الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أنواع المعاصي التي تشكل خطراً على عقيدة المسلم:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس السابع والعشرين من دروس مدارج السالكين، في مراتب إيّاكَ نعبُد وإيّاكَ نستعين.
الحقيقةُ أنَّ الدرسَ الماضي كانَ حولَ أنواع المعاصي، وبيّنتُ لكم في وقتهِ أنَّ أشدَّ المعاصي خطراً أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، أو أن تستمعَ ممن لا يعرفُ الله، أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، أو أن تُلقي أُذناً صاغيةً لمن لا يعرفُ الله، لأنَّ الانحرافَ في فهم الحقائق يُسبّبُ الشِّركَ، وهوَ أكبرُ الكبائر، ويُسبّبُ الفسوقَ والعصيان، ويُسبّبُ كُلَّ معصيةٍ كفرعٍ من فروع الجهل بالله، يؤكدُ هذا قول الله عزّ وجل:
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)﴾
أخطر شيء في العقيدة أن تعرفَ الله وأخطر شيء على العقيدة أن تظُنَ باللهِ ظنَّ الجاهلية:
إذاً أخطر شيء في العقيدة أن تعرفَ الله، وأخطر شيء على العقيدة أن تظُنَّ باللهِ ظنَّ الجاهلية، أن تظنَّ اللهَ في صفاتٍ هو مُنزّهٌ عنها، أن تظنهُ يُعامل عبادهُ معاملةً هو عليٌّ كبير، قال تعالى:
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)﴾
أيها الأخُ الكريم؛ يجبُ أن تعلمَ عِلمَ اليقين أنَّ أيَّ خللٍ في فهمِكَ لحقائق التوحيد يُقابِلهُ خللٌ خطيرٌ في سلوكك، وبما أنَّ الجنة كما قالَ اللهَ عزّ وجل:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾
فالخلل في العقيدة يُقابلهُ خلل في السلوك، فالذي أتمنى على كُلِّ أخٍ كريم ألا يقبلَ شيئاً عن اللهِ إلا بالدليل القطعي من كتابِ اللهِ ومن سُنّةِ رسولهِ، وألا يقبلَ أيَّ تأويل إلا وفقَ الأصول التي اعتُمِدت في فهم كتاب الله، لأنَّ انحراف الدين أساسهُ أن يُضافَ إليه شيء، أو أن يُحذفَ منهُ شيء، أو أن يُؤول على غير ما أرادَ الله، الإضافةُ تزوير، والحذفُ تزوير، وسوء التأويل تزوير، ونحن كمسلمين يهمُنا أن نستقي الإسلامَ من ينابيعه الصافية، أن نعودَ إلى أُصولهِ الثابتة، لأنهُ قد أُضيفَ إليه ما ليسَ منهُ، وحُذِفَ منهُ ما هوَ أصيلٌ فيه، وفي أحسن الحالات أُوِّلت آياتهُ على نحوٍ لا يُرضي الله عزّ وجل، هذا مُلخصُ الدرس الماضي.
الإنسان حينما يفسُق انتهى كُلُّ شيء:
الدرس اليوم كما أنَّ هُناكَ خطراً كبيراً في أن تظنَّ باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية، هُناكَ خطرٌ كبير في أن تنحرفَ في السلوك، لذلك هذا الدرس: أنواعُ الفسوق، وكلمة فِسق وردت في القرآن الكريم بعددٍ كبير، وربما كانت كلمةً خطيرةً جداً في الدين، أي من باب التقريب، لو شخص كلفتهُ بشراء حاجات معينة، ولم يُنجز لكَ هذه الحاجات، وصببتَ عليهِ كُلَّ غضبك، فقال: يا سيدي هُناك عشرةُ أسبابٍ حالت بيني وبينَ شرائي هذه الحاجات، سألتهُ أنت: ما هي هذه الأسباب؟ قال لكَ: أولاً: لا أملك ثمن هذه الحاجات، تُحسّ بحاجة إلى أن يُتابع التسعة؟ هذا أخطر سبب، أقول لكم الآن قياساً على هذا المثل: الإنسان حينما يفسُق انتهى كُلُّ شيء، أي تُصبِحُ صلاتهُ شكليّةً، يقوم إلى صلاتهِ متكاسلاً، تُصبِحُ عبادتهُ صوريّةً، يصومُ رمضانَ صيامَ البهائم، جوع وعطش فقط، يُصبحُ حجهُ حجاً من نوع الرحلة والسياحة، يعود إلى بلده ويُحدثُكَ عن الطّرقاتِ والجسور، أمّا هذه الفريضة التي فرضها اللهُ علينا لماذا؟ فحينما يقعُ الإنسان في الفِسق فقد فُرِّغَ الدينُ من مضمونه بالضبط، فُرِّغَ الدينُ من مضمونه، أي برتقالة قشّرتها بإحكام، ثمَ رتبتَ القشرة كما لو أنها لم تُقشّر، لكنها لا لُبّ فيها، هذا معنى تفريغُ الدينِ من مضمونه.
درسنا اليوم عن الفِسق، وهذه كلمة خطيرة، وأقول لكم دائماً أيها الإخوة؛ نحنُ في حياةٍ قصيرة، العمرُ ثمين، والوقتُ قليل، والمهمةُ كبيرة، والامتحان صعب، فما لم نأخذ هذه المصطلحات مأخذاً جِديّاً، ونُترجمُها إلى واقع نعيشهُ، فإنَّ المشكلة تُعدُّ مشكلة لا يُستهانُ بِها، الفِسقُ في كتاب اللهِ عزّ وجل نوعان، مفردٌ مُطلق، ومقرونٌ بالعصيان.
الدرس الماضي فيما تذكرون تحدثنا عن الفحشاءِ والمُنكر، وتحدثنا عن الإثمِ والعدوان، وحينما تقرؤونَ في كتاب الله كلمة إثم وعدوان، في كتاب الله لا يُمكن أن يكون هُناكَ تكرار، لأنَّ كُلَّ كلمةٍ تعني شيئاً دقيقاً؛ الإثم: ما كانَ محرّماً لذاتِهِ، والعدوان: ما كانَ مُحرّماً لقَدرهِ، كيف؟ الزِّنا مُحرّمٌ لِذاتهِ، شُربُ الخمرِ مُحرّمٌ لِذاتهِ، أما العدوان أن تأخُذَ ثمنَ هذه السِلعة أكثرَ مما ينبغي، أخذُ الثمنِ مُباح، أمّا أن تزيدَ في الثمن هذا عُدوان، أي تجاوز الحد، هناك حدّ مسموح بهِ، فمعصيةُ العُدوان معصيةُ قدْرٍ لا معصيةُ جِنسٍ، الإثم معصيةُ جِنس، أمّا العدوان معصيةُ قدر.
الفحشاء والمُنكر، الفحشاء شيء تأباهُ الفِطرة، والمُنكر شيء يأباهُ العقل، العقلُ إذا أنكرَ شيئاً فهو مُنكر، والنفسُ إذا رفضت شيئاً فهو فحشاء، فهذه المصطلحات القرآنية يجبُ أن نفهمها فهماً دقيقاً جداً، لأنها أصلٌ في تعامُلِنا مع اللهِ عزّ وجل، مثلاً ما الخطر في ذلك؟ أن تكونَ مُتلبّساً بالفسقِ وأنتَ لا تدري، وأن تكونَ مُتلبّساً بالكُفرِ وأنتَ لا تدري، وأن تكونَ مُتلبّساً بالشِّركِ وأنتَ لا تدري، أو أن تتهمَ نفسكَ بالفِسقِ وأنتَ ليسَ بفاسق، عدمُ فهم المصطلحات يُسبب اضطراباً في العلاقة مع النفس، لأنَّه قيل: نفسُكَ مطيتُكَ فارفق بِها، لابدَّ إذاً من معرفة المصطلحات بشكلٍ دقيق.
فالفسوقُ في كتاب اللهِ نوعان، مفردٌ مُطلقٌ، وفِسقٌ مقرونٌ بالعِصيان.
المُفرد نوعان، فسوق كُفر يُخرِجُ عن الإسلام، أي يوجد فِسق من تَلبّسَ بهِ فهوَ كافر، سوف نأتي على الأمثلة بعدَ قليل، وهُناكَ فسوقٌ لا يُخرِجُ عن الإسلام، الفسوقُ والفِسقُ المقرون بالمعصية كقولهِ تعالى:
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾
الآن فِسقُ الكُفرِ؛ قالَ تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)﴾
نقضُ عهدِ اللهِ فِسقُ كُفرٍ، أي هناك أعمال إذا عملها الإنسان شعرَ وكأنهُ سقطَ من السماءِ إلى الأرض، شعرَ وكأنهُ سقطَ من عين الله، هذا فِسقُ الكُفرِ، نقضُ عهدِ اللهِ، الارتداد إلى المعاصي، من علامة الإيمان أن يكرهَ أن يعودَ في الكُفرِ كما يكرهُ أن يُلقى في النار، فمن ارتدَّ إلى المعاصي، من ارتدَّ إلى الجحود، من اعتقدَ أنَّ هذا الدينَ خُرافة، ومن سلكَ سلوكاً مُنحرفاً يؤكد ذلك.
أيهما أخطر تكذيب السلوك أم تكذيب اللسان؟
الحقيقة أنَّ هُناكَ لِسانٌ يُكذّب وأنَّ هُناكَ سلوكٌ يُكذّب، وأقول لكم وأنا أعني ما أقول: إنَّ تكذيبَ السلوك أخطرُ من تكذيب اللسان، أنتَ بإمكانكَ أن تزورَ طبيباً، وأن تتعالجَ عِندهُ، وأن يصف لكَ الدواء، وأن تُصافِحهُ، وأن تشكرهُ ممتناً، وأن تعطيهُ أجرهُ، فإذا ذهبتَ إلى البيت، عدمُ شِرائِكَ الدواء اعتقاداً مِنك أنَّ هذا الطبيب لا يفهم، عدمُ شِراء الدواء هوَ التكذيب، كذّبتَ عِلمهُ من حيثُ لا تدري، مُصافحتُكَ لهُ، ثناؤكَ عليه، كلامٌ فارغ، فأن ترى إنساناً في العالم الإسلامي يقول لكَ: ليسَ هُناكَ آخره، هذا قلّما يوجد، لكن أن تجد أُناساً كثيرين همُّهم الوحيد هوَ الدُّنيا، ولا تجد لهم في الآخرةِ أيَّ مطمح، وليسَ في سلوكهم ما يؤكد ذلك، فهذا نوعٌ من التكذيب بالآخرة.
من الحُمقِ الذي لا حدودَ لهُ أن يتحرك الإنسان وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود:
لذلك نقضُ عهد اللهِ ليسَ شرطاً أن يقول إنسان: أنا نقضتُ عهدَ اللهِ، حينما يرتدُّ إلى الفِسقِ والكُفر، حينما يرتدُّ إلى المعاصي، حينما يحتال.
مثلاً مرة حدثني شخص قال لي: شخص يبيع الخُضار؛ يوجد نوعان؛ نوع الكيلو بعشر ليرات ونوع بليرتين، النوع بليرتين سيئ جداً، فهو وضعَ في كيس من النوع الممتاز، وعلى وجه الكيس وضع من النوع السيئ، وقالَ له: زِن لي، فإذا بهم ستة كيلو ضرب ليرتين فكانوا اثنتي عشرة ليرة.
إنسان بوعيهُ يقنِص البائع وهوَ لا يدري، فهذا ليس فِسقاً عادياً، معناها لا يرى أنَّ اللهَ يراه، حينما ينحرفُ الإنسان انحرافاً خطيراً، لا يرى أنَّ اللهَ يراه، حينما يُلبّسُ إنساناً تهمةً هو بريءٌ منها، ويقنِصهُ بها، ويبتزُّ مالهُ بِها، هذا فِسق خطير جداً، يتصرّف وكأنَّ اللهَ غير موجود، نقطة دقيقة؛ فِسقُ الكُفرِ إنسان يتصرف وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود، وكأنَّ اللهَ لا يُحاسب.
أنتَ تُحِسُّ أحياناً أنَّ الإنسان ينغلب، يتوب، يبكي، يتأثر، حينما خرجَ عن أمرِ الله فقد فسق، لكن هذا الفِسق فِسق أساسهُ أنهُ غُلِبَ، غَلَبتهُ نفسهُ، طغت عليهِ شهوتهُ، نَدِمَ ندماً شديداً، هذا فِسق، ولكن هُناك إنسان يتحرك، ويبني مجدهُ على أنقاض الناس، ويبني غِناهُ على فقرهم، وكأنَّ اللهَ غيرُ موجودٍ إطلاقاً، وكأنَّ اللهَ لا يُحاسب، هذا فِسق أساسهُ الكُفر، حينما رأى أنَّ اللهَ غيرُ موجودٍ، وأنَ اللهَ في السماء، مع أنَّ اللهَ يقول:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
أي مثلاً لو أنَّ إنساناً مُراقب بجهاز تلفزيوني، وقد رأيتُ هذا في محل تجاري، رأيت جهازاً بجانب صاحب المحل، في الشاشة مُحاسب يُجري الحسابات في الطابق العلوي، هذا صاحب المحل يُراقب هذا الموظف مراقبةً تامةً، لو أنَّ هذا الموظف أخذَ سِنةً من النوم، وأمسكَ مجلةً، وقرأها في أثناء الدوام الرسمي، ماذا نقول؟ هو مُراقب، لكن هذا الموظف يتصرّف وكأنهُ غير مُراقب، إذاً الشيء الخطير أن تتحرك مع الناس، أن تستغِلَ قوتكَ، أو أن تستغِلَ حاجةَ الناسِ إليك، أو أن تستغِلَ حاجتهم إلى سِلعةٍ عِندكَ فتبتزُهم، وتجرمهم، وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود.
امرأة قال لها زوجها لها بيت، قالَ لها زوجها: إن لم تكتُبي لي هذا البيت فسوفَ أُطلِقُكِ، هيَ ضعيفة، توفيَ أبوها، وإخوتها مسافرون، وخشيت على مكانتها عِندهُ، فكتبت لهُ البيت، في اليوم التالي طلّقها، بعدَ أن أصبحَ البيتُ بيدهِ طلقها، ماذا نقول؟ كيفَ فعلَ هذا؟ وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود، وكأنَّ اللهَ لا يقتصُّ مِنهُ، لذلك من الغباء الشديد الشديد، ومن الحُمقِ الذي لا حدودَ لهُ أن تتحرك وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود، لكنَّ اللهَ كبير.
أنا أذكر أن إنساناً شاهد سيارة عليها مفتاحُها، ورآها جيدة جداً من أعلى مستوى، ليس عندنا، بلدنا والحمدُ لله فيها أمن، فركبها وانطلق بِها، سَمِعَ أنَّ في المقعد الخلفي طفلاً صغيراً رضيعاً، هذا شيء مزعج، فأمسكهُ من رقبتهِ وخنقهُ ورماهُ في الطريق، وتابعَ سيرهُ، وظنَّ أنهُ ذكيٌّ جداً بهذا العمل، ذكيٌّ جداً، سيارة من أعلى مستوى، أحدث موديل، بعد حين كانَ يركبُها معَ زوجتهِ وأولادهُ في المقعد الخلفي دخلت به سيارةٌ كبيرة فقتلت ولديه فوراً، وأصابت زوجتهُ بعشرين أو ثلاثين كسراً، وهو في حالة خطيرة، فلما أُخذِت زوجتهُ إلى المستشفى، قالت: الله كبير.
أنا أقول لكم: والله من أسابيع جاءتني مخابرة هاتفية، قالت لي امرأة: إنَّ ابني ألقى بِهرّةٍ من الطابق السابع، انزعجَ منها فأمسكها وألقاها إلى الأرض، فجاءت ميتة، قُلتُ لها: واللهِ إمّا أن تُسارِعوا إلى صدقةٍ تُطفئ غضبَ اللهِ عزّ وجل، وإمّا أخشى أن يموتَ ابنُكِ بالطريقة نفسها التي قُتِلت بها هذه الهِرة، لأنَّ الله كبير، هذه نقطة، أنتَ تقول: فُلان فاسق، أحياناً الإنسان يفوتهُ وقت صلاة، هذه كبيرة، لكن لا يوجد وراءها شعور أنَّ اللهَ غير موجود، أحياناً الإنسان يتكلّم كلمة يُغلَب أحياناً، يتكلّم، يتألم، يدفع صدقة، هذه فِسق، لكن هناك فِسق أساسهُ المغلوبية، أساسهُ أنهُ غُلِب، وهناك فِسق أساسهُ أنهُ لا يرى اللهَ عزّ وجل.
فسق الكفر مأواه جهنم وبئس المصير:
إذاً: ﴿يضل بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ*الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ إفساد علاقات، إذا كانَ هذا التلميذ عِندَ هذا العالِم، لا، هذا دجّال، أي رغبتهُ الجامحة أن يُفسدَ العلاقات بينَ المُعلّم والمُتعلّم، وبين الشريك وشريكه، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخِ وأخيه، وبينَ الجارِ وجاره، وبين الأبِ وابنه، وبين الابن وأبيه: ﴿الذين ينقضون عهدَ اللهِ من بعدِ ميثاقه ويقطعون ما أمرَ اللهَ بهِ أن يوصل ويفسدون في الأرض﴾ وقوله عزّ وجل:
﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)﴾
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)﴾
هذا فِسق الكُفر، ﴿فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ﴾ فِسقُ الكُفرِ، والدليل: ﴿فمأواهم النار كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ .
الفسق الذي لا يُخْرِج عن الإسلام:
أما الفِسق الذي لا يُخرِجُ عن الإسلام وهو قولهُ تعالى في سورة البقرة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾
أي تطلب شاهداً للمحكمة، لهُ مصلحة، لهُ عمل، بعد أن ضيّعتَ لهُ يوماً بِكاملهِ، شُكراً سيدي، الله يعطيك العافية، لا يصح، جاء لمصلحتك، ترك عملهُ، بقيَ بلا دخل، فإذا أضررتَ كاتباً أو شهيداً فهذا فِسق؛ لكنَّ هذا الفِسق لا يُخرِجُكَ عن مِلة الإسلام، يوجد يمين ليسَ لهُا كفّارة، الغموس ليسَ لهُا كفّارة، لماذا؟ لأنها تُخرِجُ صاحِبها من الإسلام، وتغمِسهُ في النارِ غمساً، سماها النبي اليمين الغموس، لأنها تغمِسهُ في النار.
اليمين الكاذبة تُخرج الإنسان من ملة الإسلام:
شخص وضع عِندكَ مئة ألف ليرة، لم يأخذ وصلاً، هوَ واثق مِنك، توفي، يعلمُ أولادهُ ذلك، جاؤوك بعد وفاة أبيهم، معكم إيصال يا بني؟ نحن أمورنا واضحة معكم وصل؟ أبوكم كان غلطان، فأقاموا دعوى عليه، القاضي ليسَ معهُ دليل، يلجأ القاضي إلى ما يُسمّى باليمين الحاسمة، دعاهُ لحلف اليمين، جاء الفرج، فحلَفَ يميناً كاذبةً أنَّ فُلان ليسَ لهُ عِندهُ شيء، هذه اليمين أُقسم بالله تُلغي عقيدتكَ وصلاتكَ وصيامك وحجك وزكاتك، وانتهى كُل شيء، وتُخرِجُكَ من ملة الإسلام، وتغمِسُكَ في النار، لذلك هذه اليمين لا كفّارةَ لها، يوجد لنا إخوان كِرام يتورعون عن حلفِ هذه اليمين ولو كانوا صادقين، يقول لكَ: شيء خطير، أخي خُذ مبلغكَ، والله يُسامحكَ، أي يتفادى بحلفِ اليمين كُلَّ شيء، لكن: ﴿وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾
هذا الفاسق سمع إشاعة نقلها، لا يُسمى هذا فِسق كُفر، هذا فِسق معصية، ﴿فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .
كُلّ حدثٍ وقعَ في عهد النبي هذا الحدث له دلالةٌ كبيرةٌ جداً:
بالمناسبة أنا الذي أقوله لكم الآن والله الذي لا إله إلا هو إن كُلَّ حدثٍ وقعَ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحدث له دلالةٌ كبيرةٌ جداً، أسوق لكم مثلاً تعرِفونهُ جميعاً، لمّا النبي عليه الصلاة والسلام صلّى الظُّهرَ ركعتين، فقال لهُ بعضُ أصحابهِ، وكانوا مؤدبين، مهذبين، أدبّهم القرآن،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الأيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» فَقَالَ: «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثمَّ سَلَّمَ ثمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثمَّ سَلَّمَ. ))
قالَ لهُ أحدهم: يا رسول الله! أقَصُرت الصلاة أم نسيت؟ صلّينا ركعتين فقط، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما سبقَ أن نسي إطلاقاً، قالَ: كُلُّ هذا لم يكن، فقال هذا الصحابي بأدب: يا رسول الله! بعضهُ قد كان، صلينا ركعتين، فالنبي سأل أصحابه، فعلاً صلينا ركعتين، فأتمَّ ركعتين، وسجدَ سجود السهو، وقالَ: إنما نُسيّتُ كي أسُن، أسُنّ لكم سجود السهو، لو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يسهَ ولا مرة في حياته لكانَ هذا الحُكمُ مُعطلاً قال: إنما نُسيّتُ وليسَ نسيتُ، لقولهِ تعالى:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)﴾
الحكمة المستنبطة من الواقعة التالية:
الآن اسمعوا هذه القصة التي وقعت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لتروا أنَّ هذه الآية التي جاءت في قولِهِ تعالى: ﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ .
قال: هذه الآية أُنزلت في الوليد بن عُقبة بن أبي مُعيط، أحدُ أصحابِ رسول الله، لمّا بعثهُ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم إلى بني المُستلق بعدَ الوقعةِ مُصدّقاً، وكانَ بينهُ وبينهم عداوةٌ في الجاهلية، فلمّا سَمِعَ القومُ بِمقدمهِ تلقّوهُ تعظيماً لأمرِ رسولِ الله، رحّبوا فيه، فحدثّهُ الشيطان أنهم يُريدونَ قتلهُ فهابَهم، ورجعَ من الطريقِ إلى رسول الله، وقالَ: يا رسول الله! إنَّ بني المُستلق منعوا صدقاتِهم، وأرادوا قتلي، فغَضِبَ النبي عليه الصلاة والسلام، فبلغَ القوم رجوعهُ، النبي بعثَ لهم إنساناً لمهمةٍ نبيلةٍ، يُكذبون النبي، ويمنعون صدقاتهم، ويهمّون بقتلهِ، وقتلُ الرسولِ إهانة للمُرسِل، فأتوا رسولَ الله، هم رأوهُ مُقدِماً، مُقبِلاً عليهم، ثمَ عاد، فخافوا أنهُ جاءهُ خبر من النبي أن عُدْ، لعلَّ النبي غاضِبٌ عليهم فأرسلوا وفداً إلى النبي، قالوا: يا رسول الله! سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاهُ، ونُكرِمُهُ، ونؤدي إليه ما قَبِلنا من حقِّ الله، فبدا لهُ في الرجوع، فخشينا أنهُ إنما ردّهُ من الطريق كتابٌ جاءه منك لغضبٍ غضبتهُ علينا، وإنّا نعوذُ باللهِ من غضبهِ ومن غضبِ رسولهِ، النبي عليه الصلاة والسلام صار هناك تناقض، رسولهُ قال شيئاً وهؤلاء قالوا شيئاً، رسولهُ قال: منعوا صدقاتهم، منعوني الزكاة وهمّوا بقتلي، وهؤلاء قالوا: نحنُ ننتظرهُ لنُكرِمهُ ونُرحبَ به ونُعطيهُ الزكاة فرجعَ، ما الذي أرجعهُ؟ لعلكَ أنتَ أرسلتَ له كتاباً أن يرجع أم لعلكَ غاضِبٌ علينا، ونعوذ باللهِ من غضب اللهِ ومن غضبِكَ، النبي الكريم كما قال الله عزّ وجل، لمّا جاءهُ الهُدهُد قال له:
﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)﴾
قالَ: وجدتُ امرأة تملكهم وكذا وكذا، قالَ: سننظر أصدقتَ أم كُنتَ من الكاذبين، المؤمن يُحقق، فالنبي أرسلَ سيدنا خالدَ بن الوليد خِفيةً، وأمرهُ أن يُخفي عليهم قدومهُ، وقال له: انظر فإن رأيتَ منهم ما يدلُّ على إيمانهم، فخُذ منهم زكاةَ أموالهم، وإن لم تر ذلكَ فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكُفار، ففعلَ ذلكَ خالدٌ، ووافاهُم، فسَمِعَ منهم أذانَ صلاتي المغرِبَ والعِشاء، الجماعة يُصلون، وأخذَ منهم صدقاتِهم، ولم ير منهم إلا الطاعةَ والخير، فرجعَ إلى النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وأخبرهُ الخبر، فنزلَ قولهُ تعالى: ﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ هذا الصحابي لعداوةٍ سابِقةٍ بينهُ وبينهم، ولخوفٍ أصابَ قلبهُ، لكن لم يكفر الصحابي، ليسَ هذا فِسقُ كُفرٍ، هذا فِسق معصية، واللهُ توّابٌ رحيم.
القرآن الكريم لم يلغِ رواية الفاسق:
بالمناسبة، أحياناً يكون الفاسِق فِسقهُ ليسَ من نوع الكذب، فاسق مثلاً يُطلق بصرهُ في الحرام، وحدّثكَ بحديث، هو فِسقهُ لا من جهة الكذب بل من جهة إطلاق البصر، فالقرآن الكريم ما ألغى رواية الفاسق، قال: تحققوا منها، ما قال: فإنه كاذب.
إذا إنسان تحدّثَ لكَ عن إنسان، لا ترضَ إلا أن تستمع إلى الطرف الآخر، يتكلّم كيف يشاء، وإذا أردتَ أن توّفر وقتكَ اجمع الاثنين معاً، يُلغى أربعة أخماس الكلام، ممكن أن يُحدِثُكَ ثلاث ساعات عن شخص، إذا الشخص أمامهُ يُحدّثُكَ خمس دقائق فقط، تفضل، لكي تُوِفر وقتك لا تقبل أن تسمع من زوج إذا كان طبعاً الزوجة قريبتكَ على زوجتهُ، ولا من الزوجة على زوجها، اجمعهما معاً تفضلا تكلما، ينظر كل واحد للآخر، ليس من المعقول أن تحكي، ستتجنى عليه، الرجل جالس حي يرزق، لم يمت، فقبلَ أن تحكُمَ على إنسان، لابدَّ من أن تستمعَ من الطرفين، والأولى أن تجمعهُما معاً، عندئذٍ تختصر الوقت والجهد.
أكبر إهانة توجّه للإنسان أن تُردَّ شهادتهُ:
لكن من كانَ فِسقهُ من طرف الكذب، وقد عُرِفَ بالكذبِ كثيراً وتكراراً، بحيثُ يغلِبُ كذِبهُ على صِدقهِ، فهذا لا يُقبلُ خبرهُ ولا شهادتهُ، نحن كُل مؤمن له بالمجتمع الإسلامي اعتبار، لهُ مكانة، إذا فَسق تُردُّ شهادتهُ، أي أكبر إهانة توجّه للإنسان أن تُردَّ شهادتهُ.
سمعت في بعض البلاد إذا بائع غشَّ في البيع لا يُعاقب، لا ضبط ولا سجن، ولا يوجد شيء، لكن هناك لوحة توضع على محله التجاري، هذا الإنسان يغشُّ في البيع والشراء، ينتهي.
سمعت يوجد حمام معدني في بعض البلاد الأجنبية، طبعاً هذا المثل لهُ معنى، يوجد بمائهِ مادة تتفاعل مع البول، فلو شخص كان غير حضاري، أو غير مؤمن فبالَ في هذا الماء تخرج بقعة بنفسجية فوقهُ، فيلتقطونهُ كما تُلتقط الفأرة، ويوضع في غرفة زجاجية على مدخل هذا الحمام مكتوب: إن هذا الإنسان يبولُ في الحمام، هذه أكبر من سجن، الفضيحة وهدر الكرامة شيء خطير جداً، فيكفي أنَّ الفاسق إذا فَسق تُردُّ شهادتهُ، وردُّ شهادة الفاسق طعنٌ في مكانتهِ.
الإنسان يعيش بكرامته، يعيش بمكانته، قد يكون فقيراً رافعَ الرأس، قد يكون عملهُ شاقاً رافعَ الرأس، أما إذا وقعَ في شيء يصغُرُ من عين الله فهذه المصيبة، الحقيقة المصيبة أن تكونَ عاصياً لله، المصيبة أن تكذب، المصيبة أن تخون، المصيبة أن تفعلَ شيئاً لا يُرضي الله، ربنا عزّ وجل علّمنا عن طريق النبي أي في أشدِّ حالاتهِ، مرة مع السيدة عائشة تسألهُ: يا رسول الله! أيُّ يومٍ صعبٍ مرَّ بِكَ؟ أصعب أيام حياتك، هيَ ظنت يوم أُحد، قالَ: لا، يومَ الطائف، يوم أحد أقل من يوم الطائف، إنسان متوجه بعد أن يكاد ييأس من قومِهِ قُريش، توفيت زوجتهُ، السند الداخلي، توفيَ عمهُ أبو طالب، السند الخارجي، من الداخل صار هناك وحشة، ومن الخارج صار هناك تخلّ، وكُلُّ قُريش ضِدهُ، توجّه إلى الطائف مشياً على قدميه، وفي الطائف السخرية والاستهزاء والتكذيب حتى والإيذاء، فقالَ: إنَّ أشدَّ يومٍ أتى عليّ يوم الطائف، قالَ: إن لم يكن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، ولكَ العُتبى حتى ترضى، لكنَ عافيتكَ أوسعُ لي.
هذا درس لنا مهما ضاقت الأمور يا ربي هذا قدرك، وهذا قضاؤك، وأنا راضٍ به، وإن لم يكن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، ولكَ العُتبى حتى ترضى، لكنَ عافيتكَ أوسعُ لي.
من ابتعد عن المعاصي أتته الدنيا وهي راغمة:
هناك كلمات لسيدنا عُمر، أنا أقولُها كثيراً، لأنني أشعر أنها بليغة، ما أصابتهُ مصيبةٌ إلا قالَ: الحمدُ للهِ ثلاثاً؛ الحمدُ للهِ إذ لم تكن في ديني، ما دام الدين سليماً، صائم، مصلّ، يغُض بصرهُ، دخلهُ حلال، إنفاقهُ حلال، مؤدّ لواجباتهُ الدينية والأُسرية، بار بوالديه، مُحسن لزوجتهِ، عطوف على أولادهُ، لا يوجد عمل، لا يكون هناك عمل الله يُدبّر، مادام لا يوجد معصية القضية سهلة جداً، الدنيا تأتيكَ وهيَ راغمة، أوحى ربُكَ إلى الدُّنيا أنهُ من خدمني فاخدميه، ومن خدمكِ فاستخدميه،
(( عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت الدُّنيا همَّه، فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ. ))
[ السلسلة الصحيحة: خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد رجاله ثقات ]
الفسوق الذي تجبُ التوبةُ منهُ أعمُّ من الفسوق الذي تُردُّ به الروايةُ والشهادة:
إذاً توضّحَ لدينا الفِسقُ الذي يُخرِجُ من مِلةِ الإسلام، والفِسقُ الذي لا يُخرِجُ من مِلةِ الإسلام، الصحابي خاف، يوجد عداوة قديمة وخاف، النبي قَبِلَ عُذره، لكن لم يخرج من الإسلام، أمّا هذا الذي يقطعُ ما أمرَ اللهُ بهِ أن يُوصل، هذا الذي يحلف يميناً غموساً ليقتطعَ بها مال امرئ مُسلم بغير حق، هذا يتصرّف وكأنَّ اللهَ غيرُ موجود إطلاقاً.
قال: والفسوق الذي تجبُ التوبةُ منهُ أعمُّ من الفسوق الذي تُردُّ به الروايةُ والشهادة، أيضاً يوجد درجات، لو فرضنا إنساناً نظرَ إلى امرأة نظرةً لا تَحِلُّ لهُ، هذا فُسق، بل هذا يَرُدُّ الشهادة؟ لا، لكن لو أدام النظر، لو كانَ من شأنهِ أن ينظر.
أنا أقول لكم قصة واقعية، رجل يسكن في المزة، عِندهُ خمسُ بنات متزوجات، لهُ هِواية ليست شريفة، يركب السيارة العامة من المزة إلى المرجة، ويمشي في أيام الصيف في طريق الصالحية ذهاباً وإياباً، ذهاباً وإياباً ليُمتعَ عينيه بالنساء الكاسيات العاريات، لا يتكلّم ولا يبتسم، إلا أنهُ ينظر، هذا الرجل يسكن في بيت، جارهُ صديقٌ لي، جارهُ المُلاصق، ابتلاه اللهُ بمرضٍ في عينيه، هذا المرض اسمهُ: ارتخاء الجفون، وأنا مرة التقيت بإنسان شيء صعب جداً، كُلما أراد أن ينظرَ إليك أمسكَ جفنيه بِكلتا يديه ورفعهُما حتى يراك، فإذا تركهُما انحدرا، فربنا عزّ وجل جعلَ جزاءَ هذه المعصية من جِنسِ العمل، مرض ارتخاء الجفون، هناك أمراض لا نعلمُها نحنُ، فكُل فِسق لهُ ترتيب عِند الله عزّ وجل، عِنده خمس بنات متزوجات، هذا ليس سن مراهق، متزوج، ومُحصن، وله أصهار، ولهُ أولاد، وله أحفاد، المعصية بِسنّ متأخرة قذرة جداً، أحُبُّ الطائعين وحُبي للشاب الطائع أشد، وأُبغض العُصاة وبُغضي للشيخ العاصي أشد.
هناك فِسق يوجِب التوبة وفِسق تُردُّ بهِ الشهادة وفِسق يُخرِجُ من المِلّة:
هناك فِسق يوجِبُ التوبة ولا تُردُّ بهِ الشهادة، هناك فِسق تُردُّ بهِ الشهادة ولا يُوجِبُ الكُفر، دائماً أقول لكم كلمة دقيقة: من علامات ضيق الأُفق أنه يوجد عندك لونان؛ أبيض وأسود، فإن وجدتَ إنساناً زلّت قدمهُ بمعصية صغيرة، هذا كافر، هذا مرض خطير مستشر بين الجماعات الدينية، إذا ما كان منك تعده أنت كافراً، إذا ما كان من جماعتك تعده كافراً، سخف ما بعده سخف.
فلذلك المؤمن كل ذنب له ترتيب، مرة النبي عليه الصلاة والسلام أمرَ زينبَ أن تتزوج أو غير زينب، النتيجة، ما أحبتهُ، قالت لهُ: يا رسول الله! إني أكرهُ الكُفرَ بعدَ الإيمان، أي لا لم أُحبهُ، لذلك القاضي لا يمكن أن يمضي العقد سليماً صحيحاً إلا إذا سَمِعَ بإذنهِ من فم المخطوبة أنها قَبِلت به، موافقة الأب، لأنهُ يعرف الرِّجال، وموافقة البِنت لأنهُ زوجُها، فقالَ عليه الصلاة والسلام: لو تُراجعيه، لو تقبلي بهِ، قالت: يا رسول الله! أفتأمُرني؟ قالَ: لا، إنما أنا شفيع، دقق النبي الكريم ما وضعَ مكانتهُ الدينية في أمرٍ شخصي، هذا أمر شخصي، قالت: أفتأمُرني؟ قالَ: لا، إنما أنا شفيع فقط، فأنا أردتُ من هذه القصة أنكَ إذا وجدتَ إنساناً لهُ معصية، مُخالفة، إيّاكَ أن تتهمهُ بالكُفر، لو اتهمتهُ بالكُفر أصبحت الهُوةُ بينكَ وبينهُ سحيقة، اقبلهُ، ذكّرهُ، يوجد أبيض ويوجد أسود، أما عندَ خبراء الألوان هناك مليون لون بينهُما.
مثلاً الكمال في الحِجاب أن يُسترَ الوجه، لكن أتوازى فتاةٌ تلبِسُ معطفاً فضفاضاً، وقد غطت رأسها، وبقي مساحةٌ صغيرة من وجهها، وترتدي ثياباً سابغةً، هذه لا توازى بامرأة فاسِقة تكشِفُ عن مفاتِنُها، أتمنى أن يُسترَ وجهُها لا شك، لكن أنتَ ليسَ لكَ الحق أن تجعل هذه كهذه، لا، هناك فرق بينهُما، فأنتَ تُريد معياراً دقيقاً، إنسان نظر، إنسان لمس، إنسان باشر، الثلاثة سواء؟ لا، النظر زِنا، واللمس زِنا، والمباشرة زِنا، لكن هذا الزِّنا من نوع، وهذا من نوع، وهذا من نوع، فأمّا أبيض أو أسود هذا أُفُق ضيق، فربنا عزّ وجل يُقدّر كُل شيء، أي كُل شيء لهُ حجم عِندَ الله عزّ وجل، فأردتُ من هذا هناك فِسق يوجِب التوبة، هناك فِسق تُردُّ بهِ الشهادة، هناك فِسق يُخرِجُ من المِلّة، فأنتَ إذا التقيت مع إنسان، وأردتَ أن تنصحهُ لا تُبالغ، إذا بالغت نفرتَ منهُ، ونفرَ مِنك.
الفرق بين المصطلحات الثلاث؛ الفسق المعصية والتقوى:
قالَ بعضُ العُلماء: الفِسقُ أخصُّ بارتكابِ النهيِ، ولهذا يُطلقُ عليه كثيراً: ﴿وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم﴾ أي إذا شيء نهى الله عنهُ وارتكبتهُ يُسمى في القرآنِ: فِسقاً، والمعصيةُ تركُ الأمرِ، المعصية ترك الأمر، أمّا الفِسق ارتكاب النهي، الشرع بشكل مُجمل هناك أمر وهناك نهي، أي افعل ولا تفعل، إذا قال لكَ: لا تفعل، تأكد أنَّ النفسَ البشرية تتمنى أن تفعل، وإذا قال لكَ اللهُ: افعل، النفسُ البشرية تتمنى ألا تفعل، لأنكَ لا ترقى عِندَ اللهِ عزّ وجل إلا إذا خالفتَ نفسكَ، لأنَّ للنفسِ طبعاً والأمرُ الإلهي يُخالفُ هذا الطبع، لذلك سُميَّ الأمرُ تكليفاً لأنهُ ذو كُلفةٍ، غضُّ البصر، الإنسان مع سجيتهِ يتمنى أن ينظر، والإنسان مع طبعهِ يتمنى ألا يستيقظ على صلاة الفجر، النوم ألذ، ومع طبيعتهِ يتمنى ألا يُنفِقَ المال، قبضهُ لهُ شعور آخر، فيوجد عندك أمر ويوجد عندك نهي، فإذا فعلتَ ما نهى اللهُ عنهُ فهذا في القرآن يكثُرُ ذِكرهُ بالفِسقِ، وإذا تركتَ ما أُمرتَ به فهذا يغلِبُ عليه اسمُ المعصية.
والتقوى تجمعُ الأمرين معاً، التقوى أن تتقي أن تقعَ فيما نُهيتَ عنهُ، وأن تترُكَ ما أُمرتَ بهِ، أن تتقي غضبَ الله، فإذا أمركَ بشيء فالتقوى أن تفعلهُ، وإذا نهاكَ عن شيء فالتقوى ألا تفعلهُ.
الفسق الاعتقادي؛ حكمه وتوبته:
لكن الآن دخلنا بموضوع آخر، هناك فِسق سلوكي، وفِسق اعتقادي، شخص مثلاً لمّا ربنا عز وجل قال:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾
إذا إنسان أنكرَ الإسراء، ماذا يُعدُّ في علمِ العقيدة؟ يُعدُّ كافراً، لماذا؟ لأنَ دلالةَ الآية قطعي، الدلالة قطعية، إذا أنت أنكرت نصاً قطعي الثبوت والدلالة فقد كفرت، أبداً، لمّا ربنا قال:
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)﴾
الآيات توحي أنَّ النبي عُرِجَ بهِ إلى السماء، لكن لا يوجد دليل قطعي على أنهُ عُرِجَ بهِ إلى السماء، من أنكرَ المِعراج فقد فسق، إذا أنكرتَ شيئاً ذا دليلٍ قطعي فقد كفرت، إذا أنكرتَ شيئاً ذا دليلٍ ظنيّ فقد فسقت، فالفِسق الاعتقادي خطير، أن تُنكِرَ شيئاً أي ينبغي أن تعتقدَ بهِ، أما إذا أنكرتَ شيئاً يجبُ أن تعتقدَ بهِ فقد كفرت.
أمّا فِسقُ الاعتقادِ كفسقِ أهلِ البِدعِ الذين يؤمنون باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر، ويُحرّمون ما حرّمَ اللهُ، ويوجِبونَ ما أوجبَ اللهُ، ولكنهم ينفونَ كثيراً مما أثبتَ اللهُ ورسولهُ جهلاً وتأويلاً وتقليداً لغيرهم، أي إذا أنت نفيتَ عن اللهِ عدالتهُ، أخي سبحان الله! الله يعطي الحلاوة لمن ليسَ له أضراس، هل تعلم أنكَ فسقت فِسقاً اعتقادياً بهذا الكلام؟ نفيتَ عن الله العدالة، نفيتَ عنهُ الحِكمة، نفيت عنه العلم، فإذا نفيتَ عن اللهِ ما أوجبهُ لنفسهِ فقد فسقتَ فِسقاً اعتقاديّاً، أمّا التوبة أن تُعلِنَ على الملأ الذينَ أنكرتَ هذا أمامهم أن تُعلِنَ عكسَ ذلك، ولن تُقبلَ توبتكَ ما لم تُبين عكسَ الذي قُلتهُ من قبل، ماذا قالَ الله عزّ وجل؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾
لكن الفاسِق فِسقاً يُخرِجُ من المِلّة هذا مأواهُ النار، والدليل:
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)﴾
هذا فِسق يُوجِبُ الكفُر.
جرحُ العدالةِ شيء وسقوط العدالة شيء آخر:
إذاً اتضح معنا في هذا الدرس أنَّ كلمة فِسق متدرجة، فِسق يوجِبُ التوبة، فِسق تُردُّ بهِ الشهادة، فِسق كما تعلمون موضوع تعرفونهُ جميعاً، إذا الإنسان كذب فقد وقعَ في النِفاق، لأنَّ آية المنافق ثلاث:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».))
من عاملَ الناسَ فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهُم، ووعدهم فلم يُخلِفهُم، فهو ممن كَمُلت مروءته، وظهرت عدالتهُ، ووجبت أُخوته، وحَرُمت غيبتهُ، من كذبهم سقطت عدالتهُ، من ظلمهم سقطت عدالتهُ، من أخلفهم سقطت عدالتهُ؛ لكن يوجد بالشرع دقّةَ بالغة، يوجد سقوط عدالة ويوجد جرح عدالة، إبريق زجاجي، إذا جئت بمطرقة وكسّرتهُ قطعاً صغيرة، وقد يُشعَرُ هذا الإبريق، فجرحُ العدالةِ شيء، وسقوط العدالة شيء آخر، عالِم الحديث الشهير الذي جاء من المدينة المنورة إلى البصرة ليتلقّى حديثاً عن أحدِ الرواة، لمّا رآهُ يوهِمُ فرسهُ أنَّ في ثوبهِ شعيراً لتُقبِلَ عليه، فاقتربَ منهُ، لم يجد في الثوب شيئاً، فعادَ أدراجهُ إلى المدينة، وعَدَّ هذه الحادثة تكفي لِردِ الحديث عنه، جُرِحت عدالتهُ، لذلك الأكل في الطريق يجرحُ العدالة، أن تمشي حافياً، أن تُطفف بتمرة، أن تأكل لقمة من حرام، أن تصحبَ الأراذل، أن يعلو صياحك في البيت، أن تتحدثَ عن النساء، أن تُطلِقَ لفرسكَ العِنان، أن تقودَ بِرذوناً، أن تبولَ في الطريق، هذا كُلهُ يجرح العدالة، أنتَ مؤمن، أنتَ سفير هذا الدين، تُمثّل هذا الدين، أي الإنسان حتى ثيابهُ جزء من دينه، أي لا أقول لكَ يجب أن تكونَ غالية، أبداً، يمكن أن تكونَ الثيابُ متواضعةً جداً، ولكنها نظيفة، نظيفة فقط، الإسلام نظيف.
فدائماً وأبداً،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ. ))
[ أبو داود في سننه: صحيح لغيره ]
وقال:
(( عن بشر التغلبي: إنَّكم قادمونَ على إخوانِكُم، فأصلِحوا رحالَكُم، وأصلِحوا لباسَكُم، حتَّى تَكونوا كأنَّكم شامةٌ في النَّاسِ، فإنَّ اللَّهَ لا يحبُّ الفُحشَ، ولا التَّفحُّشَ ))
[ ابن مفلح : الآداب الشرعية: خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]
وكانَ إذا مرَّ النبي عليه الصلاة والسلام يُعرفُ بريح المِسك.
إذاً حتى الآن أنواع المعاصي التي نحنُ في صددها، أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، أكبر معصية، هيَ أساس كُل المعاصي، نعم هي أصل الشرك، إذا شخص اعتقد من شخص جاهل أنهُ مهما فعلت أنتَ من أُمةِ مُحمد، وأمة مُحمدٍ مرحومة، والنبي عليه الصلاة والسلام لن يدخُلَ الجنة قبلَ أن يُدخلَ أُمتهُ كُلها إلى الجنة، انتهى الأمر، كلام لطيف، مقبول، لم يفعل شيئاً، هذا الكلام يخرج منهُ ملايين المعاصي، إذا توهمّتَ هكذا، اسمع الآيات أنت:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾
هل هُناك أوضح من هذه الآية؟ ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ الشفاعةُ حق، ولكن لها تفسير راقٍ جداً أرقى من هذا الفهم الساذج للشفاعة، فأخطر شيء في الدين أن تقولَ على الله ما لا تعلم، طبعاً آتي بمثل واحد، هُناك آلاف الأمثلة، أي أن تعتقد أنك أنت أُجبِرتَ على كُلِّ معاصيك، ولا حيلة لكَ فيها إطلاقاً، ثم ساقكَ اللهُ إلى جهنم لتبقى فيها أبدَ الآبدين، هكذا، والقرآن الكريم؟! عشرات الآيات بل مئات الآيات تؤكدُ ندمَ الفاسقين، لو أنَّ الأمرَ كذلك هل هُناك ندم؟ لا يوجد ندم، مُجرّد الأمرِ والنهيِ فأنتَ مُخيّر، أوضح ما قالهُ سيدنا عمر لمّا قالَ له أحدهم: إنَّ الله قدّرَ عليَّ ذلك، قالَ: أقيموا عليه الحَد مرتين؛ مرةً لأنهُ شَرِبَ الخمرَ، ومرةً لأنهُ افترى على الله.
فالإنسان دائماً إذا كانَ مُقصّراً أو كانَ مُتلبساً بمعصيةٍ يميلُ إلى أن يعزوَ هذا إلى الله، إلى الأقدار، أما إذا صلى قيام الليل، الله قدر عليّ أن أصلي قيام الليل، يقول لك: أنا صليت قيام الليل، إذا فعل عملاً صالحاً، تصدّق، يعزيها لنفسهُ، يقول لكَ: أنا اليوم عملت كذا، أمّا إذا كان وقع بمعصية، هكذا قدّرَ اللهُ عليّ، هذا الكلام مُضحك، لماذا الطاعةُ تعزوها إلى نفسك وتعزو المعصية إلى الله عزّ وجل؟ قال تعالى:
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)﴾
فالفِسق الاعتقادي خطير جداً، الكُفر أن تُنكر، أمّا الفِسق أن توجب ما نفاهُ اللهُ عن نفسهِ، أو أن تنفي عنهُ ما أثبتهُ على نفسهِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق