الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثالث والأربعين من دروسِ مدارج السالكين، في منازل إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين، ومنزلةُ اليوم هيَ منزلةُ المعرفة.
ما من كلمةٍ فيما أظن تدورُ على ألسنة العُلماء والدُّعاةِ إلى الله ككلمة فُلان يعرفُ الله، وفُلان لا يعرِفه، بل إنَّ الدُّعاةَ إلى اللهِ ألِفوا أن يُعزوا كُلَّ عملٍ سيئ إلى سببٍ واحد، هوَ أنَّ صاحِبهُ لا يعرف الله، وأنَّ كُلَّ عملٍ طيّب يُعزى هذا العمل إلى سببٍ واحد، هوَ أنَّ صاحِبَهُ يعرف الله، لكن في الأمور الماديّة القضايا ليسَ فيها التباس، هذه طاولة خشب باديةٌ للعين لاشكَّ فيها، الأشياءُ الماديّة لها علامات تُدرِكُها الحواس بشكلٍ بسيط من دونِ تعقيد، لكنَّ الأشياء الإنسانيّة المعنويّة كامنةٌ في النفس، هُناكَ من يدّعيها وهُناكّ من يتحقق منها، فكلمة عارِفٌ بالله أو فُلان يعرِفُ الله، هذه كلمة.
الحقيقة أنَّ الناسَ-وهذا كلام دقيق-رجُلان لا ثالثَ لهُما إطلاقاً؛ رجلٌ يعرِفُ الله، متصلٌ بهِ، منضبطٌ بأمرِهِ، مُحسِنٌ إلى خلقِهِ، سعيدٌ بِهِ، ورجلٌ لا يعرِف الله، إذاً هو مقطوعٌ عنه، متفلتٌ من منهَجِهِ، مسيءٌ إلى خلقِهِ، شقيّ بإساءتهِ، وأنا أعني ما أقول، وليسَ في الأرض كُلِّها رجل ثالث،
(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلانِ؛ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ . ))
كُلّ هذه التقسيمات والتفريعات التي تَرونَها وتستمعونَ إليها تفريعاتٌ ليست واقعيّة، الشيء الواقعي إنسان يعرف وإنسان لا يعرف، الذي يعرف يعبُد، والذي يعبُد يسعَد، والذي لا يعرف لا يعبُد، والذي لا يعبُد لا يسعَد؛ يعرف موصول منضبط مُحسن سعيد، لا يعرف مقطوع متفلت مسيءٌ شقيّ.
نحنُ الآن درسُنا هل هُناك علامات أو إشارات أو دلائل أو قواعد أو أدلّة أو براهين تؤكّدُ أنَّ فُلاناً يعرِفُ الله وفُلاناً لا يعرِفُهُ؟ مثلاً لو شخص أمسك كتاب جغرافيا ونظرَ إلى خارِطة للشرق الأوسط، ورأى دمشق قد رُسِمت دائِرتُها على الساحل السوري، وقال: شيءٌ جيّد، كتاب ممتاز، ليسَ فيهِ أغلاط، هل هذا الإنسان يعرِفُ دمشق؟ مستحيل أن يعرِفَها، لو أنهُ يعرَفَها لقال: هذا غلط، أنا أسكن في الشام، الشام ليست مدينة ساحلية، إذاً فُلان يعرِفُ الله، كُلٌّ قد يدّعي ذلك، فُلان لا يعرِف الله، نحنُ قد نتهم الآخرين بذلك، هل هُناك قواعد؟ أدلة؟ براهين؟ مؤشرات؟ هذهِ لنا ولغيرنا، الله عزّ وجل ماذا قال؟ قالَ تعالى:
﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)﴾
الله عزّ وجل أعطانا إشارة، إنسان يبكي من دون وجع ولا خوف ولا حُزن، في أعلى درجاتِ راحتهِ النفسية واطمئنانهِ وقوتهِ ويبكي شوقاً للهِ عزّ وجل؟! بُكاؤهُ علامة المعرِفة، ربنا عزّ وجل يقول: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَق﴾ أي:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾
هذه علامة، هذهِ علامة قرآنيّة.
الآن إلى علاماتٍ لمعرفةِ الله عزّ وجل وردت على ألسنة بعض العُلماء الكِبار، قال: المعرِفةُ تُوجِبُ السكون، فمن ازدادت معرِفته ازدادت سكينُته، الذي يعرِفُ الله كالجبل، معنى السكون الاستقرار، معنى السكون السكينة، معنى السكون الهيبة، لأنَّ الذي يعرِف اللهَ عزّ وجل لا يستخّفهُ فرحٌ ولا يسحقهُ ألمٌ، لو فرضنا إنساناً أُصيب بمكروه، فملأ الدُّنيا صَخَباً وسُباباً وشتائم، وضرب نفسهُ، ومزّق ثيابه، وصرخَ بويلِهِ، هل هذا يعرِف الله عزّ وجل؟ لا والله، إذاً معرفة الله جلَّ وعلا توجِبُ السكينة.
من علامات المؤمن وقارُهُ، من أينَ يأتي الوَقار؟ يأتي الوَقار من أنَّ هذا الإنسان يرى أنَّ الفِعلَ فِعلَ الله، ويرى أنَّ اللهَ حكيم، وأنَّ اللهَ عليم، وأنَّ اللهَ عادل، وما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكُن، وأنَّ ما أرادهُ الله وقع، وأنَّ شيئاً إذا وقع قد أرادَهُ الله عزّ وجل، وأنَّ إرادة اللهِ عزّ وجل متعلقةٌ بالحِكمةِ المُطلقة، وحِكمتُهُ متعلّقةٌ بالخير المُطلق، هذه الحقائق تجعلُهُ وقوراً ، تجعلُهُ مُهاباً، تجعلُهُ مطمئناً، تجعلُهُ متوازِناً، تجعلُهُ مستقرّاً، تجعلُهُ متفائلاً، تجعلُهُ واثقاً، هذه علامة.
الحال الذي ينعكس على سلوك الإنسان إذا كان يعرف الله أو لا يعرفه:
عندما الإنسان يُصاب بمكروه، ويَسُب، ويضرب، ويشتم، ويكسر، ويضرب نفسه، ويصرخُ بويلِهِ، ويُمزّقُ ثوبهُ، أيُّ معرفةٍ هذه؟ فعلامة المعرفةِ المعرفة تُوجِبُ السكون، فمن ازدادت معرِفتَه ازدادت سكينتهُ.
الحقيقة الاطمئنان الداخلي ينعكس على الجوارح سكينة واستقراراً، والخلل الداخلي، والضجر الداخلي، والخوف الداخلي، والقفر الداخلي ينعكس على الجوارح اضطراباً، مرّة وجدت إنساناً مركبتهُ في كراج، رَجَعَت عليها مركبة فضغطتها قليلاً، أي سبَّ من الأديان، وشتم القديسين ما فيه الكفاية، كأنهُ قد ماتَ ابنُهُ، وتجد مؤمناً مهما كانت المصيبةُ ساحقةً لا يزيدُ عن أن يقولَ: الحمدُ لله.
والله التقيت مع أخ أُصيب بمرض عُضال، وجدتُهُ صابراً، وجدتُهُ مستقرّاً، وجدتُهُ شاكراً، يا ربي لكَ الحمد، قالَ لي: قضيت كُل حياتي في طاعة الله، مشيئةُ اللهِ أنا أحترمُها، بعد أيام انتقل إلى رحمة الله، جاء أحدهم إلى مستشفى، معهُ ورم خبيث بالأمعاء، وهذا الورم بالأمعاء لهُ آلامٌ لا تحتملُها الجِبال، ومع ذلك ما سُمِعت مِنهُ أنّة، ما زادَ عن أن قال: يا ربي لكَ الحمد، وكُلُّ من زارهُ يقول لهُ: اشهد أنني راضٍ عن الله، هذا المؤمن، كُل هذه المعرفة، إله بيدهِ كُلُّ شيء، هوَ الحكيم، هوَ العليم، هوَ العادل، هوَ المُحب، هوَ الربّ، هذهِ مشيئتُهُ، المؤمن يتلو قولَهُ تعالى فيذوب:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾
الحكمة من أن الله ساق لنا القصص القرآنية في سورة الكهف:
يكفينا أيها الإخوة في سورة الكهف أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى ساقَ لنا قصةَ أصحاب الكهف، وساقَ لنا قِصّةَ الخَضِر عليهِ السلام مع سيدنا موسى، ومن خلالِ هذه القصة يتضح أنَّ للهِ أمراً تكليفيّاً وأمراً تكوينيّاً، وأنَّ موسى عليهِ السلام قد عَرَفَ الأمرَ التكليفي، التشريع، بينما الخَضِر عليهِ السلام عَرَفَ الأمر التكويني، فربُنا عزّ وجل ساقَ لنا بعضَ القِصص، أنَّ هؤلاء أصحاب السفينة رَكِبَ فيها الخَضِر، فما لَبِثَ أن خَرَقَها، سيدنا موسى بحسب التشريع لا يجوز:
﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)﴾
يوجد قراءة: ليغرقَ أهلَها، لم يتحمّل، هذا شيء مُخالف للشرع، أحسنوا إليك، سَمَحَوا لكَ أن تركبَ سفينتهم، أتخرِقُها لهم؟ فلمّا أجاب قال:
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)﴾
فبهذه الطريقة نجت تلكَ السفينة من المُصادرة، هذهِ القِصة أيها الإخوة يجب أن تقيسَ عليها كُلَّ شيء، اللهُ عزّ وجل جعلَهَا نموذجاً، أي يا عبادي هذهِ أفعالي.
يوجد قصة أخرى؛ أصحابُ الجنة الذين أصرّوا على عدمِ إعطاءِ الفقيرِ حقَهُ:
﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)﴾
ثم أخذوا على أنفسهم عهداً.
﴿ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)﴾
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)﴾
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾
أي يا عبادي سُقتُ لهم هذه المصيبة كي يتوبوا من هذا الذنب، ذنب البُخل، ذنب الشُّح، هم أصرّوا أن يمنعوا الفقيرَ حقّهُ، فأتلفتُ لهم كُلَّ المحصول، عندئذٍ تابوا وأنابوا، الله قال: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ أي هذا نموذج، وكُلُّ أنواع العذاب الذي أسوقهُ لعبادي من هذا النوع، من أجلِ أن أردّهُم إليّ، أن أحمِلهم على التوبة، أن أسوقهم إلى باب العبوديّة، إذاً علامة معرفة اللهِ السكينة، ومن ازدادت معرِفتُهُ ازادت سكينتهُ، هذه علامة.
علامة ثانية؛ قال: علامة المعرفةِ أُنسُ القلبِ بالله، تجد الذي لا يعرف الله عزّ وجل كأنهُ على بركان، يجب أن يسمع غِناء، يجب أن يقرأ قصة، يجب أن يجلس مع أُناس، لا يوجد عنده إمكانية أن يخلوَ مع الله، من علاماتِ الإفلاس الاستئناسُ بالناس، أمّا المؤمن إذا خلا معَ ربهِ ذكرَ اللهَ عزّ وجل، قرأ القرآن، تفكّرَ في الكون، ناجى ربّهُ، استغفرَ اللهَ عزّ وجل، دعاه، علامة الذي يعرف اللهَ عز وجل أنَّ قلبّهُ يأنسُ بالله، يُحسُّ أنَهُ قريبٌ من اللهِ عزّ وجل، هذه علامة، فإذا شعرتَ بأنك بحاجة ماسّة إلى أن تلتقي مع الناس، وليس في إمكانك أن تجلس ساعةً لوحدِك، لابُدَّ من أن تلتقي مع الناس، ولابُدَّ من أن تجتمعَ بِهم، ولابُدَّ من أن تستمع إلى كذا وكذا، ولابُدَّ من أن تقرأ، ولا يوجد عندك إمكان إطلاقاً أن تخلوَ بنفسِكَ مع الله عزّ وجل، فهذهِ علامةُ عدمِ معرفةِ اللهِ عزّ وجل.
علامة خامسة، قال: من كانَ باللهِ أعرف كانَ لهُ أخوف، أحياناً تُلاحظ عدادين، المؤشران يتحركانِ معاً، إذا ممكن أن يكون لمعرفة اللهِ مؤشّر وللخوفِ منهُ مؤشّر، يجب أن توقن أنَّ مؤشّرَ معرفة الله يتحرّكُ تماماً معَ مؤشّرِ الخوفِ منهُ، فأنتَ تخافُهُ بقدرِ ما تعرِفُهُ، وتعرِفُهُ بقدرِ ما تخافُهُ، فالإنسان العارف بالله وَرِع، لا يحتمل أن يعصي، لا يحتمل أن يُقَصّر، فإذا قصّر فهذه علامةُ ضعفِ المعرفة، لذلك قيل: لا تنظر إلى صِغرِ الذنب، ولكن انظر على من اجترأت.
الفرق بين المؤمن والمنافق:
غير المؤمن المنافق، المعصيّة هينّة عليه، يقول لكَ: ماذا حصل؟ الله غفور رحيم، كلمة ماذا حصل دليل استخفاف بالمعصيّة، أمّا المؤمن:
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام قالَ لهُ الله: قُل لهم:
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)﴾
كُلما ازدادت معرِفتُك ازدادَ خوفُك، وجدت نفسك فاتك فرض صلاة، تقول: ما الذي حصل؟ الآن نصليّه قضاء، مررتَ بامرأةٍ فنظرتَ إليها، أخي والله لم نعمل شيئاً، هذهِ من اللّمم، كُلما شعرت أنك أنت أمرُ اللهِ عز وجل لا توّقرهُ كما ينبغي فهذهِ علامة أنكَ لا تعرِفُ اللهَ كما ينبغي، إن لم توقّر أمرَ اللهِ عزّ وجل فأنتَ لا تعرِفُهُ، هذهِ علامة، البُكاء علامة، السكينة علامة، الأُنس علامة، الخوف من الله عزّ وجل علامة.
هذهِ العلامة مُدعّمة بآية قرآنية، من يذكرها؟ قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾
أنتَ تخشاهُ بقدرِ ما تعرِفُهُ، كُلما ازدادَ عِلمُكَ بهِ ازددتَ خشيةً لهُ، يوجد حديث دقيق، قالَ عليهِ الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». ))
لذلك تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم كانَ إذا حضرت الصلاة أي دَخَلَ وقتُها فكأنَهُ لا يعرِفُنا ولا نعرِفُهُ، لهيبة الصلاة، أحياناً الإنسان المؤمن أو المُسلم في هذهِ العصور بغرفة الجلوس، وزوجتهُ تتكلم، والمذياع مفتوح، وأولادهُ يصيحون، وهوَ يُصلي، وجالس وسامع كُلّ شيء، يُتابع حديث زوجته مع أختها بالهاتف، وهوَ يُصلّي، أين كانَ إذا حضرت الصلاة فكأنهُ لا يعرِفُنا ولا نعرِفُهُ؟ غاب عن الواقع المادي، غاب عن أهله، كُلما ازدادت خشيتُك دلّت هذه الخشية على عِظَمِ معرِفَتِك، وكُلما قلّت خشيتُك دلّت هذهِ الخشيةُ الضعيفة على ضعفِ معرِفَتِك، هذه علامة.
7-من عرف اللهَ تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها:
أمّا يوجد علامة دقيقة، أنا أطلب منكم أن تفسروها لي، قال: من عَرَفَ اللهَ تعالى ضاقت عليهِ الدُّنيا بسَعَتِها، ومن عَرَفَ اللهَ تعالى اتّسعَ عليهِ كُلُّ ضيق، فيبدو أن هناك تناقضاً، من عَرَفَ اللهَ تعالى ضاقت عليهِ الدُّنيا بسَعَتِها، ومن عَرَفَ اللهَ تعالى اتّسعَ عليهِ كُلُّ ضيق، كيفَ نجمعُ بينهُما؟ ضاقت عليه الدُّنيا بِما رحُبت، من عَرَفَ اللهَ تعالى ضاقت عليهِ الدُّنيا بما رحبت، ومن عَرَفَ اللهَ تعالى اتّسعَ عليهِ كُلُّ ضيق، يوجد تفسير دقيق، لو أنَّ إنساناً أجلسوهُ في مكان جميل، أمامُهُ مئات الكيلومترات من الفلا، مقصف جميل في قمة جبل، أمامهُ الأشجار الخضراء، ثمَّ البحر، لكن المكان فيهِ معصية، هذا المكان الجميل، الطليق، الواسع، يضيقُ عليهِ حتى يختنقُ بِهِ، فإذا دخلَ إلى مسجدٍ صغير، ممتلئ بالمُصلّين، لكنهُ بيت اللهِ عزّ وجل، هذا المكان الضيّق يتسعُ بهِ.
قد يكون بيتُهُ صغيراً، غرفتان، لكن لأنهُ بيتهُ لا يوجد معصية، لا يوجد شيء مُحرّم، لا يوجد اختلاط، يدخل إلى بيته، غرفة صغيرة، النبي الكريم كانَ إذا أرادَ صلاة الليل ترفعُ السيدةُ عائشةُ رجليها، لأنَّ غرفتَهُ لِصِغَرِها لا تكفي لصلاتِهِ ونومِها، والنبي ماذا قالَ اللهُ عنهُ؟ قال:
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾
وأحياناً تجد شخصاً يُحلّق على ارتفاع أربعين ألف قدم يُشاهد الدُّنيا، وإنسان ركب مركبة فضائية، رأى الأرضَ بكاملها من القمر، أي بمكان واسع طليق، فأيُّ مكانٍ جَمَعَك مع معصيةٍ للهِ عزّ وجل يضيقُ عليك حتى تكاد تختنق، وأيُّ مكانٍ ضيّقٍ إذا جَمَعَكَ بمن تُحِب فهوَ مكانٌ واسع، لذلك قالَ الشاعر:
رَحبُ الفلاة معَ الأعداءِ ضيّقةٌ سمُّ الخِياطِ مع الإخوانِ ميدانُ
[ الأصمعي ]
أي الفلاة على اتساعِها إذا جَمَعتكَ بعدوٍ فهيَ ضيّقة، وسمُّ الخياط على صِغَرِهِ إذا جَمَعَكَ بحبيبٍ فهوَ ميدانٌ واسع، هذه علامة.
8-من عرف الله صفا له العيش:
قال: من عَرَفَ الله تعالى صفا لهُ العيش، صدقوني أحياناً أسأل أخاً، وأنا والله أظنُهُ مؤمناً، كيف الحال؟ يقول: الحمدُ لله، يقولُها من أعماقِ أعماقه، أنا أشعر أنهُ حينما اصطلحَ مع اللهَ عزّ وجل أكرَمَهُ الله بسكينة، أكرَمَهُ الله بِوِفاقٍ زوجيّ، أكرَمَهُ اللهُ عزّ وجل بِرِضا عن الله، أكرَمَهُ اللهَ عزّ وجل بِحالٍ طيّب، أكرَمَهُ اللهُ بالشوقِ إليه، أكرَمَهُ الله بحُبِهِ، بُحِبِّ رسولِهِ، بُحبِّ المؤمنين، تجد بالتعبير الدارج معنوياته عالية جداً، تجد واقِعهُ خَشِن، بيتُهُ بالأُجرة أو لا يملِكُ بيتاً، لِباسُهُ متواضع، وظيفتُهُ صغيرة، دخلُهُ قليل، تجلس معهُ فتجدهُ شيئاً عظيماً، معنويات مرتفعة جدّا، واثِقٌ من اللهِ عزّ وجل، مطمئنٌ لقضائهِ، راضٍ بِما قَسَمَهُ لَهُ، لهُ رِسالة بالحياة، همّهُ الأول أن يعرِفَ الله، همّهُ الثاني أن يدعوَ إلى الله، إذاً من أينَ هذهِ المعنويات؟ من أينَ هذهِ النفس المُنتشيّة؟ النفس الواثقة؟ النفس المُطمئنة؟ قال تعالى:
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)﴾
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
يُطمئنهم، ﴿لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا﴾ تجد المؤمن واثقاً من رِضاء الله، واثقاً من نصرِهِ، من تأييدهِ، من حِفظِهِ، من إكرامِهِ، من إسعادِهِ، ليسَ عِندَهُ همّ، لماذا ليسَ عِندَهُ همّ؟ لأنهُ جعلَ الهمومَ همّاً واحداً فكفاهُ اللهُ الهمومَ كُلّها، لأنهُ عَمِلَ لوجهٍ واحد فكفاهُ الله الوجوهَ كُلّها، فقال: من علامة العارف بالله أنهُ يصفو لهُ العيش، صفا لهُ العيش فطابت لهُ الحياة، وهابَهُ كُلُّ شيء، وذهبَ عنهُ خوفُ المخلوقين.
يا إخوان؛ نصيحة لوجه الله، إذا خِفتَ المخلوقين تُضطر أن تُنافق، وتُضطر أن تتملّق، وأن تكذب، وأن تتناقض، وأن تكونَ صغيراً في أعيُنِهم، أي أكبر مصيبة يُصاب بِها الإنسان أن يُلقي اللهُ في قلبِهِ خوفَ المخلوقين، يحتار من يُرضي، إن أرضى زيداً يغضب عُبيد، يتوسل لفُلان، يتذلل لفُلان، يُقبّل رِجل فُلان، يتمسّح بأعتاب فُلان، يبذل ماء وجهه لِفُلان، يتضعضع لِفُلان، هذهِ علامةُ الذي لا يعرِفُ الله، أمّا الذي يعرِفُ الله فاللهُ يُعطيه عِزّة، لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذلّ نفسَه، من جلسَ إلى غنيٍ فتضعضعَ لهُ ذَهَبَ ثُلثا دينه، ابتغوا الحوائج بِعزّة الأنفس فإنَّ الأمورَ تجري بالمقادير، قال تعالى:
﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)﴾
اجعل لِربِكَ كُلَّ عِزِّكَ يستقّرُ ويثبُتُ فإذا اعتززتَ بمن يموتُ فإنَّ عِزّكَ ميتُ
مؤمن أولاً يذهبُ عنكَ خوفُ المخلوقين، لا تخف من المخلوقين، لأن هذا المخلوق قد يكون كالوحش، لكنهُ مربوط بِزمامٍ مُحكم بيدِ اللهِ عزّ وجل، فأنتَ علاقتُكَ معَ الله، هذا ما قالَهُ سيدنا هود:
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
قال: من عَرَفَ اللهَ تعالى صفا لهُ العيش، فطابت لهُ الحياة، وهابَهُ كُلُ شيء، وذهبَ عنهُ خوفُ المخلوقين، وأَنِسَ بالله، أحياناً تدخل مكتب إنسان، لهُ مركز كبير، يقول لكَ: اصرخ على المستخدم ليُحضر القهوة، مستخدم، من هاب الله هابَهُ كلُ شيء، ومن لم يَهَب الله أهابَهُ اللهُ من كُلِّ شيء، ذهبَ عنهُ خوفُ المخلوقين وأَنِسَ بالله.
9-من عرف الله قرت عينه بالله:
قالَ: من عَرَفَ اللهَ عزّ وجل قرّت عينُهُ بالله، أنا أدعو دعاء أحياناً أقول: يا ربي كما أقررتَ أعيُنَ أهلِ الدُّنيا بدُنياهُم، أحياناً تجلس مع شخص، يقول لكَ: أنا اشتريت البيت منذ زمن بثمانية عشر ألف، والآن والله لا أبيعهُ بثمانية ملايين، مئتان وثمانون متر، والله شيء جميل، انظر للواجهة، للشُّرف، معهُ السطح، هذا الإنسان قرير العين بهذا البيت، هذا عندَهُ مزرعة، هذا عِندَهُ معمل، هذا عِندَهُ سيارة، يقول لكَ: اشتريتها بثلاثة عشر مليون، والله حرام أن تضعها في الطريق، شيء يخيف أن تبقى في الطريق، أقول لهُ: يا ربي كما أقررتَ أعيُنَ أهلِ الدُّنيا من دُنياهُم فأقرر أعيُننا من رِضوانِك، أحياناً الإنسان يَحُج، الله يجبر خاطره، يُحسّ حاله مقبولاً عِندَ الله عز وجل، يُحسّ أنَّ الله قد غَفَرَ لهُ، الله تاب عليه، الله قَبِلَهُ، تجدهُ قرير العين، يوجد عِندهُ مئة مشكلة في حياتِهِ، ما دامَ اللهُ قد أقرَّ عينَهُ فهوَ بهِ قرير.
10-من عرف الله قرّت عينُهُ بالموت:
قال: من علامة معِرفةِ الله عزّ وجل أنهُ من عَرَفَ الله قرّت عينُهُ بالله، وقرّت عينُهُ بالموت، الموت عِندَهُ-وهذا كلام قد يبدو لكم صعباً-الموت عنده عرس، الموت عنده بداية الإشراق، بداية العطاء، بداية الإكرام، الموت عنده بداية الجنّة، الموت عِندهُ نهاية المتاعب، كُل الحياة تكليف، هذهِ حرام، هذهِ لا تجوز، مؤمن هل يستطيع أن يأخذ حُريّتهُ؟ إذا أحب أن يمشي بالطريق هل يستطيع أن يأخذ حريته وينظر؟ تجد الناس يملؤون أعينهم من الحرام.
هناك إنسان أنا لا أعرفه شخصياً أعرف قصته، لي صديق يسكن في أحد أحياء دمشق، ولَهُ جار، هذا الجار عِندَهُ خمس بنات متزوجات، ولَهُ شباب، لَهُ هِواية بسيطة جدّاً، يركب السيارة العامّة من المزّة إلى المرجة، وينتقل بطريق الصالحية بأيام الصيف قبلَ المغرب بساعة، يتنقّل فيهِ ذهاباً وإياباً، لا يفعلُ شيئاً إلا أنهُ يملأُ عينيهِ مما حرّمَ الله، يستمتع بهذه النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، فهذا جارُهُ صديقي، نصَحَهُ، يا أخي أنتَ عُمرُكَ خمسون سنة، خمس وأربعون، عِندك بنات متزوجات، أنتَ أب ستُصبح جداً، هذه لا تُناسب، قالَ لهُ: هذه لا يوجد فيها شيء، أنا لا أعمل شيئاً، هكذا أُحب، إلى أن أُصيب بمرض ارتخاء الجفون، أنا المرض لا أعرِفُهُ والله سابقاً، ارتخاء الجفون، فالإنسان دائماً مُغمض العينين، فإذا أراد أن يرى أحداً يمسك جفنهُ بيدهُ ويرفعهُ، ما دامَ يرفعهُ يرى، فإذا تركَهُ نَزَل من جنس المعصية.
من عَرَفَ الله قرّت عينُهُ بالله، وقرّت عينُهُ بالموت، الموت عنده لا يخيفه، لي صديق طبيب، يتكلم لي عن قِصص كيفَ يزور مرضى على وشك الموت، يقول لي: مثل الطفل، ضعيف، يرتجف، سأموت، طبعاً ستموت، ليسَ مستعدّاً لهُ، قالَ لي: مرةَ زرَنا شخصاً، أنجزَ بيتاً لا يوصف بجماله، التزيينات، الجبصين، الأقواس، الشُّرف، يظهر أنَّ مرضَهُ خطير، وهو في ريعان الشباب، وزوجتهُ شابّة، فقالَ لصديقهِ: أخشى أن أموت وتتزوج زوجتي غيري، تأتي به ليسكن معها في هذا البيت الذي شقيت ببنائه، ويستمتع هو بما لم يتعب بإنجازه، هذا وضعه.
11-من عرف الله قرت به كل عين:
قال: من عَرَفَ الله قرّت عينُهُ بالله، وقرّت عينُهُ بالموت، والأغرب من ذلك، وقرّت بهِ كُلُّ عين، صار هوَ مصدر سعادة، مصدر إيناس، تجلس مع شخص يكون عظيماً بمقياس الدُّنيا، يقول لكَ: هذا حجمُهُ كذا مليون، تشرفنا، يأكل وقية لحمة، ينام على سرير واحد، يلبس بذلة واحدة، تجلس مع إنسان آخر بمقياس الدُنيا عظيم لا يُحرّك فيك شعرة، تجلس مع أحد أولياء الله، تجد نفسك مُستغرقاً في مُتعة بالغة، مستأنساً، تتمنى أن تبقى معهُ دائماً، فهذه العارِفُ بالله قرّت عينُهُ بالله، وقرّت عينُهُ بالموت، وقرّت بهِ كُلُّ عين.
علامةُ أولياء الله أنهم إذا رُؤوا ذُكِرَ اللهُ بِهم، وأنتَ عندما تكون مع الله دائماً، أحياناً تمشي في الطريق يلمحُكَ شخص مُقصّر فيتوب عندما يُشاهِدُكَ، يقول لكَ: ذكرّتني بالله والله، فالمؤمن كُلما ارتقى يُصبح وجودُهُ نورانياً، وجودُهُ رحمانياً، وجودُهُ مُسعِداً، وجودُهُ مؤنساً، تقرُّ بهِ العيون، كان سيدنا ربيعة خادِمَ رسولِ الله، فحينما تنتهي خِدمتهُ بعدَ العِشاء يصرِفُهُ النبي ، يبقى نائماً على عتبةِ بيت النبي، لِشدّةِ أُنسِهِ بالنبي، ما هذا؟ فأنتَ يا ترى هل لكَ عِندَ الله مرتبة الناس يأنسون بِكَ؟ يتمنون أن يبقوا إلى جانِبِكَ؟ يَسعَدون بِلِقائِك؟ أمّا أهل الدُّنيا، اجلس مع شخص من أهل الدنيا يُحدّثُكَ عن أمواله، عن أرباحُهُ، عن بيتهِ، عن أولادِهِ، عن رحلاتِهِ، عن موائده، ماذا يهمُني أنا من أمرُك؟ هناك شخص يدعو إلى التقزز بكلامه، أما المؤمن يُحدّثُك عن ربِهِ، إن كان الحديث دنيوياً صار هناك ضيق، أُخرَوي صار هناك سرور.
من لم يعرِف الله تقطّع قلبُهُ على الدُّنيا حَسَرات:
قال: ومن لم يعرِف الله تقطّع قلبُهُ على الدُّنيا حَسَرات، يقول لكَ: محروق قلبي، على ماذا؟ هذا البيت لم تنجح بيعتُهُ معي، طبعاً، فُلانة لم يتزوجها بعد أن خَطَبَها رُفِض، هذا الذي رُفِض قتل سبعة، كم في قلبِهِ من الحُرقة؟ من الألم؟
12-من عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه:
قال: ومن لم يعرِف الله تقطّع قلبُهُ على الدُّنيا حَسَرات، ومن عَرَفَ الله لم يبقَ لهُ رغبةٌ فيما سِواه، شخص أحبّ أن يستفزّ سيدنا الصِدّيق، يظهر أنهُ قد سأل سيدنا عُمر بقضية فأعطاه جواباً قاسياً، وسيدنا الصدّيق أوكل لِعُمر هذهِ المُهمّة، فلما رأى هذا الجواب القاسي جاءَ لسيدنا الصديّق يستفزّهُ، قالَ لهُ: الخليفةُ أنتَ أم هوَ؟ قالَ: هوَ إذا شاء، إذا أراد هو أن يكون خليفة لا يوجد مانع، أنا لا يوجد عندي مانع، انظر لهذه السماحة، هذا الهدوء، قالَ لهُ: الخليفةُ أنتَ أم هوَ؟ قالَ: هوَ إذا شاء، مثلما يريد، أنا معه، أخي هوَ، المؤمن ليسَ عِندَهُ هذا الحِرص على الدُّنيا.
قال: ومن عَرَفَ اللهَ لم يبق لَهُ رغبةٌ فيما سِواه، ومن ادّعى معرِفةَ اللهِ وهوَ راغِبٌ في غيرِهِ كذّبت رغبتُهُ معرِفَتَهُ، يقولون: إنَّ الحجاج وقف أمام بائع، رآهُ يُصلّي قاعداً، بائع قدور، دُكانُهُ عالية جداً، وكُلُّها رفوف إلى السقف، ويوجد سُلّم، فرآهُ يُصلّي قاعِداً، وقد تبيّن أنهُ ليسَ بهِ شيء، فقالَ لَهُ: أُريد هذا القِدر، على عيني، وضع السُّلّم وأنزلَهُ، فقالَ لَهُ: ليسَ بهذا بل ذاك، فنزل ووضعهُ وأحضرَهُ لَهُ، لا أُريد ذلك الأكبر، لا الأصغر، فأبقاهُ يصعد وينزل السُّلّم حوالي خمس وعشرين مرّة، ثمّ علاه بالدرة، أتُصلي قاعداً وعِندَكَ هَمّة عالية للبيع والشِراء؟
من يومين قالَ لي أحدهم وهوَ قد درسَ ببلد غربي، قالَ لي: أنا يوجد عِندي فِكرة، لم يُجبني أحد عليها، قُلت لَهُ: تفضل، قالَ لي: أتباع الديانات عشرة بالمئة فقط يُبدّلونَ دينَهم، والباقون على دينِ آبائِهم، معناها موضوع الدين ليسَ باختيارك، هذا بوذي، كان ابنُهُ بوذياً، هذا نصراني، هذا مُسلم، فالدين ليسَ قضيّة اختيار، فما جوابُك؟ أنا أعرف أنَّ لَهُ نمطاً حديثاً في حياتِهِ، والِدهُ جالِس بجانِبهِ، قُلتُ لَهُ: أنتَ غيّرت نمط حياتَك؟ قالَ لي: طبعاً، ها أنتَ قد غيّرت، لأنَّ الدُّنيا مهمّة جداً، فغيّرت كُل نمط حياتك، بيت، وعَمِلت أقواساً، وألغيت كُل الأبواب من البيت، لماذا لم تتبع أسلوب والِدكَ بالحياة؟ أليسَ كذلك؟ الإنسان يُغير أحياناً، لو أنَّ الآخِرةَ غاليةٌ على الإنسان لَبَحثَ عن الحقيقة فيها، أمّا لأنَّ الدُّنيا هيَ الغالية فكُل ابن لَهُ طريق بالحياة غير طريق والِدِهِ، معناها الإنسان حُر ويُغير.
13-من عرف الله أحبه على قدر معرفته به:
قال: ومن عَرَفَ اللهَ أحّبَهُ على قدرِ معرِفتِهِ بِهِ، هذه نقطة مهمّة، ثبّت المعرفة بحجمها خوف، بحجمها خشية، بحجمها حُب، بحجمها إخلاص، بحجمها إقبال، بحجمها ورع، من عَرَفَ اللهَ أحّبَهُ على قدرِ معرِفتِهِ بِهِ، وخافَهُ، ورجاهُ، وتوكّل عليه، وأنابَ إليه، ولَهَجَ بِذكرِهِ، واشتاقَ إلى لِقائِهِ، واستحيا مِنهُ، وأجلّهُ، وعظّمَهُ على قدرِ معرِفتهِ بِهِ، من عَرَفَ الله لم يبقَ لهُ رغبةٌ فيما سِواه، ومن عَرَفَ اللهَ أحّبَهُ على قدرِ معرِفتِهِ بِهِ.
14- من علامات المعرِفة أن تفنى الشواهد وأن تنحل العلائق وتنقطع العوائق:
من علامات المعرِفة أن تفنى الشواهد، وأن تنحلَّ العلائق، وتنقطِعَ العوائق، أحياناً تجد شخصاً يؤثر استقبال ضيف على مجلس عِلم، علاقاتُهُ مع هذا الضيف متينة جداً، فإذا كان زارهُ هذا الضيف يُضحّي من أجلِهِ بصلاة، يُضحّي من أجلِهِ بمجلس عِلم، معناها عِندُهُ عوائق وعِندُهُ علائق، والعلائق عوائق، أنا أعرف تُجّاراً يُصلّون في المساجد، إذا جاءهم مندوب شركة هم وكلاؤها، وطلب مشروباً يُضيّفونهُ مشروباً، هُم لا يشربون، ما هذا؟ أينَ صلاتُك؟ أعرِف تُجّاراً لهم مظهر ديني، وعاطفتهم إسلاميّة، من أجل ترويج بِضاعتِهم يُعلنون عنها بأجهزة اللهو من خلالِ نساءٍ كاسيات عاريات، أينَ الدين؟ فلان ممتاز جداً، صاحب دين، صاحب دين وتُروّج بِضاعَتُكَ بمعصية الله عزّ وجل!! العلائق عوائق.
أكثر علاقة مع الزوجة، صحابي جليل سألتُهُ زوجتُهُ شيئاً من الدُّنيا، فقالَ: اعلمي يا فُلانة أنَّ في الجنّةِ من الحورِ العِين ما لو أطلّت إحداهُنَّ على الأرض لَغَلَبَ نورُ وجهِها ضوءَ الشمسِ والقمر، فلأن أُضحي بِكِ من أجلِهن أهوَنُ من أُضحي بِهنَّ من أجلِكِ.
الأُم، قالت لهُ: يا سعد! إمّا أن تكفُر بمُحمد وإمّا أن أضعَ الطعامَ حتى أموت، قالَ: يا أُمي، لو أنَّ لكِ مئة نفسٍ، فخرجت واحدةً واحدةً ما كفرتُ بمحمد، فكُلي إن شِئتِ أو لا تأكُلي، أكلت بعد ذلك.
سيدنا النبي اللهمَّ صلّ عليه: أتُحّبُ أن تكونَ أغنانا؟ لكَ ذلك، أن تكون سيدّنا؟ لكَ ذلك، أن تتزوج أجمل فتاة؟ لكَ ذلك، قالَ له: واللهِ يا عمي! لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شِمالي على أن أدعَ هذا الأمرَ ما تركتُهُ حتى يُظهِرَهُ اللهُ أو أهلِكَ دونَهُ، هذا المؤمن، الزوجة على العين والرأس ما دامت في طاعة الله، فإذا أمرَتكَ بمعصية فلا كانت ولا كانَ أمرُها، الأُم على العين والرأس، أم، فإذا أَمرتكَ بمعصية لا غضبَ لها، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
15-ألا يطالب ولا يخاصم ولا يعاتب:
من علامة العارِفِ بالله أنَهُ لا يُطالب ولا يُخاصم ولا يُعاتب، تُلاحظ بعض الأشخاص إذا لم يزرهُ شخص بالعيد، يعمل منها قِصّة، يتكلّمُ بها مئة مرة، يقول: أنا ذو فضل عليه، وعليه أن يزورني، كل هذا مهتم أنت؟ اهتم بالله عزّ وجل، تجد المؤمن كُلما عَلا إيمانُهُ بَعُدَ عن سفاسف الأمور، وكُلما قلّ إيمانُه يتعلّق بسفاسف الأمور.
في عقد قران وضعوه بمكان لا يليق بمكانهُ، يبقى شهراً منزعجاً، وضعوه في الصف الثاني وهوَ أوجه شخص في الأسرة، كانَ أول مكان ممتلئاً، لا يقبل عُذراً، ماذا قال النبي الكريم؟
(( عن الحسين بن علي بن أبي طالب: إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها. ))
[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
اللهمَّ صلِّ عليه دخل عليهِ أعرابي، لم يعرفهُ من بين أصحابه، فقال: أيّكُم مُحمد؟ أينَ كانَ يجلسُ سيدنا رسول الله؟ كانَ لهُ مجلس فخم؟ هذا دليل قطعي على أنه كانَ يجلِسُ بينَ أصحابِهِ وكأنهُ واحدٌ منهم، دليل قطعي حتى اضطُّر هذا الأعرابي أن يقول: أيُّكم محمد؟ من محمد منكم؟ قالَ لهُ: قد أصبت، لا يُطالب ولا يُخاصم ولا يُعاتب، ولا يرى على أحدٍ لهُ فضلاً، هذهِ كلمة لحمكَ من خيري، أكتافُكَ من خيري، لولا وجودي لم تُصبح رجلاً، هذا كُلُّهُ كلام الجهل، الفضل لله عزّ وجل، لي فضل عليك، أنا قد ربيّتُك، لا تعرف قيمتي، هذا كُلُّهُ كلام فارغ، انظر فضل الله على الجميع.
16-لا يرى على أحد له فضلاً ولا يرى على أحد له حقاً:
قال: لا يرى على أحدٍ لَهُ فضلاً ولا يرى على أحدٍ لهُ حقاً، أحضرَ لَهُ هديّة، ما ثمن هذهِ الهدية بالسوق؟ استفسر عنها، ما لكَ ولثمنُها؟ ليس لك عنده شيء أحضرَ لكَ هدية، يجب أن يعرف ثمنها هل يرى أنه أحضر له شيئاً يليق بمقامه أم لا يليق بمقامه، انظر لهذهِ الساعة أصلية أم صنع تايوان؟ يُريد أن يعرف قيمتها، هذا ليسَ من أخلاق المؤمن.
17-الذي يعرف الله لا يأسف على فائت ولا يفرح بآت:
من علامة معرفة اللهِ أنَّ الذي يعرِفُ اللهَ لا يأسَفُ على فائت ولا يفرحُ بآتٍ، لأنهُ ينظرُ إلى الأشياءِ بعين الفناءِ والزوال، فهيَ في الحقيقةِ كالظلال.
18-يخرج العارف بالله من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين بكاؤه على نفسه وثناؤه على:
من علامة معرفة اللهِ كما قال يحيى بن مُعاد: يخرُجُ العارِفُ باللهِ من الدُّنيا ولم يقض وَطَرَهُ من شيئين، يوجد شيئان لم ينته منهم؛ بُكاؤه على نفسِهِ وثناؤهُ على ربهِ، دائماً مُتهم نفسهُ ويُثني على ربه، سِمتانِ أساسيّتان للعارِفِ بالله.
19- من عَرَفَ اللهَ يستأنس بربه ويستوحش بمن يقطعه عنه:
من علامةِ من عَرَفَ اللهَ عزّ وجل أنهُ يستأنِسُ بربّهِ ويستوحِشُ ممن يقطعهُ عنه، كُل واحد يُقرّبُكَ من الله تُحبُهُ، كُل واحد دنيوي زائغ الإيمان، عِندَهُ شُبُهات تكرَهُهُ، تكره مجالستهُ، زيارتهُ، العلاقة معهُ، لذلك قيل: العارِفُ من أنِسَ بالله فأوحشَهُ من الخلق، وافتقرَ إلى اللهِ فأغناهُ عنهم، وذلَّ للهِ فأعزهُ فيهم، وتواضعَ للهِ فرَفَعَهُ بينهم، واستغنى باللهِ فأحوجَهم إليه، جميلة جداً.
20-مجالسة العارف بالله تنقلك من ستة أحوال إلى ستة أحوال:
آخر شيء قيل: مجالسة العارف بالله تنقُلُكَ من سِتٍ إلى سِت، من ستة أحوال إلى ستة أحوال، من الشكِّ إلى اليقين، من الرياءِ إلى الإخلاص، من الغفلةِ إلى الذِّكر، من الرغبةِ في الدُّنيا إلى الرغبةِ في الآخرة، من الكِبرِ إلى التواضع، من سوءِ الطويّةِ إلى النصيحة.
هذهِ كُلُّها علامات معرفة بالله، فالإنسان لا يَغشُّ نفسِهِ ولا يُغَشّ بغيرُهُ، هذهِ علامات دقيقة جدّاً، فلتكن هذهِ العلامات مؤشرات لنا أو أهدافاً لنا.
الملف مدقق