وضع داكن
10-11-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - مقومات التكليف - الندوة : 11 - العقل - مكانة العقل
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تقديم وترحيب :

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، ويسعدنا أن نكون في رحلة هذا البرنامج في واحة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في جامعة دمشق ، أهلاً وسهلاً بأستاذنا الكريم .
الدكتور راتب :
 أهلا بكم أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ علاء :
 كما مر معنا أستاذنا الكريم في الحلقات السابقة بأن التكليف ومقومات التكليف للإنسان المكرم على الأرض تنقسم إلى عوامل عدة ، مررنا على بعضها ، وعددناها ، وهي : الكون ، العقل ، الفطرة ، الشهوة ، الحرية ، الشرع ، وكذلك الوقت ، وقفنا عند الكون وقفة ملية ، والآن في الموقف الثاني لمقومات التكليف نقف عند العقل ، ويبدو أن هذا البحث ، أو هذا المبحث سيستغرق أكثر من حلقة ، وهنالك إشكالية يتجادل بها الناس : هل هو العقل الأساس أم الدين الأساس ؟ هل العقل هو ميزان للدين أم الدين هو الميزان للعقل ، أو هنالك مربع مشترك للميزان بين العقل والدين ؟
 ثمة كثير من القضايا الجدلية التي تطرح في الندوات والمنتديات والمحافل والكتب والمقالات ، وما إلى ذلك ، نبتدئ سيدي الكريم بمسألة العقل ، إن صح هل هناك من تعريف أجمع عليه الباحثون للعقل ، وهل العقل هو أصل في الدين ؟

مقدمة حول العقل :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، أستاذ علاء جزك الله خيراً الإنسان نفس وروح وجسد ، نفسه ذاته هي المؤمنة وهي الكافرة ، هي الرحيمة هي القاسية ، هي المطالبة ، هي المعاتبة ، هي ذاته لا تموت ، لكنها تذوق الموت ، والروح هي القوة المحركة ، لكن العقل جهاز بين يديها يكشف لها الحقائق ، وأداة معرفة الله عز وجل ، ومناط التكليف ، لذلك أستاذ علاء الآيات القرآنية التي تتحدث عن العقل والتفكر ، والتذكر والعلم ، تقترب من ألف آية ، لأن الإنسان في الأصل عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، العقل غذاؤه العلم ، والقلب غذاؤه ، الحب ، والجسم غذاؤه الطعام والشراب ، وما لم تلب هذه الحاجات الثلاث نقع في التطرف ، فإذا غذيناها معاً نقع في التفوق ، وفرق كبير بين التطرف والتفوق ، ذلك لأن النتاج البشري هو علم وفلسفة وفن ، فالعلم ما هو كائن أداته العقل ، والفلسفة ما يجب أن يكون ، والفن ما هو ممتع ، فلذلك العقل متعلق بالعلم ، وفي الإنسان حاجة عليا هي معرفة الحقيقة ، وما لم تلب هذه الحاجة هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به ، لكن هذا المقوم الخطير ، خطير لأن الناس منه من عدّ العقل أصلاً ، وقاس به كل شيء .
الأستاذ علاء :
 أصل مطلق .
الدكتور راتب :
 وقاس به كل شيء ، وهذا ما وقع به الغرب ، ومنهم من عدّ النقل أصلاً ، وألغى دور العقل ، وقع أيضاً في التطرف ، لكن هذه الحلقتين إن شاء الله إن وفقنا الله عز وجل سوف نوضح الانسجام والتناغم والتماسك التام بين العقل وبين النقل .
 أستاذ علاء ، أول فكرة خطيرة لهذا الموضوع أن العقل أداة المعرفة ، لكنها محدودة المهمة .
الأستاذ علاء :
 محدودة المهمة ، أم محدودة الملكات ؟

العقل محدود المهمات :

الدكتور راتب :
 محدودة كيف ؟ أنا عندي بقالية ، أشتري ميزانًا بالغ الحساسية بالغ الدقة ، فيه شاشات ، فيه ذواكر ، فيه تقنية عالية جداً ، لكن هذه التقنية العالية تصب في النهاية بعتبة بين خمس غرامات وخمسة كيلو .
الأستاذ علاء :
 إذا كانت بقالية بسيطة .
الدكتور راتب :
 كل هذه الملكات والقدرات والتقنيات العالية والشاشات والذواكر محدودة الاستعمال من ، خمس غرامات إلى خمسة كيلو ، فلو خطر في بالي أن أزن سيارتي في هذا الميزان أكسره ، الخطأ ليس في الميزان ، وليس في الذي صنع الميزان ، الخطأ في سوء استخدامه ، فأنا حينما أعد العقل أداةً مطلقة أقيس بها كل شيء أقع في خطأ كبير ، الخطأ ذكرته الآية الكريمة :

 

﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾

[ سورة المدثر ]

 فالعقل أداة مهمة أن أبحث في الواقع ، وأن أكتشف بعقلي ما غاب عن الواقع ، أداة استبيان أداة استنباط فلا يمكن أن أعمل عقلي بالمغيبات ، العقل ممنوع أن يخوض في هذه المساحة .
الأستاذ علاء :
 لأنه هو محدود بالواقع ، وبالمادة إن صح التعبير .

العقل مرتبط بالواقع وبالمصالح :

الدكتور راتب :
 نعم ، المشكلة أن العقل مرتبط بالواقع وبالمصالح ، فإذا كانت منه قوة مطلقة للمعرفة وقعنا في خطأ كبير ، هذا الموضوع ينقلنا إلى ما يسمى بالعقل التبريري ، وبالعقل الصريح ، العقل التبريري ، أنا أفعل ما أشاء ، وأرتكب من الأخطاء ما أشاء ثم أبحث عن من يبرر لي أخطائي ويغطيها بطريقة ، وهذا ما يجري في العالم ترتكب أكبر الجرائم بحق الشعوب ، وتغطى بكلام معسول ، هذا عقل تبريري ساقط عند الله ، وعند الناس ، وهذا العقل التبريري إذا تابعناه كفر الناس بالعقل ، إذا اتسعت مساحته كفر الناس بالعقل ، فالعقل بادئ ذي بدء أداة معرفة الله ، والعقل أداة معرفة واستدلال ، والعقل محدود المهمة ، والعقل يمكن أن يكون أداة لبلوغ سعادة الدنيا والآخرة ، والعقل مناط التكليف ، الدليل إن الله إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب ، والآيات التي تتحدث عن العقل وعن التذكر والتفكر والتدبر والعلم تقترب من ألف آية .
الأستاذ علاء :
 سيدي الكريم ، العقل له مبادئ ، ويرتكز على هذه المبادئ ، ويعمل من خلال هذه المبادئ ماذا عن هذه المبادئ ؟
الدكتور راتب :
 أستاذ علاء ، هناك نقطة دقيقة جداً تتفرع عن الفقرة الأولى في هذا اللقاء ، وهي أنت إذا دخلت إلى جامعة ، فلك عقل راجح ، وتأملت في قاعات التدريس الحديثة ، المدرجات مع عزل للصوت ، سبورات متحركة ، إضاءة ، أرض عليها سجاد يمنع صوت الحركة ، تعجب بالمهندس ، نظرت إلى الحدائق ، فإذا بالحدائق في وضع لا يوصف من شدة الجمال ، نظرت إلى المخابر نظرت إلى المكاتب ، فأنت لك أن تستنبط من تجولك في الجامعة آلاف الأفكار عن الذين صمموها وصنعوها ، لكن مهما كنت ذكياً ، مهما كنت متفحصاً ، مهما كنت متأملاً فلا تستطيع أن تكتشف من هو عميد الكلية ، ومن هو رئيس الجامعة ، وكم كلية في الجامعة ، ولا تعرف ما النظام الداخلي لها ، ولا تعرف نظام النجاح ، ونظام الرسوب ، وشروط القبول ، هذه كلها لا يمكن أن تعرفها بعقلك ، لا بد من أن تقرأ كتاباً عن الجامعة .
الأستاذ علاء :
 لا بد من دليل يبسط أمام العقل ما لم يستطع كشفه بملكاته وبقدراته ، إذاً لا بد من الدليل ، والدليل في الحياة هنا من القرآن الكريم ، الوحيد ليكتشف العقل ما لم يستطع اكتشافه .
الدكتور راتب :
 العقل والوحي يتكاملان ، لا بد من دليل تقرأ فيه عن تاريخ الجامعة ، وعن مؤسس الجامعة ، وعن رئيسها الحالي ، وعن الرؤساء السابقين ، وعن عمداء الكليات ، وعن المقررات ، وعن نظام النجاح ، ونظام الرسوب ، وعن نظام القبول ، هذا لا يمكن أن تكتشفه بعقلك ، تكتشف روعة البناء ، جمال الحديقة ، دقة التصميم ، عصرية القاعات ، هذا كله تكشفه بتأملك ، بعقلك ، أما تفاصيل الجامعة فلا بد من كتاب تقرأه .
الأستاذ علاء :
 هذا ينجر على مسألة المخترعات الحديثة ، ربما خاصة الإلكترونيات ، طرحت بين يدي المستهلك دون تعليمات ، ليقف بعقله ، ويداور في هذا الجهاز من هنا وهناك ، كيف يشغل ، كيف يعمل ؟ لا يستطيع .
الدكتور راتب :
 لعله يقبل عندك ، وهو أنك إذا اقتنيت جهازاً حاسوباً لتحليل الدم ، وقد يبلغ ثمنه مئات الملايين ، ولم ترسل لك الشركة تعليمات التشغيل والصيانة إن شغلته من دون تعليمات أعطبته ، وإن لم تشغله جمدت ثمنه ، أليست التعليمات أهم من الجهاز ؟
الأستاذ علاء :
 بكثير .
الدكتور راتب :
 هذا المعنى ذكره القرآن الكريم ، حينما قال تعالى :

 

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾

[ سورة الرحمن]

 أيعقل يا رب أن يعلم الإنسان القرآن قبل أن يخلق ، جاء الترتيب عكسيًا .

 

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾

[ سورة الرحمن]

 قال علماء التفسير : هذا ليس ترتيباً زمنياً ، لكنه ترتيب رتبي ، بمعنى أنه لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه .
الأستاذ علاء :
 إذاً وصلنا إلى أن العقل يقف عند حدود معينة عند غرز معين يرتد خلفه ، لا بد من معين للعقل ليستدل به ، وليهتدي به ، وكان الوحي من السماء إلى الأرض ، فنزلت الكتب السماوية ، ونزل القرآن الكريم في الرسالة الخاتمة ليكون دليلاً للعقل ليتفحص ، وليعرف ، وليخدم تلك العلائق الموجودة في الكون التي غابت عنه .

لا بد للعقل من شرع يهتدي به :

الدكتور راتب :
 لذلك أستاذ علاء قال عليه الصلاة والسلام :

(( تفكروا في المخلوقات ، ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا ))

[ الجامع الصغير عن ابن عباس بسند فيه ضعف]

 العقل يصل إلى الله ، لكنه لا يحيط به ، فلا بد من خطوط حمراء يجب أن يقف عندها العقل ، العقل إذا وصل إلى ذات الله يقع في خطأ كبير ، ذات الله عز وجل ، والمستقبل البعيد ، والماضي السحيق ، وخصائص الكون ، هذه ينبغي أن نقرأها في كتاب الله .
 هناك حقيقة دقيقة جداً ، أن كل شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به ، لأن ميزان البقالية لا يمكن أن تزن به سيارتك ، الشركة الصانعة محترمة جداً ، كتبت لك على طرف السيارة وزنها ، مادام ميزان البقالية لا يستطيع وزن السيارة فالشركة الصانعة كتبت لك وزن السيارة ، كل شيء عجز العقل عن إدراكه أخبرك الله به ، الله أخبرنا عن بدء الخلق ، وماذا بعد الموت ، أخبرنا عن ذاته ، الشيء الذي يصعب أن ندركه بعقولنا أخبرنا الله عنه ، إذاً ليتمم النقص لا بد من خطوط حمراء يقف العقل عندها ، أما إذا تجاوزها يدمر ذاته ،

(( تفكروا في المخلوقات ، ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا ))

العقل حصان تركبه على قصر السلطان :

 قالوا : العقل حصان تركبه إلى باب السلطان ، فإذا دخلت إلى قصر السلطان دخلت وحدك ، كيف ؟
 الإنسان ـ لا سمح الله ولا قدر ـ بحاجة إلى عملية جراحية ، يستخدم عقله ، يبحث عن طبيب متفوق يحمل أعلى شهادة ، أخلاقي ، رحيم ، سعره معتدل ، هذه كلها بعقله ، الآن دخل إلى غرفة الطبيب ، فقال له : لا تحتاج إلى عملية ، لا يمكن أن تناقش الطبيب ، لأن عقلك أوصلك إلى عيادته ، أما إذا دخلت إلى عيادته فينبغي أن تدع عقلك .
الأستاذ علاء :
 تماماً ، وأن تسمع من صاحب الخبرة من هو أعلم منك .
الدكتور راتب :
 فالعقل ينقلك إلى قصر السلطان ، فإذا دخلت قصره دخلت وحدك .
الأستاذ علاء :
 سيدي الكريم ، أنت مع من يقول : إن العقل محدود بالماديات ، وأن التفكير بما وراء المادة كما تفضلت كمن يحمّل الميزان فوق طاقته ، وهو لا يستطيع أن يخترق ما وراء الماديات ، لذلك لا يمكن للعقل أن يتصور الخالق ، أو أن يفكر في ذات الخالق ، أو أن ينتقل من مادة إلى أخرى كما تنتقل المادة من حالة وجودية كتلة مادية إلى حالة طاقة عندما تمشي بسرعة ضوء مثلاً .

دائرة المحسوسات ودائرة المعقولات ودائرة الإخباريات :

الدكتور راتب :
 أستاذ علاء ، أنت أثرت قضية أساسية في هذا البرنامج ، والحقيقة أن أمام الإنسان ثلاث دوائر : دائرة المحسوسات ، ودائرة المعقولات ، ودائرة الإخباريات .

1– دائرة المحسوسات :

 دائرة المحسوسات تبحث في كل شيء ظهرت عينه وآثاره ، أنا أرى الضوء المتألق بعيني ، وأشم الرائحة الزكية بأنفي ، وألمس القماش بيدي ، وأسمع الصوت بأذني ، هذه الدائرة لا خلاف فيها لا علاقة لها بهذا اللقاء الطيب .

2 – دائرة المعقولات :

 لكن الدائرة الثانية دائرة المعقولات تبحث في شيء غابت عنك ذاته ، وبقيت آثاره ، فالكهرباء تغيب عنا ، لكن آثارها كتألق المصباح ، وتكبير الصوت ، ودوران المروحة ، وعمل المسجلة ، وعمل البراد ، وعمل المكيف ، أنا أرى آثار الكهرباء ، لذلك عقلي يستنبط يقيناً مئة بالمئة أن في هذا البناء كهرباء ، أنا لم أر كُنه الكهرباء ، رأيت آثارها ، لذلك أعرابي بسيط جداً تحدث عن العقل ، فقال : " الأقدام تدل على المسير ، والبعرة تدل على البعير ، والماء يدل على الغدير ، أفسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدلان على السميع الخبير ؟ ّ .
 معنى ذلك أن العقل مرتبط بالمادة ، ومرتبط بالواقع ، ومرتبط بالمحسوس ، لكنه يستطيع أن يكتشف من المحسوس ما هو غير مرئي له ، لذلك العقل أداة معرفة الله ، كل الكون يدل على الله ، كل الكون يجسد أسماء الله الحسنى ، الكون مظهرة لأسماء الله الحسنى ، الله عز وجل يقول :

 

﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾

[ سورة الأنعام : 103]

 ولكن العقول تصل إليه من خلال الآثار التي خلقها الله عز وجل ، هذا معنى آيات ، يعني علامة تدل على وجود الله ، وتدل على كماله ، وعلى وحدانيته ، وهناك آيات كونية ، وآيات تكوينية أفعاله ، وآيات قرآنية ، فكماله علامات ، وخلقه علامات ، وأفعاله علامات ، فلذلك العقل مهمته الأولى أن ينظر في الواقع ليكتشف ما وراء الواقع ، أن ينظر بالمادة ليتحقق من صفات صانع المادة ، العقل منوط بالواقع ، إذاً الدائرة الثانية دائرة المعقولات .

 

3 – دائرة الإخباريات :

 أما الثالثة فتتعلق بشيء غابت ذاته ، وغابت آثاره معاً ، لا يمكن أن يستطيع العقل معرفة شيء عن هذه الدائرة غابت الذات والآثار .
 في الدائرة الأولى المحسوسات ظهرت فيها الذات والآثار ، الدائرة الوسطى المعقولات غابت الذات ، وبقيت الآثار ، في الدائرة الثالثة غابت الذات ، ولا سبيل لمعرفة ما في هذه الدائرة إلا الخبر الصادق ، لذلك أكبر خطأ يقع فيه الدعاة أحياناً أنه يحدث إنسانا لم يؤمن بعد بوجود الله يحدثه عن الجن ، يقول له : أين الجن ؟ يحدثه عن الملائكة ، يحدثه عن الدار الآخرة أحياناً .
الأستاذ علاء :
 ينتقل للدائرة الثالثة .

 

اثر البدء بالدائرة الثالثة على الدعوة :

الدكتور راتب :
 هذا خطأ كبير في الدعوة ، لأنك تعطي الطرف الآخر حجة قوية على إنكار ما تقوله .
الأستاذ علاء :
 مباشرة يرفض ، بدل أن ينتقل من دائرة إلى دائرة تسلسلياً كما تفضلت ، من المحسوسات ، إلى المعقولات ، ثم إلى الإخباريات ، يبتدئ من الحلقة الأخيرة ، كم يقفز من على السلم .
الدكتور راتب :
 أنا أنصح الإخوة المشاهدين والإخوة الدعاة إذا أرادوا أن يحاوروا طرفاً إيمانه بالله مهزوز ، أو يمتنع بشكل جازم عن كل قضية إخبارية في الدين مستحيل ، لأنك تعطي الطرف الآخر دليلاً على تكذيبك ، الدائرة الثالثة هي للذين آمنوا ، لذلك الله عز وجل خاطب الناس بأصول الدين ، قال تعالى :

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 أما قضايا التشريع ، قضايا الجن ، قضايا الملائكة واليوم الآخر ، والصراط ، هذه قضايا إخبارية ، هذه لا يخاطب بها إلا من آمن بالله ، يا من آمنتم بي هناك آخرة ، هناك حساب ، إذاً الدائرة الثالثة دائرة الإخباريات ، هذه ممنوع أن تعرض على إنسان اهتز أصل الإيمان عنده .
الأستاذ علاء :
 أن يكون عنده أرضية لكي يحمل هذا الإخبار .
الدكتور راتب :
 ذلك ورد في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمئة آية تقول :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا ﴾

 يا من آمنتم بوجودي ، يا من آمنتم بوحدانيتي ، يا من آمنتم بكمالي ، يا من آمنتم بعلمي بحكمتي ، كما أخبركم أن هناك جنا هناك ملائكة ، هناك دار آخرة .
الأستاذ علاء :
 سيدي ، هل نقربها مثلاً بطفل مازالت خبرته في الحياة لا تؤهله لحمل معلومة معينة ، أو لحمل قضية معينة فتحجب عن طفلك هذا الأمر ، وتنتظر حتى يشب ، وتكتمل تجربته ، ويكتمل العقل ، إن صحّ التعبير لتحمله هذه المعلومة .
الدكتور راتب :
 كما يقول بعض المفسرين : لما حاور سيدنا إبراهيم النمرود حاوره ، فقال تعالى :

 

﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾

[ سورة البقرة : 258]

 ظن النمرود أنه يقتل إنساناً فيميته ، يبقيه حياً فيحييه ، لم يتابع معه الحوار ، قال تعالى :

 

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾

[ سورة البقرة : 258]

 قضايا الغيب لا يمكن أن تعرض على إنسان اهتزت عنده حقائق الوجود .
الأستاذ علاء :
 الحقيقة ، يبدو لي أن هذا المبحث سيدي سوف يأخذ معنا أكثر من حلقتين ، لأنه بقي في هذه الحلقة ما يقل عن ثلاث دقائق ، إذا سمحت لي أن نقف عند مبادئ العقل ، كما تفضلت ، ونختم بها هذه الحلقة ، لنبتدئ إن شاء الله في الحلقة القادمة .

 

مبادئ العقل : السببية والغائية وعدم التناقض :

الدكتور راتب :
 مبادئ العقل : السببية والغائية وعدم التناقض ، هذا الجهاز الذي أودعه الله فينا لا يمكن أن يفهم شيئاً بلا سبب ، كما أنه لا يمكن أن يفهم شيئاً بلا غاية ، كما لا يمكن أن يقبل فكرة متناقضة مع أختها ، إنسان في دمشق وحلب في آن واحد مسألة مرفوضة .
 مثلاً : إنسان ذهب إلى اللاذقية ليمضي الإجازة ، وأحكم إغلاق البيت ، وأطفأ الأنوار بإحكام ويقين ، فلما رجع بعد أسبوع رأى ضوءاً متألقاً في البيت ، ينخلع قلبه ، لماذا ؟ لأن عقله لا يقبل أن هذا المصباح تألق من ذاته ، لو أن زوجته قالت : أطفئه ، يقول : ليس الموضوع أن أطفئه ، الموضوع من دخل إلى البيت في غيبتنا ؟ فالعقل لا يقبل شيئاً بلا سبب ، وهذا المبدأ ينقلك إلى وجود الله بلطف ، البيضة من الدجاجة ، والدجاجة من البيضة ، من خلق الدجاجة الأولى ؟ لو فرضنا أن الله عز وجل خلق الكون بغير نظام السببية لما آمنا بالله إطلاقاً ، فكأن الله دفعك إلى أن تؤمن به عن طريق مبدأ العقل والسببية ، لكن أعظم شيء في هذا الموضوع أن الله خلق في عقلك مبدأ السببية ، ونظم الكون على أساس السببية ، فتوافق العقل والكون شيء مدهش ، كما أن عقلك لا يقبل شيئا بلا سبب ، ولا شيء في الكون بلا سبب .
الأستاذ علاء :
 فيما يبدو أدركنا الوقت سيدي الكريم نستسمحك ، والحديث معك ممتع بكل معنى الكلمة ، ونعد الإخوة المشاهدين أن نتمم هذا المبحث حتى يأخذ حقه .
الدكتور راتب :
 هذا مفصل كبير في الدين .
الأستاذ علاء :
 وننهي كل الإشكاليات التي تدور هنا .

 

خاتمة وتوديع :

 أعزائي المشاهدين لا يسعني إلا أن أشكر أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كلية الشريعة وأصول الدين ، ونعدكم أن نلتقي في الأسبوع القادم في حلقة نبحث فيها ما تبقى في حلقات أخرى أيضاً عن موضوع العقل ومكانة العقل .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور