وضع داكن
16-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 083 - منزلة التوكل -3- علاقة التوكل بحسن الظن بالله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة التوكل :


أيها الإخوة المؤمنون, مع الدرس الثالث والثمانين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ولا زلنا في منزلة التوكل.

 

تمهيد :


تحدثت في الدرس الماضي عن علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب، وبينت أنه لا يتناقض الأخذ بالأسباب مع التوكل، لأن التوكل محله القلب، والأخذ بالأسباب محله الأعضاء، ومتى نقل التوكل إلى الأعضاء كان التواكل، والتواكل دمر الأمة الإسلامية، وما من موضوع المسلمون في أشد الحاجة إليه أكثر من أن يفهموا معنى التوكل، أن يأخذوا بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكلون على الله وكأنها ليست بشيء، يأخذ بالأسباب على أنها أسباب, وقد أُمِر الإنسان أن يأخذ بالأسباب، لكن قلبه معتمد على الله، مستسلم له, مفوض له، راض بحكمه.

وبينت أيضاً علاقة التوكل بالتوحيد، وأن الإنسان إن ضعف توحيده ضعف توكلـه.

أنت حينما تدعى إلى أن تعتمد على زيد، وتتوهم أن الأمر بيد عُبيد، يضعف اعتمادك عليه، إذا دعيت إلى أن تعتمد على زيد، وأنت متوهم أن الأمر بيد عبيد، لن تتوكل على زيد، لأن وهمك يصور لك أن الأمر بيد عبيد، فكلما ضعف التوحيد ضعف التوكل، وكلما أيقن الإنسان أن الأمر بيد الله وحده, وأنه لا رافع ولا خافض, ولا معز ولا مذل، ولا معطي ولا مانع، ولا قابض ولا باسط إلا الله, جعل همه هماً واحداً فكفاه الله الهموم كلها، وعمل لوجه واحد فكفاه الله الوجوه كلها، هذا في الدرس الماضي.

 

علاقة التوكل بحسن الظن بالله؟ :


وأقف مليًّا عند علاقة التوكل بحسن الظن بالله: ذكرت مرة أن الإنسان في علاقاته مع بني البشر، يدعو إنساناً إذا كان موجوداً، ويدعوه إذا كان قريباً منه، ويدعوه إذا كان يسمعه، ويدعوه إذا كان قادراً على تلبية طلبه، ويدعوه إذا كان محباً له، فإذا دعوتَ الله عز وجل، فأنت مؤمن بوجود الله, مؤمن بسمعه وبصره وعلمه، مؤمن بقربه، مؤمن بقدرته، مؤمن بمحبته، فكيف يتوكل الإنسان على الله وهو سيء الظن به؟.

حينما تقرأ قوله تعالى: 

﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)  ﴾

[ سورة الأنبياء  ]

بإمكانك أن تفهم هذه الآية كما ورد تفسيرها في بعض الكتب .

أضرب مثلاً:

لو أنّ نجارًا عنده لوحتان من خشب، وضــع إحداهما باباً لبيت الخلاء، ووضــع الأخرى باباً لقصر، ألك أن  تقاضيه؟ لا، لأن اللوحتين ملكه، هكذا كلام يقال، ولكن ما قولك لو فهمنا قوله تعالى: لا .... ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ )

وأضرب لذلك مثلاً آخر: 

أجرى أستاذٌ امتحاناً, وصحَّح الأوراق، وعرض السلم على السبورة, ووزع الأوراق، فكل طالب تتبع ما كتب وما يستحق, فإذا بدرجته أخذها دقيقة جداً، دون زيادة أو نقصان، فقال الأستاذ: هل من سؤال؟ كل الطلاب سكتوا، ما الذي أسكتهم؟ عدله.

لِمَ لا تفهم قوله تعالـى هكذا: عدلُه أسكت الألسنة، أم هناك معنًى آخر: وهو أن الإنسان مقهور بالوسيلة؟.

أنت ينبغي أن تكـون في حلب غداً، فلا بد من سيارة، فالسيارة وسيلة، والغاية حلب.

أنت مضطر إلى الماء لمزرعتك، لا بد من حفر بئر، فحفر البئر وسيلة، والهدف إخراج الماء، أنت مضطر أن تأكل قمحاً، لا بد من زرع القمح، الإنسان ضعيف، ومن أنواع ضعفه أنه مقهور بالوسائل، الإنسان لضعف بصره يستخدم الميكروسكوب، ولقصور بصره يستخدم التلسكوب, ولضعف يده يستخدم المباضع، لا يستطيع بإصبعه فتح بطن إنسان، لا بد له من مشرط, فكل أداة يستخدمه الإنسان هي امتداد لأعضائه، أو وسيلة يتغلب بها على ضعفه، فالإنسان مقهور بالوسيلة, أما ربنا عز وجل لكمال قدرته كن فيكون، ما في عند الله وسائل، فإذا إنسان تطفل وسأل: لماذا فعل الله هكذا؟ كأنه يجعل الله عز وجل في صفة الإنسان، يعني يحتاج إلى وسيلة ليحقق غاية، لذلك جاء الجواب من الله عز وجل: ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) .

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) ﴾

[ سورة يس  ]

الإنسان مقهور بالوسيلة، لكن الله عز وجل منزه، ولكمال قدرته أمره ينفذ فوراً. 

 

متى يضعف التوكل عند الإنسان؟ :


حتى إن بعض علماء التوحيد قالوا كلمة: كن تحتاج إلى وقت.

هذه قالها الله للتقريب ، بين أمره وبين تحقيق أمره مسافة زمنية، قال هذا تقريباً لعلمِنا، أما أن تفهــم: ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) , أنّه قد يضع إنسانًا أمضى حياته في طاعة الله في النار، لماذا؟ لأنـه: ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) , ولماذا يضع إنساناً أمضى حياته في المعاصي في الجنان؟ قال: لأنه ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) ,  فإذا توهمت أن الله قد لا تتوكل عليه, فإنّ سوء الظن بالله يضعف التوكل، كما أن عدم الأخذ بالأسباب يتناقض مع التوكل، وكما أن ضعف التوحيد يضعف التوكل، فإنّ سوء الظن بالله عز وجل يضعفه أيضاً، أنت حينما تتعامل مع إنسان قوي ليس عنده قاعدة، ولا يسأل عن أخطائه، قلما تعتمد عليه، أما إذا كان يملك قواعد واضحة فأنت مطمئن. سؤال لمريم الآية أضعها في قوس . 


القرآن الكريم كله قواعد :


قال تعالى:

﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) ﴾

[ سورة سبأ ]

قاعدة هي:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) ﴾

[ سورة الشورى ]

قاعدة هي:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ﴾

[ سورة النساء ]

قاعدة هي:

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) ﴾

[ سورة الجن ]

قاعدة هي, يعني أنّ القرآن كله قواعد، نبحث في القرآن الكريم عن القواعد، أو عن السنن، أو بحسب مصطلح القرآن الكريم عن الكلمات:

﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) ﴾

[ سورة الأنعام ]


في القرآن قوانين المقدمات تفضي إلى النتائج حتماً:


﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

في أي بلد، وبصرف النظر عن أوضاع أي بلد، وبصرف النظر عن الشدة التي قد تحيط ببلد، وبصرف النظر عن تفلت الناس من منهج الله, ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) .

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾

[ سورة طه ]

التعامل مع الله سهل جداً، إنه تعامل مع قوانيــن، لأن الله من رحمته جعل للتعامل معه قواعد. 

 

الطرق التي رسم الله لنا لكي نصل إليه :


والله عز وجل رسم لنا كي نصل إليه ألف طريقٍ وطريق، منها الصدقة ، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلاَءَ لا يَتَخَطَّى الصَّدَقَةَ ))

[ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ]

(( صدقة السر تطفئ غضب الرب ))

[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير, والطبراني في المعجم الأوسط ]

الصدقة طريق، والدعاء طريق، الاستغفار طريق، والصلاة طريق، والصيام طريق, وبر الوالدين طريق، ورعاية الأيتام طريق، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، لأن الله يحبنا، ويحب أن يرحمنا، لذلك رسم لنا ألف طريقٍ وطريق، أما الإنسان القوي، قد لا تستطيع أن تصل إليه طوال حياتك، أما ربنا عز وجل رسم لنا آلاف الطرق، فلذلك حسن الظن بالله, يحبنا, يريد أن يتوب علينا، خلقنا ليسعدنا:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ﴾

[ سورة هود ]

خلقنا ليسعدنا، خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليغفر لنا إذا استغفرناه، ليعيننا إذا استعنا به، ليجيبنا إذا دعوناه، ليعطينا إذا سألناه، ليتوب علينا إذا تبنا إليه، حسن الظن بالله يحملك على التوكل عليه:

﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) ﴾

[ سورة المائدة ]

 

من لوازم الإيمان :


فالتوكل من لوازم الإيمان، ومن لم يتوكل على الله فهو بعيد عن الإيمان.

قال العلماء: على قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه.

وهذا ما دفع بعض العلماء إلى أن يفسروا التوكل بحسن الظن بالله.

والنبي -ليه الصلاة والسلام- وهو في مرض الموت، قدم له دواء لذات الجنب، وهو مرض خطير، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك مرض ما كان الله ليصيبني به.

من باب حسن الظن بالله، وأنا أقول لكم: المؤمن المستقيم لا يفضحه الله، يلبسه تهمة باطلة يدمره, هذا مستحيل، من باب حسن الظن. قال تعالى:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[ سورة الطور ]

بل إن بعض العلماء قال: الآيات التي هي موجهة للنبي -عليه الصلاة والسلام-, هي بشكل أو بآخر بحسب إيمان المؤمن موجهة إليه أيضاً بالتبعية، فإذا قال الله عز وجل: ( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) , وكل مؤمن على قدر إيمانه، وعلى قدر توحيده، وعلى قدر استقامته، وعلى قدر إخلاصه هو بعين الله عز وجل، يجب أن تعتقد أن الله لا يتخلى عنك، يجب أن تعتقد أن الله حينما قال:

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾

[ سورة التوبة ]

( لَنَا ) ؛ لم يقل علينا، فرق شاسع بين أن تقول: ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ) , وبين أن تقول: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله علينا، الكلام الدقيق: أن حسنَ الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور توكلٌ على من ساء ظنك به، ولا توكل على من لا ترجوه -والله أعلم-.

إذاً: أحدُ أسباب حسنِ التوكل حسنُ الظن بالله، أحدُ أسباب التوكل الصحيح التوحيدُ، أحدُ شروط التوكل الأخذُ بالأسباب.

 

العلاقة بين التوكل وبين استسلام القلب لله عز وجل؟ :


وهناك علاقة أخرى بين التوكل وبين استسلام القلب لله عز وجل: طفل صغير عمره أربع سنوات في بيت والده، إذا ارتفع سعر الوقود السائل لا يهتمُّ الطفل، والده لا يملك قوت يومه لا يهتم, الأب يحمل همًّا كبيرًا، والابن مرتاح، لا يهتم لطعام، ولا لشراب، ولا لتدفئة، ولا لثياب، همه عند والده، يعني المؤمن من باب أولى، ما دام الله عز وجل هو الغني  الغنى المطلق، وهو القادر على كل شيء، وهو الرحيم، وهو اللطيف، وهو السميع، وهو المجيب، ينبغي أن يستسلم.

لك أيها المؤمن مهمة واحدة أن تطيعه فقط، والباقي على الله، قال تعالى:

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)  ﴾

[ سورة الزمر ]

انتهت مهمتك عند الطاعة، ولا تسأل؛ يا ترى يعطيني؟ هو حكيم، يعطيني كثيراً, لا أدري يعطيني قليلاً فأنا راضٍ، يعافيني فالحمد لله، مرضتُ فأنا صابر على حكم الله، يعطيني زوجة من الدرجة الأولى الحمد لله، من الدرجة العاشرة الحمد لله، يعطيني أولادًا متفوقين يا ربي لك الحمد, مقصرين يا ربي أعن على تربيتهم، حالة استسلام رائعة، المؤمن لا همَّ له، همُّه اللهُ عز وجل, وهو حكيم، وعليم، وسميع، ومجيب، وقريب، فحينما تضع همك في الله عز وجل يكفيك الهموم كلها، وهذا يحتاج إلى استسلام. 

طفل لا يملك ديناراً ولا درهماً, والده غني، هل يشعر هذا الطفل؟. 

فالعلماء قالوا: هذا الطفل غنيٌّ بغنى أبيه.

لو لم تجد بجيبه ولا درهم فهو غني، والآن أقول لكم: 

لو أن المؤمن فقير بالمعنى المادي هو غني عند الله، لأنه إذا سأله أعطاه، وإذا دعاه أجابه، وإذا ابتهل إليه لبّاه، وإن استغاثة أغاثه، وإذا استنصره ينصره، وإن استعان به أعانه، وإن سأله أعطاه، وإن تاب إليه تاب عليه، فالمؤمن غني بالله عز وجل، هناك حالات للتعفف لا يمكن أن تفسر إلا بحالة واحدة, هي ثقة الإنسان بالله عز وجل.

 

المؤمن عزيز :


أحد الخلفاء حج بيت الله الحرام, والتقى بعالم جليل، وقال له: سلني حاجتك، أراد أن يتقرب إلى الله في تلبية حاجة هذا العالم، فقال له: والله إني لأستحي أن أسأل غير الله في بيت الله, فالتقاه خارج بيت الله، قال له: سلني حاجتك، قال له: والله ما سألتها من يملكها، أفأسألها من لا يملكها، ثم ألح عليه، قال له: سلني حاجتك، قال له: أريد أن تدخلني الجنة، وأن تنقذني من النار, قال له: هذه ليست لي، قال له: إذًا: ليس لي عندك حاجة.

ما هذه العفة؟ المؤمن عزيز، لا أجمل من إكرام الغني للفقير، والأجمل من ذلك: تعفف الفقير عن مال الغني، ثقة بالله عز وجل.

ملك الملوك إذا وهب, هذا بيت شعر، والبيت أصله: لا تسألن عن السبب، أنا عدلته:

مَلِكُ المُلُوكِ إِذَا وَهَـبْ قُمْ فَاسَأَلَنْ عَنِ السَّبَـبْ

اللَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَــاءُ فَقِفْ عَلَى حَــدِّ الأَدَبْ

الذي أعطاه يعطيك، والذي أكرمه يكرمك، والذي قربه يقربك، والذي أعانه على حفظ كتاب الله يعينك أنت أيضاً، والذي يسأله يعطيه، لماذا تحب أن تكون تحت رحمة إنسان ؟ كن تحت رحمة الواحد الديان، فاستسلام القلب إلى الله، وانجذابه إليه، وقطع المنازعات هو التوكل. 

في قلب المؤمن من التوكل والاستسلام والراحة ما لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، وفي قلب غير المتوكل من القلق والخوف والضياع والتوتر ما لو وُزِّع على أهل بلد لأشقاهم.

يقال: المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل. لا . ليس هذا صحيحاً، والدليل: 

أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أنصارياً على بعض أصحابه، وقد ورد في السيرة: أن هذا الأنصاري كان ذا دعابة، فَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:

(( بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً, وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ, وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ, فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ, وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا, وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا, ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا, فَجَمَعُوا حَطَبًا, فَأَوْقَدُوا نَارًا, فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ, فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ, قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ, إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ, فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا, إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ))

لا تقبل من إنسان شيئًا إلا بالدليل، ولا ترفض شيئاً إلا بالدليل، والكلمة القاطعة الحاسمة: الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله.

كان عمر وقافاً عند كتاب الله، فالله عز وجل هو الحكيم، وهو العليم، وهو القوي.

هناك ملمح لطيف في قول ربِّنا عز وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ﴾

[ سورة الممتحنة ]

قيدت معصية النبي في معروف.

مرة كنت في الحج أو العمرة لا أذكر، حضرت درسًا في الحرم بين المغرب والعشاء، الذي يلقي هذا الدرس قال: رجل محب لله عز وجل, قال له ابنه: إنني لا أحب اليقطين فقتله، لأن النبي كان يحب اليقطين، حبه لليقطين ليس حكماً شرعياً، هو قضية شخصية، أنا استنكرت هذا الكلام.

تسمع أن ثلاثين رجلاً قتلوا في تركيا, جريمة من غير ذنب، لا، هذا ليس من الدين في شيء.

(( يا ربي أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي؛ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي لأحد بسوء, أحبني, وأحب من أحبني, وحبّبني إلى خلقي، قال: يا ربي إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي   ))

 دائماً عدو الدين يسعى جاهداً لتنفير الناس من الدين، أو لتشويه صورة المؤمن، بشكل يدعو للنفور الشديد.

إذا كان ابن ما أحب اليقطين, لا شيء عليه، أما إذا ما صلى، إذا ما صام، هنا المشكلة، فدائماً الإنسان قبل أن ينطق، يجب أن يقول كلاماً يحبب العباد إلى الله عز وجل، لذلك قال بعض العلماء:

العوام لئن يرتكبوا الكبائر, أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون .

أهون بكثير، بل إن الله عز وجل حينما ذكر بعض المعاصي والأثام، رتبها ترتيباً تصاعدياً, بدأ بالفحشاء والمنكر, والإثم والعدوان, والشرك والكفر, وجعل في رأس هذه المعاصي:

﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) ﴾

[ سورة البقرة ]

كتب عليه الكفر قبل أن يخلق، وجاء إلى الدنيا وأجبره على أن يكون كافراً، أجبره على أن يزني، أجبره على أن يشرب الخمر, واستحق جهنم إلى الأبد، ما قولك بهذا الكلام؟:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾

[ سورة الأنعام ]

عقيدة الجبر عقيدة أهل الشرك، فهناك كلام منفر، هناك من يقول كلامًا فيقطع الناس عن الله عز وجل، ينفرهم من الله عز وجل، يبعدهم عن الدين.

استسلام القلب لله، وانجذابه إليه, وأن يكون العبد بين يدي ربه, كالميت بين يدي مغسله.

اللهم كما دعا النبي الكريم في الطائف: 

(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي,  وهواني على الناس يا رب المستضعفين، إلى من تكلني .....؟ -إلى أن يقول- إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ‏لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات، و صلح عليه أمر الدنيا والآخرة, أن تنزل بي سخطك، أو تحلّ علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ))

يجب أن تستسلم، لأن الله كماله مطلق، ولله الأسماء الحسنة فادعوه بها.

 

ما هي العلاقة التي التوكل بين والتفويض؟ :


وقال بعضهم: التوكل إسقاط التدبير، والاستسلام لتدبير الواحد الكبير، في غير الأمر والنهي، وفوق الاستسلام التفويضُ، وهناك علاقة بين التوكل والتفويض، والتفويض هو روح التوكل، وهو إلقاء الأمور كلها إلى الله عز وجل، وإنزالها به طلباً واختياراً، لا كرهاً واضطراراً، كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه، العالم بشفقته عليه, ورحمته به، وتمام كفايته، وحسن ولايته وتدبيره، فالابن الضعيف يرى أن تدبير الأب خير من تدبيره لنفسه.

ورد في بعض الأدعية النبوية: 

(( اللهم خر لي واختر لي   ))

بربِّك! لو دخلت إلى صديق لك يبيع قطع الذهب والماس، قال لك: عندي هدية، اختر من هذه القطع ما يعجبك, أنت ذكي جداً، قلت: لا والله، أنت اختر لي، إذا كان يحبك حباً جماً ماذا يفعل؟ أنت استعرت خبرته، واستعرت محبته وإخلاصه، فانتقى لك أغلى قطعة، لأنك قلت له: أنت اختر لي، قال لك: اختر قطعة من هذه القطع، قد يكون حجمه كبيرًا، وقد يكون حجمها صغيرًا فيها الماس، وثمنها خمسة أضعاف، لما قلت له: اختر لي أنت، وهو يحبك، وهو كريم, سوف يختار لك أغلى قطعة في محله، لأنك قلت له: خر لي واختر لي، وأنت حينما تفوض، وحينما تستسلم، وحينما تحسن الظن بالله، وحينما توحد، بعد أن تأخذ بالأسباب، وتتوكل عليه، سيأتيك أفضل من أي سعي وكد.

من شغله ذكري عن مسألتي, أعطيته فوق ما أعطي السائلين

لكن نحتاج إلى حسن ظن بالله، فإذا أخذت بالأسباب وكأنها كل شيء, وتوكلت على الله وكأنها ليست بشيء، ثم قوي توحيدك، وحسن ظنك, واستسلمت إلى الله، وفوضت أمرك إليه، فإنه ينقلك إلى درجة هي أروع درجة في الدين، درجة الرضا عن الله:

﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ﴾

[ سورة البينة ]

 

الرضا من ثمار التوكل :


كان رجل يطوف حول الكعبة, فقال: يا رب, هل أنت راضٍ عني؟ وكان وراءه الإمام الشافعي، فقال له: يا هذا, هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك، قال: يا سبحان الله ! من أنت يرحمك الله؟ قال له: أنا محمد بن إدريس، قال له: كيف أرضى عنه وأنا أطلب رضاه؟ قال له: يا هذا إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.

فأي إنسان حتى إذا كان ضعيف الإيمان، حتى إذا كان ما فيه إيمان إطلاقاً، إن أعطاه الله صحة رضي عن الله، وأعطاه الله مالاً رضي، أو أعطاه الله عزاً، وزوجة، وأولاداً ، ومكانة رضي عن الله، هذا شيء بديهي، لكن البطولة: أن ترضى عنه وأنت مريض، وأنت ضعيف، وأنت فقير، وفي بيتك مشكلة، وفي أولادك مشكلة، هنا الامتحان. 

بربكم: هل رأيتم إنساناً واحداً يمتحن مركبة في طريق نازل؟ لا تمتحن المركبة إلا في الطريق الصاعد، والإنسان لا يمكن أن يمتحن في الرخاء، لا يمتحن إلا في الشدة,  والأنبياء الكرام وعلى رأسهم النبي -عليه الصلاة والسلام-: مروا بمضائق صعبة جداً، وكل مؤمن صادق لا بد من أن يمر بمضائق على قدر إيمانه.

أشد الناس بلاء الأنبياء, وأنا أشدهم بلاء ثم الأمثل فالأمثل

وطِّنْ نفسك، أنت راضٍ عن الله في الرخاء والشدة، وفي المنشط وفي المكره، وفي إقبال الدنيا وإدبارها، بزواج أو من دون زواج، بدخل أو من دون دخل، بالصحة أو بالمرض,  بإقبال الدنيا أو بإدبارها، أنت راضٍ عن الله، هذا المؤمن:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أما ضعاف الإيمان قالوا:

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) ﴾

[ سورة الأحزاب ]

هؤلاء ضعاف سقطوا، إذاً هذا الحال: حال التفويض ينقلك إلى مرتبة الرضا عن الله عز وجل، والرضا عن الله عز وجل من أعلى الدرجات، بل هو ثمرة من ثمار التوكل.

 

قصة :


حدثني إنسان يعمل في فعل الخير، قال لي: دخلت على إنسان, حجمه المالي كبير جداً, فشكا لي حاله وبيته وزوجته وأولاده هموم كالجبال، قال لي: لحكمة أرادها الله عز وجل, في اليوم نفسه جاءتني امرأة محجبة تطلب مساعدة، سألتها عن مكان سكنها، فقالت خارج دمشق، في المساء التقى مع جمعية خيرية، أخذ عنوانها، بعد ما انتهى الاجتماع, قال لهم: هناك امرأة يجب أن نزورها لنتحقق من حالتها، فقاموا معه، ودخلوا البيت، والبيتُ تحت درج, المنطقة المنخفضة دورة مياه، الأعلى بقليل حمام, الأعلى غرفة، مع فتحة صغيرة سماوية تحت درجة، البيت نظيف, أولاد كالزهور، لباسُهم نظيف، والزوج مريض، مستلقٍ على السرير، البيت قطعة من الجنة, المرأة المحجبة المؤمنة طلبتْ المساعدة، هي ألف ليرة في الشهر، قالوا: بل هي ألفا ليرة، فقالت له: لا ألف تكفي أجرة البيت. 

الله عز وجل على كل شيء قدير، يشقي الإنسان وهو غني، وقد يسعده وهو فقير، هي السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، فربنا عز وجل إذا تجلَّى على قلب إنسان, ملأه غنًى، وملأه طمأنينة واستقراراً وتفاؤلاً، فأنت ترضى عن الله.

لذلك: يا ربي لك الحمد والشكر والنعمة والرضى، بعد أن تقول: سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد والشكر والنعمة والرضى، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، أن ترضى عن الله هذا قمة الإيمان, تعرفه، ترضى عنه في كل ما يعطيك، إذا قلت: يا ربي لك الحمد أنا راضٍ عنك فقد نجحت، وإذا نجحت أزاح الله عنك كل بلاء، فإذا رضيت ارتقيت عند الله عز وجل، بطولتك: أن تقول وأنت في محنة: يا ربي لك الحمد، لأن المحن هي في الحقيقة منح، المحنة منحة، والشِّدة شَدَّة إليه.

 

التوكل ينتهي بك إلى الرضا :


أخ من إخواننا كان شارداً، وكان مسرفاً على نفسه في المعاصي، لا صلاة، ولا صوم, ولا شيء إطلاقاً، ثم عرف الله عز وجل على أثر محنة قاسية جداً, مرِض مرضًا شديدًا، أدخله المستشفى، قال لي: وأنا على طاولة العناية المشددة بكيت، قلت له: يا رب, أتحب أن ألقاك عارياً؟ أعطني فرصة كي أتوب إليك، فمنحه الله فرصة، ولزم الدروس، وأحكم صلاته، وشعر أنه هو إنسان آخر.

قال لي مرة: أناجي ربي, قلت له: يا رب, كل هذه السعادة في القرب منك, لِمَ لَمْ ترسل لي هذا المرض قبل عشر سنوات؟ كل هذه السعادة.

إذاً: التوكل له علاقة، التوكل ينتهي بك إلى الرضى: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) وهناك معنى آخر: إذا لم تكن الآن راضيًا فسوف ترضى:

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) ﴾

[ سورة الضحى ]

يرضيك فيما بعد، يقول الطبيب للمريض: تحمل الآن وسترتاح بعد ذلك، نحن الآن بطور المعالجة، الحزن خلاق، والإنسانُ أيام الشدة يتألق، والحزن يقربك من الله عز وجل، ويدعوك إلى الاستسلام، الحزن يذيقك طعم القرب منه، هذا كلام قطعي.

(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ, فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ؟ قَالَتْ: الْحُمَّى, لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا, فَقَالَ: لَا تَسُبِّي الْحُمَّى, فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ))

كل ما يبتلى به المؤمن تكفير وتقريب ، ورد في الأثر القدسي: 

وعزتي وجلالي, لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه, إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها، سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء, شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه

إذا كان الله عز وجل فضل علينا، وكنا على شفي القبر طاهرين، المؤمن حينما يرى مقامه في الجنة, وهو على فراش الموت, يقول: لم أر شراً قط، والكافر -والعياذ بالله- حينما يرى مكانه في النار, يقول: لم أر خيراً قط.

يكون ساكن بأحلى بيت, معزوم أكثر من ألفي عزيمة، لم يترك مكان بالعالم إلا وقد زاره، ونازل بمئة فندق خمس نجوم, يقول لك: لم أر خيراً قط.

سيدنا علي يقول: يا بني, ما خير بعده النار بخير, وما شر بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور, وكل بلاء دون النار عافية.

 

كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله :


قد يكون الإنسان في الدرجة الاجتماعية السفلى، ولكنه عند الله كبير، فلا توازن نفسك مع أحد، وازن نفسك مع منهج الله، فإذا كنت مطيعاً لله, أنت الأولي, فأنت في الدرجات العليا، وإنّ قلامة ظفرك تساوي مليار إنسان مترف غنيٍّ بعيد عن منهج الله:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾

[ سورة إبراهيم ]

كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، إذًا: أنت بالطاعة نم قرير العين، فأنت الفائز:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) ﴾

[ سورة الأحزاب ]

أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أن نتمثل هذه المنازل، ومن هذه المنازل منزلة التوكل.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا, وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبة وسلم.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور