الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والخمسين من دروس مدارج السالكين، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الأدب، انطلاقاً من قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾
قال ابن عباس وغيره: أدّبوهم وعلموهم.
إنسان في الستين من عمره يقول لك: هذا الجهاز اطّلع من خلاله على كل ما في العالم، وأنا لا أتأثر بسلبياته، فقلت له: ألا تخشى على أولادك؟ قال: بلى، قلت: يكفيه شراً أنه يؤذي أولادك، لأن الله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ فأنت مكلف أن تقي نفسك، وأن تقي أهلك النار، فإذا كنت في وضع معين، وفي سنّ معين، وفي اهتمامات معينة، وسمحت لأولادك أن يطّلعوا على شيء يجعلهم كالبركان الثائر، فأنت ربما تمكّنت أن تقي نفسك ولكنك لم تقِ أولادك، والله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ قال ابن عباس وغيره: أدبوهم وعلموهم.
أيها الإخوة؛ كلمة الأدب كلمة جامعة، كما أن الكريم كلمة جامعة، يقابلها اللئيم كلمة جامعة، الكريم كلمة تجمع كل صفات الخير في الإنسان، واللئيم كلمة تجمع كل الصفات الخسيسة، والأدب كلمة جامعة تجمع خصالاً كثيرة، طبعاً الأدب كعلم أو كفن، الجامعة تمنح لسانس في آداب اللغة العربية وعلومها، في الآداب والعلوم، النحو، والصرف، والبلاغة، والعروض، هذه علوم، أما الأدب، التعبير المثير عن حقائق الحياة، التعبير الفني، الصيغة الشعرية، النثر الفني، هذا أدب، من تعريفات الأدب: علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الخطأ والخلل، وهو شعبة من الأدب العام، فلان أديب، أي يكتب كلاماً جميلاً.
أحدهم قال: تكاثرت عليّ المصائب، الأديب يقول:
رماني الـدهـر بالأرزاء حتـــى فـؤادي في غـشــاء مـن نـبـالِ
فـصرت إذا أصابـتني ســهــام تكسرت النصال على النصـال
وقول آخر:
كفى بجســمي نحولاً أنني رجل لولا مخـاطبتي إيــاك لم ترني
نحيل جداً، لولا مخاطبتي إياك لم ترني، تعبير فني، جميل.
أحد الشعراء أراد أن يهجو مغنياً قال:
عواء كلـبٍ على أوتار مندفـــــة في قبح قــرد وفي اســتكبار هامان
وتحســب العين فكـيه إذا اختلفا عـند التنــغم فـكي بغــــل طــحـــان
هذا أدب، أي وصف بليغ، الشعر العربي أدب، والنثر أدب.
الحجاج خطب فقال: إني لأرى رؤوساً قد أينعت –استوت-وحان قطافها، وإني لصاحبها –سأقطعها-طبعاً ليس الدرس درس أدب، لكن الأدب فرع من فروع الأدب العام، الذي عنده أسلوب جميل لفظاً أو كتابةً، هذا يقال له: أديب، أي بالشعر الجاهلي يصف عنترة فرسه قال:
فـازور مـن وقـع الـقـنـــــا بلـبانـــــه وشــكــا إليّ بـعـبـرة وتحـمـحــمِ
لو كان يدري ما المــحاورة اشتــكى ولكــان لــو عــلم الكــلام مكلمي
أبو العتاهية يقول:
لا تأمن الموت في طرف ولا نفس وإن تمنعـــت بالحجـاب والحـــــرس
فمـا تزال ســـهام الـمــوت نافـــذة فـي جـنــــــــب مدّرع منها ومتــرس
أراك لســـت بـوقـاف ولا حـــــ ذر كالحاطب الخــابط الأعواد في الغلس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكــــها إن السـفينة لا تجـري على الـيبـــــس
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن عبد الله بن عمر: إن من البيانِ لَسِحْرًا، أو إن بعضَ البيانِ لَسِحْرٌ. ))
وإن من الشعر لحكمة.
الشعر ديوان العرب فحسنه حسن وقبيحه قبيح:
الشعر ديوان العرب، وحكمه الشرعي أنه كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح، لو أن إنساناً مدح رسول الله:
فليتـك تحلـو والحيـاة مريـرة وليتك ترضى والأنــــام غضابُ
وليت الذي بيـن وبينك عامـر وبيــني وبين العــالمين خـــراب
كلام طيب.
فـلو شاهدت عيناك من حسننــــا الذي رأوه لما وليت عنــــا لغـيرنـــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابــنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبــــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــا
ولــو لاح مـِـن أنـوارنـا لك لائـحٌ تـركـت جـمـيــع الـكـائـنـات لأجـلـنـا
فما حبنا سهل وكل من ادعــــــى سهولته قلنا له قـــــد جهلتنـــــــــــــا
أحد الشعراء أصابته حمى، قال:
وزائـرتي كأن بهـا حيــــــــــــاء فلـيـس تـزور إلا فـي الـظــــــلام
بذلت لهــا المــطارف والحشـايا فعافتــها وبــاتت في عـظامـــــــي
أبنت الــدهر عنـــدي كلُّ بنــــت فكيف وصـــلتِ أنت من الزحام؟
سماها بنت الدهر، أي إذا الإنسان قوّى أسلوبه، ودعا إلى الله، الأسلوب الحسن يُحسِّن المضمون، أنت لو قدمت شراباً نفيساً بكأس نظيف وجميل، جمال الكأس ونظافته تزيد الشراب طيباً، ولو قدمت هذا الشراب النفيس بكأس غير نظيف أو كأس قبيح لأساء لمضمونه، على كلٍّ؛ كان عليه الصلاة والسلام أفصح العرب قاطبةً، علمونا في الجامعة أن أعلى نصّ بعد القرآن كلام رسول الله، كان أوتي جوامع الكلم، وأعلى نصٍّ بعد كلام رسول الله كلام سيدنا علي رَضِي اللَّه عَنْه.
إذا الإنسان قرأ نصاً، يجب أن يضع يده على المواطن الجمالية فيه، وجد فيه صورة جميلة، يوجد أحياناً صور رائعة جداً، تعبيرية، تشبيه، استعارة، كناية، صورة متحركة، عبارة رشيقة، حكمة بليغة، ما ضاعت عَبرةٌ كانت لصاحبها عِبرة، صدق القائل:
إذا مـلك لم يكن ذا هبة فـدعـه فدولته ذاهبة
طبعاً أعطيتكم نماذج من الشعر والنثر هذا هو الأدب، من تعاريفه الدقيقة: التعبير المثير عن حقائق الحياة، التعبير الفني، الأسلوب الجميل، ((إن من البيانِ لَسِحْرًا)) والله عز وجل يقول:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
فالأدب كأسلوب في الإلقاء، أو في الكتابة، أو في الشعر، فرع من فروع الأدب العام، والذي يملك ذوقاً أدبياً، ويستمع إلى كلمات عامية قبيحة يتألم أشدّ الألم، وجمال الرجل فصاحته.
هكذا يربي الإسلام أبناءه:
كلكم يعلم دخل على عبد الملك بن مروان وفد، تقدمهم غلام صغير، فغضب غضباً شديداً، فتوجه إلى حاجبه، وقال: ما شاء أحد أن يدخل عليّ حتى دخل؟! حتى الصبيان؟! فقال هذا الصبي الصغير: أيها الأمير، إن دخولي عليك لم يُنقص من قدرك، ولكنه شرفني، كهذه السنوات العجاف، قال: أصابتنا سنة أذابت الشحم، وأصابتنا سنة أكلت اللحم، وأصابتنا سنة دقّت العظم، ثلاث سنوات عِجاف، ومعكم فضول مالٍ، فإن كان هذا المال لله فنحن عباده، وإن كان لكم تصدقوا به علينا، وإن كان لنا فعلامَ تحبسوه عنا؟ فقال الملك أمير المؤمنين: والله ما ترك هذا الغلام لنا في واحدة عذراً.
سيدنا عمر كان يمشي في الطريق رأى أطفالاً، لما رأوه ولوا هاربين، بقي واحد منهم بأدب، قال: أيها الغلام لِمَ لم تهرب مع من هرب؟ قال: أيها الأمير لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
أجمل ما في الرجل فصاحته وبيانه، وكان عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، كان منطقه كأنه خرزات نظم يتحدرن، كان كلامه فصلاً لا هذراً ولا نذراً، قيل: نضّر الله وجه من أوجز في كلامه واختصر على حاجته.
اليوم درسنا منزلة الأدب بمعناها الواسع؛ أن تكون أديباً مع الله، وأن تكون أديباً مع رسول الله، وأن تكون أديباً مع الخلق، فقال العلماء: الأدب ثلاثة أنواع، أدب مع الله سبحانه وتعالى، وأدب مع رسوله وشرعه، وأدب مع خلقه.
فالأدب مع الله ثلاثة أنواع أيضاً، أحدها صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة، أنت بالصلاة تُعامل الله، وفي الصيام تُعامل الله، وفي الحج تُعامل الله، وفي تنفيذ أوامر الله تُعامله، تغضّ بصرك عن محارم الله، تتحرّى الحلال، لا تأخذ ما ليس لك، صيانة معاملته عن أن يشوبها بنقيصة، والثاني صيانة قلبه عن أن يلتفت إلى غيره، والثالث صيانة إرادته أن تتعلق بما يُمقتك عليه، أي لا تريد إلا رضاه، ولا تنشغل إلا به، ولا يشوب معاملتك له شائبة، هذا هو الأدب مع الله.
قال أحد العلماء: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبته، وقال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، الأدب يعقد صلة مع الله، الأدب يحرك المشاعر، نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، والإمام الحسن البصري سئل عن أنفع الأدب، فقال: التفقه بالدين، والزهد بالدنيا، والمعرفة بما لله عليك.
قال بعض العلماء: القوم استعانوا بالله على مراد الله، وصبروا لله على آداب الله، فكيف بالذي يستعين بالله على معصيته؟ كيف الذي يُجاهر الله بالمعصية؟ قال بعض العلماء: القوم، أي أهل الحق، استعانوا بالله على مراد الله، وصبروا لله على آداب الله.
وقال أبو حفص لما قال له الجنيد: لقد أدبتُ أصحابك أدب السلاطين، فقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب بالباطن، أي أنت كيف مع إنسان عظيم تحترمه، ترتدي ثياباً كاملة أمامه، تخاطبه بأدب جمّ، تجلس أمامه جلسة أديبة، كيف تتصرف مع عظيمٍ من بني البشر، هكذا ينبغي أن تكون مع خالق البشر.
وقال بعضهم: الأدب مع الله حُسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كما لو أنك تجالس ملكاً، أي إنسان لا ينام والمصحف نحو قدميه، لا ينام، لا يجعل مثلاً في غرفة نومه أشياء مقدسة، لعله يستحي من الله عز وجل، لا يغتسل عرياناً كما خلقه الله، أي النبي الكريم رأى رجلاً يغتسل عرياناً، طبعاً أمام الناس ليس في الحمام، فقال: خُذ أجارتك لا حاجة لنا بك، فإني أراك لا تستحي من الله، أي الحياء من الله مطلوب، يلفت نظري بالحج أحياناً تجد الحاج نصفه العلوي عارٍ كلياً، ونساء ورجال، هذا ليس من الأدب، أي هناك إزار وهناك رداء، الرداء ضعه على كتفيك، فهناك من يخلع الرداء ويبقى على الإزار فقط، في عرفات وفي أثناء الجلوس في الخيام، وهناك نساء وهناك رجال، الإنسان كلما كان أكثر أدباً كلما كان أكثر قُرباً لله عز وجل، عليه الصلاة والسلام قيل: ما رئي ماداً رجليه قط بين أصحابه، وهو سيد الخلق، كان يقول: أنا آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، قال: الأدب مع الله حسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كحال مجالسة الملوك ومصاحبتهم، وقال بعض العارفين: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص.
ويرى بعضهم أن طريق الأدب أن تعرف رعونات النفس، وأن تجتنب تلك الرعونات، أحياناً الإنسان يتجشأ بصوت عالٍ، أحياناً يجلس جلسة فيها كبر، أحياناً يضع رجلاً فوق رجل، أحياناً يجلس ورجلاه متباعدتان هكذا، أحياناً يتثاءب هكذا يفتح فمه، والله الأدب جميل، اللهم صلّ عليه كان مثلاً أعلى في الأدب، بالتواضع، دخل مكة خافضاً رأسه، تواضعاً لله عز وجل، حتى كادت ذؤابة عمامته تُلامس عنق بعيره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أكثر حياء من العذراء في خدرها، أي امرأة سألته سؤالاً محرجاً فاحمرّ وجهه، قالت: كيف أتتبع مواضع الدم في أثناء الحيض؟ قال: يا سبحان الله! تتبعي مواضع الدم، لم يتمكن أن يُفصَّل أكثر، خَجِل، امرأة تسأل، الآن تجد تسمع سؤالاً على الهاتف لا يوجد فيه أدب أبداً، بقضايا نسائية محضة، خاصة جداً، وكأنها لا تقول شيئاً، الإنسان كلما ازداد قربه من الله ازداد أدبه، وقال بعض العارفين: إذا صحّت المحبة تأكدت على المُحبّ ملازمة الأدب، إن صحت محبتك لله كنت أديباً معه.
طائفة من مواقف الأنبياء مع الله عز وجل:
الآن أضع بين أيديكم طائفة من مواقف الأنبياء مع الله عز وجل، ولعله هو محور درسنا هذا، سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾
لو أنه قال: لم أقل ذلك، قال: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ في منتهى الأدب﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ لم يقل: لم أقله، والحقيقة هناك فرق بين الجوابين، مرة سئل أحد الصحابة الكرام وهو عم النبي، عمه، أيكما أكبر أنت أم النبي؟ فقال هذا الصحابي الجليل سيدنا العباس: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
أدب عمر مع أبي بكر الذي سبقه إلى رحمة ربه:
الصديق لما توفي قال سيدنا عمر: كنت خادمه وجلوازه، وكنت سيفه المسلول فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي عني وهو عني راض، الحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد، ثم حدثنا عن سيدنا الصديق، وحينما خطب بعد وفاته نزل درجة فقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر أدباً، هو الخليفة الآن، هو أعلى إنسان، لكن ما وقف على درجة أبي بكر نزل درجة، يروي التاريخ أن سيدنا عثمان لم ينزل درجة، وكان في هذا حكيماً حكمة لا حدود لها، هناك خليفة أموي سأل وزيره أن لمَ لم ينزل عثمان درجة كما فعل عمر؟ قال له: والله لو فعلها لكنت أنت في قعر بئر، إذا كل واحد نزل درجة نحفر وننزل، عملها سيدنا عمر مرة انتهى، لو فعلها سيدنا عثمان أصبحت سنة، سيدنا علي كله درجة ثم لم يعد هناك مجال، لأن المنبر كله خمس درجات، معنى هذا يجب أن نحفر وأن نصل إلى قعر بئر، على كل هذا أدب.
سيدنا عمر كان جالساً مع أصحابه، مدحه أحدهم كما هي العادة، قال له: والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله، قال: فأحدَّ فيهم النظر، وغضب غضباً شديداً، إلى أن قال أحدهم: لا والله لقد رأينا من هو خير منك، قال له: من هو؟ قال: أبو بكر، فقال: كذبتم جميعاً وصدق، عدّ سكوتهم كذباً، قال: والله كنت أضلّ من بعيري، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك، أرأيتم إلى هذا الأدب مع الخليفة السابق الراحل؟ درج الآن الحالي يذم السابق دائماً، أما انظر إلى سيدنا عمر كان دائماً يُثني على سيدنا الصديق.
تمعن قليلاً في هذه الآيات:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)﴾
الآن يا ربي:
﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾
والله هذه الآيات الإنسان إذا قرأها يشعر بهذا المستوى الرفيع من الأدب، كيف يخاطب رب العزة؟
الله عز وجل عليم بما يفعل عباده:
جاء في بعض الآثار أن حملة العرش أربعة، اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)﴾
[ سورة النساء ]
الحمد لله على حلمك بعد علمك، الإنسان قد لا يعرف عن ابنه شيئاً، ساكت، أما إذا عرف أنه فعل عملاً قبيحاً يثور ويغضب، فربنا عز وجل يعلم ما يفعل عباده.
مرة وقفت على جبل قاسيون، نظرت إلى دمشق، مدينة وادعة، لطيفة، هادئة، لكن يا ترى في البيوت كم بيت فيه معصية؟ كم بيت فيه دعارة؟ وكم بيت فيه زنا؟ وكم بيت فيه شرب خمر؟
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾
الحمد لله على حلمك بعد علمك، الله يعلم، نحن كبشر الإنسان أمامك؛ تراه متزيناً، كلامه لطيف، أنيق، نظيفاً، مرتباً، لكن يا ترى له أعمال خسيسة؟ له أعمال؟ أنت لا تعلم، لكن الله يعلم، يعلم ويحلم، الحمد على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك، الضعيف إذا عفا لا قيمة لعفوه، لكن القادر إذا عفا، العفو عند المقدرة.
ما صنعه النبي الكريم مع من أساؤوا إليه ولدعوته:
النبي عليه الصلاة والسلام مكة ناصبته العداء عشرين عاماً، وقتّلت أصحابه، ونكّلت بهم، وأخذت أموالهم، وهجت النبي، وحاولت قتل النبي، وأخرجته، وناصبته العداء عشرين عاماً، فلما دخل مكة، أي بإمكانه أن يلغي وجودهم بكلمة واحدة، عشرة آلاف سيف متوهجة تنتظر أمراٌ منه، فقال عليه الصلاة والسلام: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، العفو بعد المقدرة، أهل الطائف بالغوا في الإساءة إلى النبي، كذبوه، وسخروا منه، وأغروا صبيانهم بإيذائه، الله عز وجل مكّنه أن ينتقم منهم، جاءه ملك الجبال قال: يا محمد أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، قال: لا يا أخي،
(( قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. ))
عسى الله أن يُخرج من أصلابهم من يوحده، ما تخلى عن قومه، واعتذر عنهم، ودعا لهم، وتأمل أن يهديهم الله عز وجل.
أصل المرض مخالفة لمنهج الله:
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
بعض العلماء حملوها على أنه أدباً مع الله قال: وإذا مرضت، لكن الحقيقة هناك معنى آخر لهذه الآية، أصل المرض مخالفة لمنهج الله، أي أنت مصمم تصميماً رائعاً ألا تمرض، فإذا خرجت عن منهج الله، ومنهج رسوله، فالمرض أصله من مخالفة القواعد التي جاء بها الأنبياء، وأحياناً يكون المرض بأسباب من العصر، تلوث عام، مواد مسرطنة عامة، ضغط نفسي، على كلّ الإنسان مصمم أن يحيا حياة ناعمة هادئة.
الأدب عند مؤمني الجن:
مؤمنو الجن قالوا:
﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)﴾
﴿لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ ما قال: لا ندري أشرٌّ أراد الله بمن في الأرض، قال: لا، ﴿أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ هذا من الأدب.
سيدنا موسى قال:
﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾
سيدنا آدم قال:
﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)﴾
سيدنا أيوب قال:
﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)﴾
أي الله عز وجل سميع بصير: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ هذا دعاؤه.
سيدنا يوسف قال:
﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾
ولم يقل من الجب، لأنه لو قال من الجب لذكّر إخوته بعملهم الشنيع، ولم يقل تآمروا عليه، قال: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ .
ضرورة لزوم الأدب ظاهراً وباطناً:
قال بعض العلماء: الزم الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
الإنسان أحياناً الله يحجبه، حجابه أكبر عقاب، إذا كان فيما بينه وبين الله ليس على حال حسن يحجبه، إذا أساء بالظاهر يهينه، إذا أساء بالباطن يحجبه، فإذا أساء الأدب ظاهراً يُعاقبه ظاهراً، وإن أساء الأدب باطناً يُعاقبه باطناً، لذلك قال أحدهم: إذا صليت فلم تشعر بشيء، وإذا قرأت القرآن فلم تشعر بشيء، وإذا ذكرت الله فلم تشعر بشيء، فهناك مشكلة كبيرة في علاقتك مع الله، معناها محجوب، والله عز وجل يقول:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
صليت لا يوجد شيء، ذكرت لا يوجد شيء، قرأت قرآناً لا يوجد شيء، معناها محجوب، يوجد عندك مشكلة، يجب أن تبحث عنها، يوجد تقصير، يوجد إساءة، يوجد مخالفة، يوجد سوء ظن بالله، يوجد تعلق بالدنيا، يوجد تعلق بشخص منحرف، يوجد إهمال العبادات، الله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، لمجرد أن تسوء علاقتك بالله هناك حجاب، الذي عنده حساسية بالغة، والذي عنده حكمة، يراقب نفسه حينما يُحجب يوجد عنده علَّة.
من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن:
قال ابن المبارك: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة:
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾
يوجد آداب، يوجد سنن، يوجد فرائض، يوجد معرفة، إن تهاونت بالأدب عوقبت بالحرمان من السنن، إن تهاونت بالسنن عوقبت بالحرمان من الفرائض، إن تهاونت بالفرائض عوقبت بالحرمان من المعرفة، ران على قلب هذا الإنسان الغشاوة التي تحول بينه وبين الحق.
الأدب في العمل علامة قبول العمل:
قيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل، قال بعضهم: تاهت الفضيلة تيهاً بفضلها فانكشفت عورتها.
رقصت الفضيلة تيهاً بفضلها فانكشفت عورتها
حتى العمل الطيب إذا اقترن بالمن والأذى والفخر والذكر، هذا العمل الطيب تاه صاحبه به فذهبت قيمته، وقال بعضهم: حقيقة الأدب استعمال الخُلق الحسن، وقال بعضهم الآخر: الأدب استخراج ما في الحياة من الكمال من القوة إلى الفعل، أي أنت مفطور فطرة عالية، هذه الفطرة العالية الخفية تترجم إلى عمل، تترجم إلى ابتسامة، إلى تواضع، إلى كلمة شكر.
أعظم عمل على الإطلاق أن تزكي نفسك لتكون مؤهلةً لدخول الجنة:
الشيء الذي يوضح الحقيقة الآن قال تعالى:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
أي فطرها وجبلها على جِبِلة عالية، فإن فعلت الكمال ارتاحت، وإن فعلت النقص اكتأبت، وكل إنسان عمله السيئ عقاب له، عقابٌ لفطرته، كل إنسان يخرج عن قواعد فطرته الكاملة يتألم وينقبض ويشعر بأنه قد أساء، وما يقال اليوم عن الكآبة، وضيق النفس، والسأم، والضجر، والملل، هذا كله من علامات خروج النفس عن قواعد فطرتها، ملخص الملخص:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
أي أعظم عمل على الإطلاق أن تزكي نفسك لتكون مؤهلةً لدخول الجنة، إلى أبد الآبدين، والله عز وجل يقول: ﴿قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها﴾ .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق