وضع داكن
20-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 084 - منزلة الشوق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 


منزلة الشوق : 


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والثمانين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الشوق إلى الله عز وجل .

أصل هذه المنزلة من قوله تعالى: 

﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) ﴾

[  سورة العنكبوت ]

( يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ) : أي هو مشتاق إلى الله، هذه المنزلة تنطلق من هذه الآية، وكأن الله عز وجل يطمئن هذا المشتاق: أنه لا بد من أن تصل إلى مطلوبك، لا بد من أن تصل إلى محبوبك، لا بد من أن تقر عينك بالله عز وجل:(مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) أنتم الآن في دار عمل ، والآخرة دار الجزاء، نحن في دار التكليف ، والآخرة دار التشريف, نحن في دار السعي ، والآخرة دار اللقاء، لذلك المؤمن وعده الله عز وجل بجنات عرضها السموات والأرض, هذا ورد في معنى قوله تعالى: 

﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾

[ سورة يونس ]

الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وهناك مرتبة فوق الزيادة:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) ﴾

[ سورة التوبة ]

فالدرجة الأولى الجنة وما فيها؛ من أنهار، وأشجار، وحور عين، وولدان مخلدون، ثم ما فيها من نظر إلى وجه الله الكريم، ثم ما يناله المرء من رضوان الله عز وجل, لقول الله عز وجـل: ( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) , هذه الجنة تحقق للمشتاق بغيته، ولكن المشتاق في دار العمل, فلو غرق في أحوال أضعفت عمله، لذلك قال الله عز وجل: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) اطمأن أيها المؤمن، ولعله إذا قرأت قوله تعالى يذوب قلبك:

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) ﴾

[ سورة الضحى  ]

وكأن هذه الآية تشير إلى أن المشتاق سيصل إلى محبوبه. قال: هذه الآية في قوله تعالى: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) في هذه الآية تعزية للمشتاقين وتسلية لهم؛ أي أن الله عز وجل يعلم أنه من كان يرجو لقاءه فهو مشتاق إليه، لقد أجل له اللقاء، ولكن كل آت قريب، وفي النهاية سيصل إلى محبوبه. وقد كان عليه الصلاة والسلام يسأل الله عز وجل في دعائه الشريف الطويل:

(( أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ, وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ, فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ, اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ, وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ))

بعضهم يدعو عقب الصلاة, فيقول: اللهم أعن على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, وارزقني الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.

فهنيئاً لمن اشتاق إلى الله، سيغدو الموتُ تحفتَه، وسيغدو الموتُ عرسَه.

حدثني بعض الأطباء الذين يعيشون في بلاد أمريكا قال: الإنسان يتوافر في حياته؛ الغنى, والرفاه, والراحة, والأشياء التي يحرص عليها، لذلك من أكبر مصائبه: قربُ الموت منه، فيصاب بانهيار عصبي, وبحالة فزع، أو هلع لا توصف، لماذا؟ لأن آماله كلها وضعها في الدنيا، والموت مصير كل إنسان, أما هذا المؤمن ماذا فعل؟ وضع آماله في الآخرة، قدم ماله أمامه، فسرَّه اللحاقُ به، جاهدَ نفسه وهواه، فسرَّه أن يلقى الله وهو عنه راضٍ، بذل من ماله ومن وقته وجهده وعلمه الشيءَ الكثيرَ، فهو في رضوان الله عز وجل:

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾

[ سورة الغاشية  ]


مقارنة دنيوية :


تصور إنسانًا قيل له: اذهب إلى بلاد أوربا, واحصل على الدكتوراه, ولك في بلدك أعلى منصب, وأجمل بيت، وأفضل امرأة، وأغلى سيارة، فهناك درس, وعمـل في مطاعم, و الحراسة، إنه عمل شاق مجهد خطر، عاش حياةً خشنة، ذاق من الحياة ما فيه مشقة وجهد، نال الدكتوراه، صدق الشهادة، اشترى بطاقة العودة، ذهب إلى المطار, وضع رجله في سلم الطائرة، هذه اللحظة هي أسعد لحظة في حياة هذا الطالب، لأنه انقضى عهد التعب، والعمل الشاق، والسهر، والجهد، والطعام الخشن، والمأوى القنوء، والدخل القليل، والجهد الكبير، إلى أعلى منصب، وأجمل بيت, وأفضل امرأة، وأغلى سيارة، هذا هو المفهوم المادي.

فهكذا حال المؤمن، انقضى وقـت التكليف، وانقضى مجاهـدة النفس والهوى، وانقضت متاعب الحياة، وانقضت مقلقاتها، وبقيت الجنـة، فلذلك لا يعقل أن يكون المؤمن إلا مشتاقاً لله عز وجل.


قصة سعد بن الربيع :


من سيرة رسول الله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه: عقب إحدى الغزوات تفقد أحد أصحابه، وهو سعد بن الربيع، سأل عنه فلم يدرِ عنه شيئاً، كلف أحد أصحابه أن يتفقده في أرض المعركة, ذهب فوجده في النزع الأخيـر، قال: يا سعد بن الربيع, أنت بين الأموات أم مع الأحياء؟ قال: أنا مع الأموات، قال له: كلفني النبي أن أتفقد حالك، قال له: أبلغ رسول الله مني السلام، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.

ما معنى ذلك؟ أنه كان في أعلى درجات الشوق إلى الله عز وجل, وأعلى درجات السعادة.

أحد إخواننا الكرام توفاه الله قبل شهرين، مرة حج بيت الله الحرام، ولما عاد ذهبت لتهنئته, فقال لي كلمة طربت لها, قال لي: يا أستاذ, ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، فقال لي ابنه البارحة: كتبت هذه العبارة على شهادة قبره، ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني.

فهذا المؤمن الذي أمضى حياته في طاعة الله، وضبط أعضائه وجوارحه, وأنفق من ماله ووقته وجهده وخبرته وعلمه، وكان مصدر رحمة للناس، ومصدر أمن وعطاء للناس, هذا الذي أمضى حياته كلها، أيعقل أن لا يشتاق إلى الجنة؟.

 

الفرق الصارخ بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن :


سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول: تاقت نفسي إلى الإمارة, فلما بلغتها, تاقت نفسي إلى الخلافة, فلما بلغتها، تاقت نفسي إلى الجنة.

فالجنة مطلـب كل مؤمن، لذلك الفارق الصارخ بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن: أن المؤمن مشتاق إلى الجنة، بينما غير المؤمن تعد مقدمات الموت مفزعة له. 

 

قصة قصيرة .


رجل صالح، وكان محسنًا، وله أيادٍ بيضاء، كان إذا دخل عليه إنسان, يسأله صدقة لجمعية خيرية، أو لمشروع إنساني, يقول له: افتح الصندوق وخذ ما تريد ولا تعلمني، أنشأ مسجدًا، ثم أصيب بمرض عضال، أُخبِر من المستشفى، واتصلوا بأهله ليعلموهم أنه سيموت بعد يومين، له صديق حميم طلبه، وقال له: أنا قرب أجلي, وأعطاه تعليمات كيف ينهي علاقاته التجارية؟ قال له: في ثلاث صفقات؛ صفقة دفع ثمنها، باعها وانتهت، ووزع أرباحها على أولادي, الصفقة الثانية والثالثة هذه ألغهما فلم يعُد في عمري بقية، وفي اليوم الثاني جمع أهله وأصهاره وبناته وأولاده جميعاً وودعهم، وله شيخ بالشام, -الآن ليس في دمشق رده الله بالسلامة-، في اليوم الثالث جاء شيخه مع نخبة من إخوانه، وقرؤوا له القرآن والتهليل، وكما قيل له بالهاتف: في الساعة الواحدة رجعت نفسه إلى بارئها, بعد ما اغتسل, وأنهى كل علاقاته، الشيء العجيب في القصة: أنه إنسان لا يخاف الموت، لأن عمله طيب:

﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

أنا أقول لكم بشكل واقعي: الموت يخافه الإنسان، يخافه حينما يرى نفسه مقصراً.

سيدنا علي يقول: والله لو علمت غداً أجلي, ما قدرت أن أزيد في عملي.

قصص كثيرة جداً, تجد فيها المؤمن يستقبل الموت وهو راضٍ وهو مستبشر.

قرأت تاريخ سبعين صحابياً جليلاً، لفت نظري في هذه التواريخ كلها شيء مشتركٌ يجمع بين هؤلاء كلهم, كانت أسعد لحظات حياتهم ساعة لقاء ربهم، هذا كله يندرج تحت الشوق إلى الله عز وجل.


  متى يخاف الإنسان الموت؟ :


قال لي أخ: أنا أخاف الموت، قلت له: إذا ضبطت نفسك ضبطاً شديداً, واستقمت, وعملت أعمالاً صالحة يومية متكررة، فإنّ عملك الصالح، واستقامتك الشديدة, هذه تجعلك تشتاق إلى الله, ويخفُّ قلقُ الموت عندك، ومن الواضح جلياً أنه كلما ازدادت الذنوب، وانكشفت العيوب، وابتعد الإنسان عن الله عز وجل, ازداد خوفه من الموت، بل إن الشارد عن الله عز وجل يكاد قلبه ينخلع من منظر الآس والقبور، وبعض الناس يخافون أو يتشاءمون إذا سمعوا القرآن الكريم، بينما المؤمن استقامته وعمله الطيب يدفعانه إلى أن يشتاق إلى لقاء الله عز وجل.

 

متى يشقى الإنسان ومتى يسعد؟.


إذاً: أصل هذه المنزلة: ( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) فالله سبحانه وتعالى جعل من هذه الآية تعزية للمشتاقين وتسلية لهم ، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: 

اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك

وكان عليه الصلاة والسلام دائم الشوق إلى لقاء الله، لم يسكن شوقه إلى لقائه قط، ولكن الشوق مئة جزء، تسعة وتسعون له, وجزء مقسوم على الأمة بأكملها.

فعلى المرء أن يقيم علاقة متينة مع الله، وأن يكون له اتصال شديد، وإقبال عالٍ، ومحبة لله عز وجل، هذه تمتص كل آلام الدنيا ومتاعبها ومقلقاتها، إن لم يكن القلب مشتاقًا لله عز وجل لامتلأ خوفاً، وقلقاً، وندماً، وحزناً, وأسفاً، وضياعاً، وقلقاً، وتشتتاً، هذا القلب لا يطمئن إلا بذكر الله، فإذا ذكرت الله عز وجل أنساك اللهُ همومَ الدنيا، وإن غفلت عن الله, فو اللهِ الذي لا إله إلا هو, لتَنْبُعَنَّ المقلقات والمثبطات وأسباب الحزن نبعاً أمامك، قال تعالى: 

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾

[ سورة الشعراء ]

وأوضح آية في هذا الموضوع:

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾

[ سورة الرعد ]

فالقلوب لا تطمئن إلا بذكر الله. 


من آثار المحبة :


إنّ الشوق أثر من آثار المحبة، المحبة شعور، من آثار المحبة: الشوق إلى الله عز وجل, وحكم من أحكامها، بل إن الشوق هو سفر القلب إلى المحبوب في كل حال، ولعلّ بعضكم مرَّ بهذه التجربة.

فلو خطبت فتاة راقت في عينك، وأحببتها حباً جماً، وأنت جالس في البيت تتصورها, الآن نائمة، الآن تدرس، صورة هذه الفتاة لا تغادر مخيلتك، هذا هو الشوق، فإذا كنت مشتاقاً لها, فأنت معها شئت أم أبيت، ولو أنها في طرف الدنيا الآخر، الإنسان جسمه مقيد، أما نفسه فطليقة.

أمٌّ لها ابن في أمريكا، هي معه، في غرفته، وهي في بلدها تتصوره.

فالشوق إلى الله من نتائجه الحتمية: أنك معه, فهو سفر القلب إلى المحبوب على كل حال.

 

تعريف الشوق :


وقال بعضهم: الشوق هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب ، وأركِّز على قضية أحوال القلب، لأنّ الدين من دون أحوال يغدو ثقافة وحذلقة ومعلومات، وكل إنسان يحصِّل هذه المعلومة، حتى كما قال بعضهم:

إن حال رجل في ألف, أبلغُ من مقالة ألف في واحد.

إنسان محب لله حقيقة، وقَّافٌ عند كتاب الله، مشتاقٌ إلى الله، حال إنسان مؤمن صادق في ألف، بينما ألف مقال لا يؤثر في واحد, وألف مقالة فصيحة لا تغيِّر واحدًا، وواحد يغيِّر ألفًا بحاله، واتصاله بالله, وشوقه إلى الله، وعزيمته القوية، وصدقه الشديد، بينما ألف قول أجوف خال من الإخلاص، لا يؤثر في واحد، لهذا الأنبياء كانت حياتهم معجزة.

أحد الصحابة كان يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام-، يصرفه مساء، فينام على عتبة البيت, يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام- في انجذاب شديد، فأنت كلما انجذبت إلى الله انجذب الناس إليك:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾

[ سورة آل عمران ]

بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد، كنت ليِّناً لهم، والاتصال من ثماره الرحمة,  والرحمة من ثمارها اللِّين، واللِّينُ يجعل الناس يلتفون حولك، والانقطاع عن الله عز وجل، من نتائجه الوبيلة: قسوةُ القلب، والقلب القاسي صداه غلظة وفظاظة، والغلظة والفظاظة يجعلان الناس ينفضان عنك، فاتصال ورحمة ولين والتفاف, وانقطاع وقسوة وغلظة وانفضاض، معادلة رياضية, فالشوق أثر من آثار المحبة، وحكم من أحكامها ، إيمان من دون حب, إيمان من دون شوق، علم غزير من دون حال صادق، كالجسد من دون روح.

لا أحد يتأمل ميتاً، ربما كان هذا الميت محبوباً مؤمناً لطيفاً، إذا دخل إلى بيته، هشَّ له أولاده وبشُّوا، فإذا مات خافوا أن يدخلوا غرفته، ما الذي حدث؟ سُحِبَت الروحُ، فصار مخيفاً,   وسِّع الأمرَ؛ إسلام من دون حب، جسدٌ من دون روح، أما الدين فحبٌّ وشوق، تجد المؤمن كالمِرجَل لا يتعب، يعمل ليلاً ونهاراً، دون تعبٍ أو كلل، عنده محرك، هو الحب.

أستاذ بالجامعة, له باع طويل في علم النفس، يعد أحد كبار علماء النفس، أحيل إلى التقاعد, أول مرة يقام له حفل وادع من أرقى الحفلات، وقد كنت حاضر، قام وألقى كلمة قال فيها: كل إنسان يجد في نفسه حاجة إلى أن يُحِبَّ، أو أن يُحَبَّ، فليس من بني البشر، لأنك إنسان ينبغي أن تحب، وينبغي أن تحرص على أن تحب, وقال بعدها: والحب أنواع، في أعلاها أن تحب الله, لأنه منحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، ثم أن تحب الحقيقة، وأن تكون مع الحقيقة ولو أزعجتك.

أنا أعبر عن هذا: لأن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، ثم أن تحب من أمرك الله أن تحبهم، ولبعض العلماء قولٌ رائع قال: 

هناك حب في الله وهو عين التوحيد، وحب مع الله وهو عين الشرك، فإذا أحببت إنسانًا فمحبته زادتك حباً في الله، ومحبة هذا الإنسان عين التوحيد:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)  ﴾

[ سورة التوبة ]

بضمير المفرد، لأن إرضاء رسول الله عين إرضاء الله, وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله، أما إذا أحببت إنساناً، وحبك لهذا الإنسان أبعدك عن الله فهذا حب مع الله، إذا كانت محصلة هذا الحب قرباً من الله فهذا حب في الله، وإذا كانت محصلة هذا الحب بُعداً عن الله فهذا حب مع الله, الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشرك.

 

أمثلة على أنواع الحب في الله :


إنسان له شريك, قوي في التجارة، وإدارته للشركة عالية، أرباح طائلة، هذا يحبه, فجلس معه ونسي صلاة العصر، اقترح رفع مستوى المطعم فوافقه، واقترح بيع الخمر في المطعم ففرِح بفكرته، لقد رضي أن يباع الخمر في هذا المطعم، لأنه حريص على الدخل، وهو يحب شريكه هذا حبًّا مع الله، هذا حب هو عين الشرك, أما إذا أحببت إنسانًا, فزادتك محبته حباً لله, فهذا الحب في الله، لذلك حبُّ المؤمنين حبٌّ في الله، وحبُّ العلماء العاملين المخلصين حبٌّ في الله، وحبُّ التابعين حب في الله، وحبُّ تابعي التابعين حبٌّ في الله, وحبُّ أصحاب رسول الله حبٌّ في الله، وحبُّ النبي حبٌّ في الله، وحبُّ المساجد، وحبُّ الأعمال الصالحة، وحبُّ كل شيءٍ يقربك من الله عز وجل, هو حبٌّ في الله، وكل شيء إذا أحببته ضعفت صلاتك، أو سهوت عن صلاتك، وإذا أحببته نسيت أمر ربك، هذا حب مع الله.

والشوق: هو احتياج القلوب إلى لقاء المحبوب.

وقيل: هو احتراق الأحشاء وتقطيع الأكباد.

المحب يبكي.

حدثني أخ قال لي: كنت في الحج, فأصابني حال عالية, صرت أبكي، قال: كل من حولي: ما بالك؟

الأصل أن تبكي، والأصل أن الشوق يجعله يبكي، ويضطرب, ويتحرك الشوق، فالأصل في الحاج المؤمن أن يبكي، وهو حول الكعبة، وفي عرفات، وفي أثناء السعي والطواف.

وقال يحيى بن معاذ: علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات, علامة الشوق: أن تبتعد عن كل شهوة تقطعك عن الله عز وجل.

مرة رجل له دعوة, سأل تلاميذه الصغار، قال له: يا بني, أنت لماذا تغض بصرك عن النساء؟ في طالب أراد أن يتملق شيخه، قال له: يا سيدي, أنا إذا نظرت إلى فتاة أكرهها، أمقتها، قال له: كلامك غير واقعي، فإنّ الله عز وجل زين المرأة في قلوب الرجال، ثم سأل طالبًا ثانيًا وثالثًا، حتى أجابه أحدهم إجابة رائعة، قال له: يا سيدي, أنا لي اتصال بالله عز وجل، ولحرصي على هذه الصلة أغض بصري، لأني لو أطلقت بصري لانقطعت صلتي بالله ، فما دامت هذه الصلة أنا حريص عليها حرصاً شديداً, إذاً أنا أغض بصري، مع أن النظرة للمرأة محببة، هذا الواقع، الكلام الواقعي مريح. 

بالعكس العلماء قالوا: العلم الوصف المطابق للواقع مع الدليل.

الآية الكريمة لعلها مناسبة لهذا المقام:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) ﴾

[ سورة الجمعة ]

معنى ذلك: الإنسان الذي يكون عمله سيئًا, لا يتمنى الموت، ولا يشتاق إليه.

واكربتاه يا أبتي، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

هذا مؤشر قوي جداً:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) قال أحد العلماء: علامة الشوق حب الموت مع الراحة والعافية، لا تخلُّصًا من مرض عضال.

حدثني أخ قال لي: كنت في فرنسا, وعرضوا برنامجًا عن مأوى العجزة، وكلُّ من فيه كبار في السنِّ, فكلما سُئِلت واحدة: ما هي أمنيتك؟ تقول: الموت، فالإنسان يتمنى الموت في حالات صعبة فلا يجده. 

هناك حالات يتمنى الإنسانُ فيها الموت، أما علامة الشوق إلى الله حب الموت مع الراحة والعافية، لعل هذا شيء يفوق مستوانا، أن تحب الموتَ وأنت في عافية تامةٍ، وأنت في راحة تامة.

 

ما الفائدة من ذكر أحوال نحن لسنا في مستواها؟.


سيدنا يوسف لما أُلقيَ في الجب, لم يقل: توفني وألحقني بالصالحين، ولما أُدخِل السجن لم يقل: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، ولكن قال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين, لما صار عزيزَ مصرَ في أعلى درجة من القوة، والهيمنة، والغنى، والمكانة:

﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)  ﴾

[ سورة يوسف ]

النبي -عليه الصلاة والسلام- ألم يخيره الله عز وجل بين زهرة الدنيا وبين أن يرفعه إليه؟ فقال: بل الرفيق الأعلى، النبي قبل وفاته بقليل, ماذا قال؟.

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ, فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ, فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-, فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ! إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الْعَبْد, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا, قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ, إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ, وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ, وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ, إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ) ))

وقد يقول أحدكم: ما الفائدة من ذكر أحوال نحن لسنا في مستواها؟ هي هدف، اجتهد كي تكون في هذا المستوى، نحن بعيدون عن هذه الأحوال، ونرجو الله أن نكون في مستواها ، علينا أن نجتهد حتى نصل إلى مستوى هذه الأحوال.

وقال بعضهم: الشوق ارتياح القلوب للوجد، ومحبة اللقاء بالقرب مِمَّن أكرمه الله عز وجل بحجة مقبولة.

وهو في عرفات قد يبكي كثيراً، هذا البكاء يورثه طمأنينة ما بعدها طمأنينة, يشعر أن الله قِبَلَه، وأن الله عفا عنه.

وقد قال بعض العلماء: من وقف في عرفات فلم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له.

يجب أن يغلب على ظنك أن الله غفر لك.

 سؤال: هل الشوق يزول باللقاء أم لا؟.

إنسان مشتاق إلى الله عز وجل، إذا اتصل بالله, يا ترى هذا الاتصال يخفف الشوق؟ بعضهم قال: نعم، وبعضهم قال: لا، الذين قالوا نعم، الشوق هدفه الاتصال، فلما صار الاتصال برد الشوق، وآخرون قالوا: لا، هناك فرق بين الشوق وبين الاشتياق، أنت كلما رأيت من جمال المحبوب زدت شوقاً إليه، لذلك المؤمن الصادق لا يضعف شوقه مع شدة قربه.

اللهم صل عليه كان يمضي بعض الليل في صلاة وتهجد:

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80) ﴾

[ سورة الإسراء  ]

قال بعضهم: الشوق سفر القلب إلى المحبوب، فإذا قدم عليه ووصل إليه، صار مكان الشوق قرة عينه به، وهذه القرة تجامع المحبة ولا تنافيها.

قيل لبعضهم: هل تشتاق إلى الله؟ قال: لا، أعوذ بالله، ما هذا الكلام!؟ قال: إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر معي.

هكذا أجاب, إنما الشوق إلى غائب ( وهو معكم أينما كنتم ) وفعلاً: في أي مكان لك أن تناجيه، في أي مكان لك أن تدعوه، في أي مكان لك أن تسأله، في أي مكان لك أن تسبحه، وأن توحده، وأن تكبره.

وقال الجنيد: الشوق أجل مقام للعارف إذا تحقق فيه ، أجلُّ مقام أن تكون مشتاقاً إلى الله عز وجل، لذلك النبي الكريم كان يقول: (( يَا بِلَالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا )) نرجو الله أن نكون كذلك.

تقول السيدة عائشة: كان عليه الصلاة والسلام يحدثنا ونحدثه, فإذا حضرت الصلاة,   فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه.

يحدثنا ونحدثه كواحد منا، فإذا حضرت الصلاة, فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه, من شدة شوقه إلى الله عز وجل.

وقال بعضهم: أهل الجنة دائماً في شوق إلى الله، مع قربهم منه ورؤيتهم له.

وكل واحد منا يحاسب نفسه، له ساعة مع الله، يبكي فيتأثر, فيشعر أنه ملك شيئًا عظيمًا، هذا من حبِّ الله لك. 

(( عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ, وَقَالَ: يَا مُعَاذُ, وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ, وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ, فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ, لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ, تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّ عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))

ما رأيت في الدنيا مقاماً أعلى من هذا المقام: أن يحبك رسول الله.

إذا أحبَّك المؤمنون يحبونك, فهو علامة طيبة جداً، أما إذا كان أهل الفسق والفجور يحبونك, فهذه وصمة عار في حقك، يجب أن يحبك المؤمنون، يجب أن يشتاق لك المؤمنون، وأن يأنس بك الناس، لا أن يحبك أهل الغرور وأهل الفسق والفجور.

 

من علامة الحج المبرور :


لا أحد يذهب إلى بيت الله الحرام إلاّ وهو مشتاق إلى الله عز وجل، يلبِّي دعوة الله قائلاً: لبيك اللهم لبيك، فكأن الله يقول له: تعال يا عبدي، تعال إلي كي تذوق طعم القرب مني ، تعال إلي كي أريحك من هموم كالجبال، تعال إلي وذق حلاوة مناجاتي، يقول له العبد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك، هذه التلبيةُ إجابةٌ لنداء يقع في قلب المؤمن، الآن وصل إلى بيت الله الحرام، أيعقل أن يدعوك اللهُ إليه، ولا تجد شيئاً هناك؟ لا بد من أن تجد شيئاً نفيسًا.

أجمل ما قرأت عن قوله تعالى:

﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)  ﴾

[ سورة البقرة ]

مثابة مصدر ميمي، من ثاب، وثاب بمعنى رجع، من علامة الحج المبرور: أنك إذا حججت بيت الله الحرام، تتمنى أن تعود إليه كل عام، لذلك بعض الحجاج دون أن يشعروا، في أثناء طواف الوادع يقولون: اللهم لا تجعل هذا الحج آخر عهد لنا بالبيت، كل إنسان حج حجاً مقبولاً, يتمنى أن يحج كل عام، حتى إنه قد ورد في بعض الأحاديث, أنه: 

إذا أصححت لعبدي جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، وأتت عليه خمسة أعوام، لم يثب إلي لمحروم.

هناك آية ثانية لها علاقة بهذا المقام:

﴿ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) ﴾

[ سورة طه ]

هو مشتاق إلى الله عز وجل.

يروى: أن سيدنا موسى -عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- لما قال له ربُّنا عز وجل في المناجاة: 

﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)﴾

[ [سورة طه الآية: 17] ]

-يريد أنْ يطيل اللقاء، ثم قال في استحياء-: ( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) هنا غلب عليه الأدب، أطال الحديث، ثم غلب عليه الأدب، فإذا سمح اللهُ عز وجل له أن يتابع الحديث, يقول له: يا موسى وما تلك المآرب؟ ( قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) هذه الإطالة في الحديث في أثناء المناجاة أيضاً من شوق هذا النبي الكريم إلى الله عز وجل.

 

كل أنواع المحبة للنبي وأصحابه وللمؤمنين الصادقين هي عينها محبة الله عز وجل :


الإنسان يقف أمام حجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- ويبكي، هذا الإنسان الذي جاء الحياةَ الدنيا فأعطى ولم يأخذ، هذا الذي بذل كل جهده من أجل سعادتنا، هذا الذي كرم الإنسان، هذا الذي قدس العقل، هذا الذي أعطى ولم يأخذ، هذا الذي جعله الله فوق الناس جميعاً, فعاش بين الناس كأنه واحد منهم، هذا الذي قال: اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون، فقد يبكي الإنسان وهو أمام مقام النبي -عليه الصلاة والسلام- بكاء شوقٍ إليه، والشوقُ إلى النبي الكريم  شوقٌ إلى الله، والشوق إلى أصحاب رسول الله شوقٌ إلى الله، كل أنواع المحبة للنبي وأصحابه وللمؤمنين الصادقين هي عينُها محبة الله عز وجل، فهذا حب في الله، وهو عين التوحيد.

 

الخلاصة :


ورد في الأثر: أنه خرج داود -عليه السلام- يوماً إلى الصحراء منفرداً, فأوحى الله تعالى إليه: ما لي أراك منفرداً؟ فقال: إلهي استأثر على قلبي شوقي إلى لقائك، فحال بيني وبين صحبة الخلق، فقال الله عز وجل: ارجع إليهم، فإنك إن أتيتني بعبدٍ آبقٍ, أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذاً.

الإنسان يؤثر الوحدة، يصلي ويقرأ قرآن فيبكي، أما إذا أنت ذكرت الله, بتعريف الخلق به: هذا أوقع عند الله، هناك ذكر تعبدي، وهناك ذكر تعريفي بالله عز وجل، وهناك ذكر لبيان عظمة الله, وهناك ذكر أساسه أن توضح للناسَ أمر الله ونهيَه، وقد تبادر إلى فعل الأمر وترك النهي فهذا أعظم أنواع الذكر، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) ﴾

[ سورة البقرة ]

اذكروني لعبادي أذكركم، ارجع فإنك إن أتيتني بعبد آبق, أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذاً.

هذا معنى قول النبي الكريم: 

(( لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا واحداً, خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ  ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح ]

  خير مما طلعت عليه الشمس، وخير لك من الدنيا وما فيها، وخير من حُمرِ النعم

 يبدو أن الأنعام ذات اللون الأحمر هي أغلى شيء.

 أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا الخير.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور