: اجلسي عند ابنكِ وانتظري سبعة أيام، وطوفي وعودي إلى بلدكِ، عند السادة الشافعيَّة، وإن كانت مُلْحَقَةً بفوجٍ وفقيرةً، وليس لها أحدٌ في هذه البلاد، نقول لها: طوفي البيت ولا شيء عليكِ على مذهب الإمام مالك، ولولا مالك لكان الدين هالك.
هذه توسعة، لا تُضيِّق، هناك من يُضيّق إلى درجة صار هناك اختناق، فالمتشدِّد يقابل المتساهل، وكلاهما لا يعظِّمان أمر الله عزَّ وجل.
آتي بمثل قريب؛ كنا بالخدمة الإلزاميَّة، فهناك نظام بالطعام، إذا كان هناك أمر معين أثناء الطعام إذا صدر يجب أن تقف عن الطعام، يكون هناك طالب ضابط يصبّ الشاي، فإذا سمع أمر التوقُّف لا يغيِّر يده ولا شعرة، هذا الإبريق يفرغه في الكأس، وينساب الشاي، ينفِّذ الأمر، قال الآمر: اسكت، انتهى، فرَّغ إبريق بأكمله على الطاولة، لأنه يُنفذ الأمر، أليس هذا مستهزئاً بالآمر؟ تثبيت يدَّك بصب الـشاي في كأس حتى يفرغ الإبريق كله، وأنت تنفِّذ التعليمات بدقَّة، قال لك: اسكت، انتهى الأمر، هذا استهزاء، لا تتمكن أن تحركها ميلمتر واحد أو ميلمترين توقف الشاي، فالمغالي كالمُفرِّط بالضبط، الذي يبالغ كأن يقول لك: بسورة الفاتحة أربع عشرة شدَّة، إذا نقصوا شدة واحدة كل صلواتك باطلة، والله هذه مغالاة، غلو، إذا شخص غير عربي، وعنده لكنة، وعنده حال مع الله رائع جداً، لكن ضبطه غير صحيح، هل هذا ذهب لجهنم؟!
ذات مرَّة كنَّا في درس من دروس جامع النابلسي، دخل رجل-توفي رحمه الله- بأعلى صوت، والجامع مُمْتَلئ عن آخره، قال: كل شخص ليس على رأسه طاقيَّة فصلاته باطلة، هكذا بهذه البساطة؟ فالذي يُغالي كالذي يفرِّط.
من علامة تعظيم أمر الله ألا تغالي وألا تُفرِّط، كان عليه الصلاة والسلام أخفَّ الناسِ صلاةً في تمام.
حدَّثني أخ ذات مرة كان في تعزية، قال لي: بعد أن انتهى القرآن دعا الشيخ خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ثلث ساعة، خمساً وعشرين دقيقة، قال لي: غفلت، متعب، نمت، استيقظت قلت لهم: أين وصل؟ أيعقل أن يكون الدعاء ساعة مثلاً؟! هذا غلو، عندما تُحمِّل الناس فوق طاقتهم.
مرة أخ قال لي: لماذا لا يكون درسنا ما بين المغرب والعشاء بالضبط؟ قلت له: بالصيف يوجد بين المغرب والعشاء ساعة ونصف بالضبط، هل أنت تتحمَّل درساً مدَّته ساعة ونصف؟! أول ربع ساعة تكون نشيطاً، ثاني ربع ساعة تكون متحمِّلاً، ثالث ربع ساعة تضجر، الرابعة يجوز أن تسبّ المتكلم مثلاً، المفروض أن تجلس إلى الدرس وأنت تشتهي سماع الدرس، وأن ينتهي الدرس وأنت تشتهي متابعة الدرس، أنا درسي عبارة عن خمسين دقيقة، أحياناً يكون أربعين دقيقة، أنا هكذا قناعتي، خلال التعليم مدة ثلاثين سنة وجدت أن الإنسان طاقة استماعه عبارة عن خمسين دقيقة أعلى شيء، وأربعين أفضل، فأجعله يأتي بشوق، وينتهي الدرس وهو بشوق أفضل.
بالمناسبة مرة في العمرة وفي المسجد النبوي، أنا أحبّ أن أحضر دروس علم وأنا في العمرةِ أو الحج، هناك في المدينة المنورة رجل أحترمه جداً، له درس فقه، ودرسه عميق، فأنا حريص على حضور درسه، ذات مرة حضرت الدرس، فإذ بي أتعب تعباً شديد جداً، وطال الوقت بشكل غير معقول، قلت: سبحان الله! يجب على كل الدعاة أن يحضروا دروس علم لغيرهم، كي يعرفوا قيمة الوقت، المتكلِّم إخواننا لا يشعر بالوقت، ولا يتعب، ولا يعطش، ولا يشعر بالحر ولا بالبرد لأنه في نشاط.
أقول لك مثلاً أوضح: حينما كنتَ طالباً في الجامعة، كيف تمضي الساعات الثلاثة في الامتحان؟ كانت تمضي كلمح البصر، ثلاث ساعات، من شدة الاهتمام والتفاعل مع الأسئلة والورقة، أعمل هكذا مضى ساعة، ساعة ثانية، ساعة ثالثة، أعرف أننا بدأنا سحبوا الورقة من يدنا، هكذا أعرف كل دراستي الجامعية، بعد هذا علَّمت في الجامعة حوالي خمس وعشرين سنة، قل لي ما هو أصعب شيء في الجامعة؟ المراقبة، نجلس، يمضى وقت طويل، مضى ثلاث دقائق، أعوذ بالله! أقلب الساعة بالعكس، أصبر أصبر مضى خمس دقائق، أين ثلاث الساعات؟ والله ثلاث ساعات تمضي وكأنها دهر، إذا كان هناك حيوية لا أشعر بالوقت، الوقت نسبي يثقل ويَخِف، هكذا قال الشاعر:
إن يَطُل بعـدك ليلي فلـكم بِتُّ أشكو قصر الليل معك
الشاعر يحب محبوباً.
فالمتكلِّم لا يتعب، ولا يشعر بالحر، ولا بالقَر، ولا بالجوع، ولا بالشبع، ولا بالعطش، ولا بالرّي، ولا بالوقت، من الذي يشعر بثقل؟ المستمع، فكان عليه الصلاة والسلام يتخوَّل أصحابه في الموعظة، وأنا أُفضِّل أن أُنتقد لقصر الدرس عن أن أنتقد لطول الدرس، وأرجو الله أن أكون على صواب.
كل أمر إلهي الشيطان له فيه نَزْغَتان:
إذاً التعظيم بين الإفراط والتفريط، فالترخُّص-العوام يُعبرون عنا: ركعتان دون وضوء، كمن هذا الذي حج ثماني ساعات-فالترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، والغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي، هناك إنسـان يبقى في الحمَّام أربع ساعات، هذا عنده داء الوسوسة، هناك إنسان يقضي حاجة بساعة أحياناً.
وما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإما إلى إفراطٍ وغلو، أبداً، كل أمر إلهي الشيطان له نَزْغَتان: إما إلى إفراطٍ وغلو، أو إلى تفريطٍ وإضاعة.
ودين الله وسطٌ بين الجافي والغالي؛ كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسطُ بين الطرفين، فكما أن الجافي عن الأمر مُضيِّعٌ له، فالغالي فيه مُضيعٌ له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
هناك كثير من الفتاوى فيها تشدُّد غير معقول، كلمة خطأً قالها الزوج طلَّقوا له زوجته، والله أعرف أُناساً إذا لبس نعل زوجته تطلق امرأته، لماذا؟ قال: لعن الله المتشبهين بالرجال مِن النساء، والمتشـبه ملعون، والملعون كافر، والكافر تطلق زوجته، ما هذا الكلام؟ إذا لبس نعل زوجته تطلق امرأته لأنه تشبَّه بها، والمتشـبه ملعون، والملعون كافر، والكافر تطلق زوجته منه، يعملون له عقد زواج جديد، هذا غلو، غلوٌ أو تفريط، هذا من عدم تعظيم الآمر.
1-نوع يخرجه عن كونه مطيعاً:
أما الغلو فقد قال الله تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)﴾
الغلو نوعان؛ نوعٌ يُخرِجه عن كونه مطيعاً كمن زاد في الصلاة ركعةً، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكِبار، أو سعى بين الصفا والمروة عشراً، أو نحو ذلك عمداً، ففي زيادة تقلب الطاعة معصيةً، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». ))
وكل إنسان يزيدُ على منهج رسول الله يفعل مزاودةً رخيصة، أنا أسميها مزاودة لا أسميها ورعاً، لست أورع من النبي، وليس منهجك أصوب من النبي، ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام كافٍ كي ترقى به إلى أعلى عليين.
أحد الناس أراد أن يُحرِم قَبل الميقات، نُهِي عن ذلك، فقال: كيف تنهاني وأنا في عبادة؟ فقال له المنتقد: وهل من فتنةٍ أشدّ من أن ترى نفسك سبقت رسول الله؟!
الآن يوجد أشخاص-هكذا بلغني-يمنعون الزوجَ من رؤْية أم زوجته، هكذا أورع، هذا غلو، الله سمح لك أن ترى أم زَوْجتك، هناك أُناس يمنعون زوجاتهم من المُعالجة عند الأطبَّاء، أحياناً يكون مرض لا يوجد فيه اختصاص إلا عند طبيب، لا توجد امرأة .
2-غلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار:
قال: وهناك غلوٌ يُخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله، هذا فوق طاقة الإنسان.
الصحابة ما صلوا من الليل إلا ثماني ركعات فقط، طوال الليل لا ينام أبداً؟ غير معقول هذا الكلام، لو حمل نفسه على قيام الليل كله، هذا الشيء لابدَّ من أن ينقطع ولا يستمر، إذاً هناك غلوّ يُخاف معه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كلِّه، وسرد صيام الدهر جميعاً، بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، خمسة آلاف مرة اذكر الله عزَّ وجل، مئتا مرة تحتاج إلى ربع ساعة، الخمسمئة تحتاج ربع ساعة، قد يكون خمس أو ست ساعات أو أنفق مالك كله، هذا غلو أيضاً، المال قِوام الحياة، عندك زوجة وأولاد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». ))
أيْ ارتاح، إذا الإنسان أقال في رمضان، أي أقال ظهراً من القيلولة كانت له عوناً على قيام الليل، الإنسان ينام، وينام بعد الظهر، ويرتاح ويصلي حتى يكون نشيطاً.
رسالة إلى المعتمرين والحجاج:
أنا أنصح إخواننا المعتمرين والحُجَّاج أقول له: إذا وصلت إلى بيت الله الحرام، إياك أن تدخل بيت الله الحرام مباشـرةً، لماذا؟ أنت مُنهك من السفر، بالطائرة عدة ساعات، وعلى الحدود، وفي المطار تحتاج إلى ساعتين أو ثلاث، والتفويج ساعتان، تصل منهكاً، فالجسم له حق، إذا دخلت مباشرة قد لا تجد نفسك هذا الإقبال، وهذا التألُّق، تصاب بنكسة، اذهب إلى البيت وارتح ساعاتٍ طويلة، واغتسل وادخل بيت الله الحرام نشيطاً، كي يكون النشاط عوناً لك على الاتصال بالله عزَّ وجل،
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الْحَبْلُ»؟ قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ».))
((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ -أي مادام نشيطاً-فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ )) يرتاح، وفي صحيح مسلم
(( عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال: هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً. ))
وهم المتشددون؛ أيْ النبي قال: من كانت ناقته حرون فلا يذهب معنا، هناك إنسان من الصحابة خالف، وذهب مع النبي في الجهاد بناقة حرون، وقع من على ظهرها ودُقَّت عنقه، فلم يصلِّ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري:
(( عن النبي صلى الله عليه وسلَّم: خُذوا منَ العَملِ ما تُطيقونَ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، قالت عائشةُ: وكان أحبُّ الصَّلاةِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما داوَمَ عليها وإنْ قَلَّتْ، قالت عائشةُ: وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا صلَّى صلاةً داوَمَ عليها، قال أبو سَلَمةَ: قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]. ))
أنا أتمنى فترة ربع ساعة كل يوم اقرأ خمس صفحات من القرآن، لو ألزمت نفسـك بجزء قد لا تستطيع، إذا كان لديك وقت وهناك طلاقة اقرأ جزءاً، أما الحد الأدنى خَمس صفحات، اعمل لنفسك برنامجاً معقولاً تستطيع أن تفعله كل يوم، إذا لزمت درس علمٍ حافظ عليه،
(( عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ». ))
وقيل: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبَغِّضَنَّ إلى نفسـك عبادة الله.
قال بعض العلماء: أشدّ أنواع التعظيم تعظيم الحَق سبحانه وتعالى، وهو ألا يجعل دونه سبباً، ولا يرى عليه حقاً.
1- أن تعتقد أنه ليس بينك وبينه حجاب وليس بينك وبينه واسطة:
من تعظيم الله عزَّ وجل أن تعتقد أنه ليس بينك وبينه حجاب، وليس بينك وبينه واسطة، إذا قلت: يا رب، قال لك الله: لبيك يا عبدي، يا رب تبت إليك، يقول لك: عبدي وأنا قد قبلت.
من البِدَع مثلاً أن نُكّلِّف إنساناً يعمل لنا استخارة، استخر أنت، ليس بينك وبين الله حجاب، أنت استخر الله في هذا الأمر، الاستخارة بالنيابة لم ترد عن رسول الله أبداً، أكثر هذا في شأن الزواج، يكلفون إنسانة أن تعمل استخارة، تقول: والله هذا الزواج جيداً أو غير جيد، هذا كلام غير علمي، النبي علَّمنا أن نستخير الله نحن مباشرةً، فلا يُوصِل إلى الله إلا الله، ولا يُقَرِّب إليه سواه، ولا يُدني إليه غيره، ولا يُتَوصَّل إلى رضاه إلا به، فما دلّ على الله إلا الله، ولا هدى إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، فإنه سبحانه هو الذي جعل السبب سبباً، فالسبب وسببيَّته وإيصاله كله خلقه وفعله، أي لا يوجد إلا الله عزَّ وجل، أما إنسان له شيخ، عالم جليل، مرشد حكيم، هذا مُسَرِّع، وأقوى دليل قال:
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)﴾
هذا رفيق من أعلى مستوى ﴿اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ الشيخ والمرشد هذا يعينك بعلمه أو بحاله، أما أن يكون هو الوسيط الوحيد، لا، ليس بينك وبين الله حجابٌ أبداً.
2- ألا ترى لأحدٍ من الخلق لا لك ولا لغيرك حقاً على الله بل الحق لله على خلقه:
الشيء الثاني في تعظيم الله عزَّ وجل ألا ترى لأحدٍ من الخلق لا لك ولا لغيرك حقاً على الله، بل الحق لله على خلقه.
إذا أحد من الناس وجد بيتاً، لو فرضنا هو إنسان غني، وجد بيتاً بثلاثين مليون، ممتاز، أربعمئة متر، له إطلالة جميلة، فيه كل وسائل الراحة، فدفع المبلغ عدّاً ونقداً، وسجله بالدوائر الرسمية، لو أنه التقى مع صاحب البيت الأول هل يرى لصاحب البيت عليه فضلاً؟ لا، أخذ حقَّه الكامل، وقد يكون دفع أغلى من ثمنه، فالذي اشترى بيتاً بثمن مثله تماماً ودفع المبلغ عدّاً ونقداً، وسجله بالدوائر الرسمية، سجله باسمه هل يرى الشاري للبائع عليه فضلاً؟ أبداً، يقول له: ليس لك فضل، أخذت حقَّك كاملاً، بيت ثمنه ثلاثون مليوناً، أنت اشتريت مفتاحاً ثمنه ست عشرة ليرة، منك ثمن المفتاح، والبيت قدَّمه لك صاحبه، قال لك: ادفع فقط ثمن المفتاح، أنا معي مفتاح واحد، خذه وانسخ منه نسخة، واسكن في البيت، لو التقيت مع صاحب البيت بعد يومين كيف تُسلِّم عليه؟ حينما تعتقد أنك دخلت الجنة بعملك فأنت لا تعرف الله، أنت دخلت الجنة بسبب لا بثمن، أنت لم تدفع ثمنها، دفعت سببها، كل عملك الصالح في الدنيا هو سبب لدخول الجنة، كل العمل الصالح؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وحَجٍّ، وزكاةٍ، وغضّ بصرٍ، وتحرّي حلالٍ، وخدمة الخلق، كل هذا العمل يساوي ثمن مفتاح الجنة، فأنت دخلتها بسبب لا دخلتها بثمن، فالجنة مَحْضُ فضلٍ، والنار محض عَدلٍ، فأنت حينما ترى أن لك حقاً عند الله، أنت لا تعرف الله ولا تُعظِّمه، ليس لك عنده شيء:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾
خلقك ولم تكُ شيئاً، هو من كرمه وفضله أنشأ لك حقاً عليه، إذا عبدته حقَّ العبادة.
حقوق العبيد على الله عز وجل:
قال: وأما حقوق العبيد على الله عزَّ وجل من إثابته لمُطيعهم، وتوبته على تائبهم، وإجابته لسائلهم، فتلك حقوقٌ أحقَّها الله سبحانه على نفسه بحكم وَعْدِهِ وإحسانه، لا أنها حقوقٌ أحقّوها هم عليه.
أنت وجدت إنساناً ليس لك عنده شيء أبداً، قال لك: أنا سأعطيك بيتاً، إذا أنت قلت له: أين البيت؟ بنبرة قاسية سيقول لك: أي بيت هذا؟ هل لك عندي شيء؟ يجب أن تطلب منه البيت بلطف، لأنه ليس لك عنده شيء بالأساس أنت، فإذا توهم الإنسان أن له حقاً على الله، هذا فيه جهل كبير، وهذا من عدم تعظيم الله عزَّ وجل، أنت عبدُ إحسان، أنت خُلِقت للجنة برحمة الله عزَّ وجل، والجنة مَحْضُ فضلٍ.
أيها الإخوة الكرام؛ تعظيمُ الله عزَّ وجل من مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعْبد وإيّاك نستعين، والتعظيم مقترن بالمعرفة.
متى تُعظِّم الناس ومتى لا تُعَظِّمهم؟
أنا التقيت مرة مع إنسـان لا أعـرفه أبداً، وبيننا عمل علمي، فقلت له: إذا احتجت لشيء باللغة العربيَّة فأنا مختص، قال لي: أنا معي اختصاص عربي كذلك، بعد هذا تبين لي أنه خطَّاط كذلك، ورسَّام، وشاعر، ومخرج للمَقالات، فأنا كلَّما ذكر صفة لي وأراني الأدلَّة، والخطوط، والقصائد الشعرية، والاختصاص، فأنا كلَّما قدَّم لي ميزة من ميزاته كبر بنظري، أحياناً إنسان لا تعرفه، فإذا جلست معه عرفته، فأنت تعظِّم الناس بقدر معرفتك بهم، وقد لا تعظِّمهم بقدر جهلك بحقِّهم.
ثمرات التعظيم:
على كلٍّ؛ تعظيم الله عزَّ وجل مرتبط بمعرفته، فمن عرف الله عظَّمه، والتعظيم من أكبر ثمراته طاعة الله عزَّ وجل، وأيُّ عبدٍ لا يطيع الله التشخيص المرضي لهذه الحالة أن تعظيمه لله ضعيف، لأن تعظيمه لله ضعيف حمله على معصيته، ويستوي المُفْرِط والمُفَرِّط، والمُبالغ والمُقصِّر.
أنت بالمبالغة تُكَرِّه الناس بدين الله، مثلاً ورد أن الكحول نجس، الكحول خمر، إذا عطَّرك أحد عطراً كحولياً، استعمال خارجي، هناك من يَخْرُج من جلده نجس، أي كالغائط؟ لا، مجمع الفِقه أقرَّ أن هذه نجاسة مخفَّفة وحُكْمِيَّة، وتذهب بطيرانها، طبعاً الأولى ألا تتعطَّر قبل الصلاة بعطر كحولي، أما لو أحد عطَّرك وهذا اسـتعمال خارجي وليس استعمالاً داخلياً، ونجاسةٌ حكميةٌ معفوٌّ عنها، ومؤتمر الفقه الإسلامي الذي عُقد في جدة أقرَّها.
هناك إنسان يُكرِّه الناس، إنسان يكون إيمانه ضعيفاً، أو حديث عهد بالإسلام إذا معه زجاجة عطر، هذه نجسة، هذه مبالغة، أنت ورعاً لا تستعملها، أما إذا عطَّرك لا يوجد مشكلة الآن، هناك أمامه مراحل طويلة جداً قبل أن يصل لهذا الحُكم الشرعي، هناك من يُشَدد، ويبالغ.
يدخل إلى بيت يجد فيه صورة، صاحب البيت في الأصل لا يصلي، حرام، كلِّم إنساناً عرف الله عزَّ وجل وبقي عليه الفروع، أما هو أصول الدين مهزوزة عنده، فإذا خاطبته بفروع الدين أنكر عليك أشدّ الإنكار، قال تعالى:
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)﴾
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق