وضع داكن
22-08-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 087 - الدهشة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الدهشة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والثمانين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الدهشة.
أولاً: هذا الموضوع ما من مؤمن على وجه الأرض إلا وله منه معاناة، ذلك أن المؤمن لمجرد أن يصطلح مع الله، ويتوب إليه، ويُقبل عليه، ويلتزم منهجه، يدخل في سعادة لا توصف، وكأن الأرض كلها لا تَسَعُهُ من شدة السعادة التي يمتلئ بها قلبه، وهذا الكلام ينطبق على كل مؤمن، تعرّف إلى الله، واصطلح معه، وتاب إليه، وأقبل عليه، هذه المنزلة منزلة الدهشة.
 

أمثلة عن منزلة الدهشة:


لأُقرّب لكم هذه المنزلة، إنسان يكون في حالة برد شديد، يكاد عظمه يتصدّع من شدة البرد، فإذا دخل إلى بيت فيه تدفئة راقية، خلال عشر دقائق يشعر براحة لا توصف، لكن بعد عشر دقائق يألف هذا الجو الدافئ، الجو الدافئ هو هو لن يتغير، لكنه أَلِفَ هذا الجوَّ، فإذا توهم أن هذه السعادة التي حصّلها حينما دخل هذا البيت فُقدت فهو واهمٌ، لكن تأثيرها فيه ضَعُف، يقول سيدنا الصّدّيق: بكينا حتى جفت مآقينا.
فكل واحد له مع الله شهر عسل، في أول الأيام ساعات الإقبال، ساعات التوبة، ساعات الإنابة، ساعات الدخول إلى عالم الإيمان، ساعات الطهارة، أي إنسان تاب إلى الله يقول: أنا بقيت عمراً مديداً أدخل بيتي بعد صلاة الفجر عائدًا من الملاهي، في أول ليلة تاب فيها إلى الله استيقظ قبل صلاة الفجر، وكأن الدنيا كلها لا تسعه من شدة الفرح.
أقول لك كلمة صريحة: إن لم تشعر بهذا الفرح الذي لا يوصف لأنك أصبحت عبدًا منيبًا لله، عبدًا طائعًا له، لأنك اصطلحت مع خالقك، لأنك أقبلت عليه، لأنك أخلصت له، إن لم تقل: أنا أسعد الناس قاطبة، أو إن لم تقل: أنا أسعد الناس إلا أن يكون أحدهم أتقى مني، فهذا ضعف في الإيمان، لكن هذه المرحلة لا تستمر.
لنضرب مثلاً آخر: إنسان خطب فتاة، شاب مستقيم بعيد عن كل معصية، وكل انحراف، أيام الخطبة يقول لك: أنا أعيش في الجنة، يجلس معها ساعات طويلة، وهو في غاية الشوق، قد يكلمها لست ساعات على الهاتف، طبعاً بعد سنتين يأتي من عمله متعباً، لا تستطيع أن تكلمه كلمة، أين الساعات الستة على الهاتف؟ الزوجة هي هي، شكلها هو هو، أخلاقها هي هي، لكن ألِفَها، دخل فاندهش، لكل داخل دهشة، ولك مع الله دهشة، لكن الله عز وجل لو أبقاك في هذه الدهشة بشكل مستمر لا تعمل، تجلس، لأنك سعيد، لكن الله عز وجل لحكمة بالغة يحجب عنك هذه الأحوال، من أجل أن تقوم، وأن تسعى إلى الله عز وجل.

  من أراد أن يشعر أنه بعين الله فليكن عمله صالحاً:


شيء آخر، الإنسان بأي لحظة يستطيع أن يستعيد أيام شبابه الروحي مع الله، لأنه:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[ سورة الكهف ]

أي آيةٌ واللهِ لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفت، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ في الدنيا، أن تتصل به، أن تُقبل عليه، أن تلوذ بحماه، أن تشعر أن الله يحبك، وأنك بعين الله عز وجل، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ فليكن عمله صالحاً، فليكن بخدمة الخلق.
 

العطاء سمة أساسية في حياة المؤمن:


مرة سمعت مناجاة فاهتزَّ لها قلبي، يا ربي لا يحلو الليل إلا بمناجاتك، ولا يحلو النهار إلا بخدمة عبادك، تجد المؤمن قد بنى حياته على العطاء، يعطي من ماله، من وقته، من علمه، من خبرته، من جاهه، من مكانته، من إتقانه لبعض الحرف، يعطي، هو يعطي من أجل أن يرضى الله عنه، بنى حياته على العطاء، العطاء سمة أساسية في حياة المؤمن.
أنت أسال نفسك سؤالاً: ماذا أعطيت؟ ماذا قدمت لله عز وجل؟ ماذا قدمت للمسلمين؟ ماذا فعلت من فِعل تلقى الله به ناصع الجبين مستنير الوجه؟ اسأل نفسك كل يوم، لأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، فالمؤمن بنى حياته على العطاء، والكافر بنى حياته على الأخذ، لذلك الأنبياء أعطوا كل شيء ولم يأخذوا شيئاً، والأقوياء أخذوا كل شيء ولم يعطوا شيئاً، والناس جميعاً أتباع قوي أو نبي، الأنبياء ملكوا القلوب بكمالهم، والأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم، وكل واحد من البشر تابع لقوي أو لنبي، فإن كان تابعاً لقوي سلاحُه قوَّتُه، يقهر بها الناس، ويبتزُّ بها أموالهم، وإن كان سلاحُه كماله يملك قلوب الناس، المؤمن سلاحُه الكمالُ، الكافر سلاحه القوة، المؤمن يملك القلوب، الكافر يملك الرقاب، بالبر يُستعبد الحر.
 

الإيمانُ يُبنى على العطاء والإحسان ثمن الجنة:


قال تعالى: 

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)﴾

[ سورة الليل ]

أعطى؛ أعطى بشكل مطلق، وفي علم الأصول: الفعل إذا غاب مفعوله أُطلق مدلوله، أعطى ماذا؟ أعطى كل شيء، ولا يوجد إنسان على وجه الأرض ليس عنده ميزة، يقول الطبيب: أنا يمكن أن أعالج بعض المرضى الفقراء مجاناً لوجه الله، ويقول المحامي: أنا يمكن أن أدافع عن إنسان فقير لا يملك أجور المرافعة لوجه الله، ويقول إنسان معلم: أنا يمكن أن أُعلِّم طالباً فقيراً لوجه الله، ومرة قال لي طبيب أسنان: جاءتني مريضة تعمل في حقل التعليم، ومُقدَّمة أسنانها تالفة، فمظهر فمها حينما تبتسم أو حينما تتكلم منظر غير مريح، وطالباتها لعلهنَّ يضحكنَ إذا انفرجت شفتاها، فجاءته لتصلح أسنانها، المبلغ فوق طاقتها فاعتذرت، قال لي: أردت أن أقوم بهذا العمل لوجه الله، قال لها: لا عليك من الأجرة تعالي، قال لي: بقيت شهرين أو ثلاثة أصلح لها أسنانها، يقول هذا الطبيب: والله شعرت بسعادة لا توصف، لأن هذا العمل خالص لوجه الله، هكذا قال الله عز وجل: 

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)﴾

[ سورة الإنسان ]

فأنت دقق علامَ تبني إيمانك؟ الإيمانُ يُبنى على العطاء، والكفرُ يُبنَى على الأخذ، هذا يذكِّرني أن النملة-كما قرأت عنها-فيها جهاز ضخ وفيها جهاز مصّ، فإن التقت النملة الشبعى نملًة جائعًة تعطيها من عصارة هضمها عن طريق جهاز الضخ، وإن كانت جائعةً تأخذ من رحيق أختها عن طريق جهاز المص، قلت: الناس رجلان؛ رجـل يستخدم جهاز المص دائماً، ورجل يستخدم جهاز الضخ دائماً، المؤمن يضخ دائماً والكافر يمص، يقول لك: مصَّ دمِي.
أحيانا الإنسان يبتزُّك، يجعلك بقرة حلوباً، وهو لم يقدم لك شيئاً، لكنه ابنزّ مالك، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾ ومع إعطائه اتقى أن يعصي الله، أعطى واتقى، لكن هذا العطاء وهذه التقوى مبنيان على إيمان بالله، لأنه صدّق بالحسنى، صدَّق أنّ الإنسان مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، صدَّق أنّ الإنسانَ مخلوقٌ للجنَّة، وأنّ ثمنَ الجنة الإحسان، قال تعالى: 

﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)﴾

[ سورة الرحمن ]

صدّق بالحسنى، واتقى أن يعصي الله عز وجل، وأعطى من كل ما أعطاه الله، المكافـأة العاجلة في الدنيا: 

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾

[ سورة الليل ]

الأمور ميسرة، قال تعالى: 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

الأمور سهلة، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً.
 

المطابقة في القرآن الكريم:


بالمقابل:  

﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)﴾

[ سورة الليل ]

هذا يسمونه بالبلاغة: المطابقة، قال الشاعر:  

 فَتَرْفعُ بِالإِعْزَازِ مَنْ كَانَ جَاهِلاً              وَتَخْفضُ بالإِذْلاَلِ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ

[ معروف الرصافي ]

* * *

المطابقة معنيان متعاكسان؛ خير وشر، حقّ وباطل، ليل ونهار، أبيض وأسود، المعاني المتعاكسة اسمها في البلاغة: مطابقة، فإذا جاءت مجموعة معان تقابل مجموعة معان على التسلسل هذه صارت مقابلة، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ ، ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ أعطى واتقَّى واستغنى، وصدّق بالحسنى وكذب بالحسنى، هذه بالبلاغة مقابلة، الطرف الثاني بخِل أن يعطي، يستخدم جهاز المص فقط، يأخذ كل شيء ولا يعطي شيئاً، واستغنى عن طاعة الله، لم يعبأ، ذنب المنافق كالذبابة على وجهه، وذنب المؤمن كالجبل جاثم على صدره:

﴿ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)﴾

[ سورة الليل ]

لم ير إلا الدنيا مبلغ علمه، ومنتهى أمله، الآن أول عقاب له في الدنيا، قال تعالى: 

﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾

[ سورة الليل ]

اللهُ عز وجل لحكمةٍ يريدها يُسقِط الإنسانَ من علّ، أي إلى أن ينتهي عمله يسقط، انظر إلى هذا القانون: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى*وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ هو حينما بخِل، وحينما استغنى عن طاعة الله من أجلِ أن يجمعَ المالَ الوفيرَ، وحينما لم يعبأ بالآخرة فلم ينفق منه شيئاً، من أجلِ أن تنموَ ثروته، قال تعالى: 

﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)﴾

[ سورة الليل ]

فالإنسان ما جمّعه في عمر مديد يخسره في ثانية واحدة.
 

لكل مؤمن حال والعبرة أن تكون مستقيماً:


إذاً لكلِّ داخلٍ دهشةٌ، هذه الدهشةُ يذوقها كلُّ مؤمن، لكن هذه الدهشة لا تلبث أن تفتر، إنّ لكل شيء فورة، ثم هذه الفورة تهدأ، فمن هدأت فورته على طاعة الله فهنيئاً له، الإنسان يبكي بالصلاة، يبكي أثناء القراءة، لكن يأتي وقت هذه المعاني القدسية ألِفَها، والأحوال النفسية عاشها، وهو في طاعة الله دائماً، فالدهشة انتهت، فهناك أخ مثلاً يظن حينما ضعف تأثير هذا الحال عنده أنه تراجع، لذلك هذه الدهشة وهذه الفترة ذاقها سيدنا حنظلة.
النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه الصديق وحنظلة،

(( عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))

[ صحيح مسلم  ]

وهذا من أدب الصديق الرفيع، الأدب الرفيع ألا تمدح نفسك في معرِض إنسان شقي بنفسه، إنسان قال لك: والله أنا عندي ولد متعب، لا تقل: الله يرضى عن ابني لا يوجد أبرّ منه، هذا كلام مزعج، إنسان شكا لك زوجته، لا تقل: أنا لي زوجة الله يرضى عنها، لا يوجد منها، هذا نوع من التحدي، فسيدنا الصديق من كماله قال: أنا كذلك يا أخي انطلق بنا إلى رسول الله، فانطلقا إليه وحدثاه الخبر فقال عليه الصلاة والسلام: ((نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا أما أنتم يا أخي فساعة وساعة، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة، ولزارتكم في بيوتكم)) معنى هذا المؤمن هو في الدرس له حال عال، هو مع المؤمنين بمذاكرة علم له حال عالٍ، هو بصلاته، بذكره، بتلاوته له حال، أما أحياناً دخل إلى بيته، يريد أن يأكل، هذه الحال العالية غاب عنها، إذا غاب عنه حال فهذا شيء طبيعي، لأن دوام الحال من المّحال، وما سمِّي الحال حالاً إلا لأنه يحول ويتحول، العبرة أن تكون مستقيماً، والحال إن أتى فرحب به، وإن غاب عنك وأنت مستقيم فلا تتأثر، لأن الله عز وجل يُقَلبنا ذات اليمين وذات الشمال، مرة نجد في قلوبنا حالاً راقية نسعد بها، ومرة ننكر قلوبنا، العبرة أن تكون مستقيماً دائماً.  

أخطر شيء في الدين ما يطرحه العامة:


لذلك أخطر شيء في الدين ما يطرحه العامة من أن هناك ساعة لك وساعة لربك، ساعة له يعصي الله فيها، وساعة لربه يطيع الله فيها، هذا مرفوض كلياً، لكن ساعة وساعة، أي ساعة إقبال وساعة فتور، ساعة تألق وساعة عادية.
كيف في الجامعة هناك مقبول، وهناك جيد، وجيد جداً، وامتياز، وشرف، بساعة الفتور عند الله مقبول، وبساعة لربك هناك تألق وهناك إقبال، فلذلك حالة الدهشة هذه تصيب كل مؤمن في أول الطريق، لكن بعد حين ألِف الإيمان، وألِف القرآن، وألِف طاعة الواحد الديان، وألِف أن يكون مستقيماً، وألِف أن يغضّ بصره، وألِف أن يضبط لسانه، وألِف أن يحرر دخله، وألِف أن يكون إنفاقه فيما يرضي الله عز وجل، فهذه نقطة دقيقة جداً، والحقيقة ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المُطهرة إلا آية واحدة تصف حالة الدهشة، قال تعالى: 

﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾

[ سورة يوسف ]

 

الإخلاص سرّ نجاح الدعوة:


كنت عند حاج قبل أن آتي إليكم جاء من الحج فسألته عن شيء تأثّر له، قال لي: حينما رأيت الكعبة دُهشت وبكيت، فاللقاء الأول مدهش، لكن اللقاء الثاني والثالث والرابع أقل دهشة، فأنا أطمئن الإخوة الكرام؛ أنه إذا كان يشكو من ضعف أحواله مع دوام استقامته فلا ضير عليه، أما إذا كان هناك تقصير في الاستقامة، أو هناك خرق لحدود الله، أو هناك مخالفات، نقول له: هذا الحال الذي يزعجك هو انعكاس المعاصي.
على كلٍّ؛ ورد عند بعض الصالحين: ألا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ولا يدلك على الله مقاله، وورد أيضاً أن حالَ واحدٍ في ألفٍ أبلغُ من قولِ ألفٍ في واحدٍ، أي إنسان موصول إذا تكلم يؤثر في ألف، وألف متكلم مقطوعين عن الله عز وجل لا يؤثرون في واحد، لذلك سرُّ نجاح الدعوة الإخلاصُ.
 

الآية التالية معادلة رياضية:


لذلك الآن هذا يقودنا إلى قانون آخر، وما أروع هذا القانون! قال تعالى: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه الآية معادلة رياضية؛ أي يا محمد، بسبب رحمة استقرت في قلبك من خلال اتصالك بنا كنت ليِّناً، فلما كنت ليِّنا التفّ الناس حولك، وأحبوك وانتفعوا بك، وفدوك بأرواحهم، ولو كنت مقطوعاً عنا لاستقرّ في قلبك القسوة، والقسوة تنعكس غلظة وفظاظة، لانفضّ الناس من حولك، أين المعادلة؟ اتصال رحمة لين التفاف، انقطاع قسوة غلظة انفضاض، فإن أردت أن يلتف الناسُ حولك فكن متصلاً بالله، حتى تستقر الرحمةُ في قلبك، وحتى تنعكس لِينًا، وحتى يألفك الناس، وقد قيل: الْمُؤْمِنُ يألف ويُؤْلَف وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ، يوجد قلبه رحمة متأججة، وكأن رحمة الله عز وجل هي مطلق عطائه،

(( عن عبد الله بن عمر: الراحمون يرحمهم الله. ))

[ الترمذي: ثابت ]

إن أردتم رحمتي فارحموا خلقي، الراحمون في رضوان الله عز وجل، هذه واحدة.
 

العلم دائماً وأبداً حَكَم على الحال:


الآن عندنا حال الذي هو الدهشة، وعندنا علم، فدائماً العلماء قالوا: العلم حكَم على الحال، لو أن إنساناً رأيته طليق الوجه، منبسط السرائر، حيوي المظهر، لأنه ارتكب معصية، العلم أقوى من الحال، هذه المعصية معصية ولها عقاب، فإذا كان هو جاهلاً فَرِح بهذه المعصية، فمن هو الحَكَمُ على الآخر الحال على العلم أم العلم على الحال؟ العلم على الحال، العلماء قالوا: هناك حال شيطاني، إذا إنسان يبتغي أن يقترف معصية فيها لذة له، وتمكّن من هذه المعصية تراه فرحاً، لكن الله عز وجل ماذا قال؟ قال:

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾

[ سورة يونس ]

عليك أن تفرح بالطاعة، وأن تفرح بالقرب من الله، لا أن تفرح بالمعصية، فالعلماء قالوا: هناك حال شيطاني، الحالة السارة التي تأتي عقِب معصية هذه حالة شيطانية، والكآبة التي تأتي عَقِب المعصية حال رحمانية، هذه الفطرة، أما السرور الذي يأتي عقِب طاعة، هذه حالة رحمانية، فأنت انظر العلم هو الحكم، العلم دائماً وأبداً حَكَم على الحال، لا تعبأ بحال لا يغطيه العلم.
 

المؤمن يفرح بطاعة الله والكافر يفرح لأنه مَلَك الدنيا:


أنا أقول لكم بصراحة: ممكن إنسان يوجد بذهنه رغبة جامحة لشيء لا يرضي الله، فإذا وصله تألّق وجهه، حقق مراده، فالعبرة أن تفرح بطاعة الله، قال تعالى:

﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾

[ سورة القصص ]

طغى وبغى، ونسي المبتدا والمنتهى، ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ لا تفرح بما أوتيت من الدنيا إن الله لا يحب الفرحين.
أنا أقول لك: قل لي ما الذي يفرحك أقلْ لك مَنْ أنت، المؤمن يفرح بطاعة الله، يفرح المؤمن إذا أجرى الله على يديه خيراً، المؤمن يفرح أشدّ الفرح إذا وُفِّق لطاعة، وُفِق لهداية إنسان، وُفِق لفهم كتاب الله، وفق لشرح كتاب الله، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن عثمان بن عفان: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. ))

[ صحيح البخاري ]

والكافر يفرح لأنه ملَك الدنيا.
 

الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية:


أحد زعماء بريطانيا المشهورين له كلمة، قال: ملكنا العالم ولم نملك أنفسنا، لذلك علَّق بعضهم على أن الحضارة الإسلامية حضارة ضبط الذات، بينما حضارة الغربيين حضارة السيطرة على الطبيعة، المسلم مُسيطر على ذاته، أي هناك حماقات وجرائم يرتكبها الكفار، وهذا تحت سمعكم وبصركم، يندى لها الجبين، مرة قرأت مقالة في مجلة رصينة عن بيع العبيد في أمريكا، تأتي البواخر إلى إفريقيا، ويسوقون العبيد سوقاً بقوة الحديد والنار، ويضعونهم في عنابر البواخر مع بعضهم بعضاً مقيدين بالسلاسل، ويموت نصفهم في الطريق، ويبقى الميتون إلى جانب الأحياء طوال الطريق إلى أمريكا، إلى أن تتفسخ جثثهم، يأخذونهم ليعملوا في الحقول بلا مقابل، والله بعد أن قرأت هذه المقالة عن استعباد العبيد من إفريقيا، والله خجلت من أن أنتمي إلى الجنس البشري، الكافر قلبه كالصخر، وحش، قال تعالى: 

﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)﴾

[ سورة الشعراء ]

وليس بعيداً عن سمعكم وعن أبصاركم ما يجري في العالم اليوم، مئات الألوف في إفريقيا الجنوبية تمّ ذبح خمسمئة ألف في يومين، راوندا، وفي كوسوفو، وفي البوسنة، وفي ألبانيا، وفي الشيشان، يقولون: تطهير عرقي.
من علامات قيام الساعة موت كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لِمَ يقتل ولا المقتول فيم قتل؟ لما فتح الفرنجةُ القدسَ، سبعون ألف إنسان ذُبحوا في ليلتين، لما سيدنا صلاح الدين رحمه الله تعالى فتحَ القدسَ، جاءته امرأة ضاع ابنُها، بقي واقفاً إلى أن أعادوا لها ابنها، وما ظلم واحدًا، ولا أخذ جنديٌّ من إنسان حاجة، بل إن هؤلاء الذين خرجوا من القدس سُمِح لهم أن يبيعوا حاجاتهم بأثمانها، هكذا الإسلام:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن.  ))

[ صحيح أبو داود ]

تصور أن ما جرى في البوسنة والهرسك، وما جرى في ألبانيا وكوسوفو، وما جرى في الشيشان، لو أن المسلمين ملكوا، لا يفعلون شيئاً من هذا القبيل، لا يستطيع، المؤمن مقيّد بمنهج، قيل: يا رسول الله مثِّل بهم مثّلوا بعمك؟ قال: لا أمثل بهم فيُمثل الله بي ولو كنت نبياً، لا يستطيع المؤمن، هناك إله، هناك أمر، هناك نهي، هناك حق، هناك باطل، هناك شيء يجوز، ولا يجوز، المؤمن يعيش منظومة قيم، أحياناً يحلو لي أن أُشبّه الإنسان الكافر بدابة متفلتة، أما المؤمن فمنضبط بمنهج الله، فأنت سعادتك أن تكون منضبطاً، يوجد بحياتك محرمات، أنت لست تتحرك كما تتمنى.
 

من هو الأحمق؟


إذاً العلم حَكَم على الحال، لو فرضنا تاجراً باع بيعة بثمانية أضعاف رأسمالها، هناك شخص يعمل في تصليح السيارات، لي قريب كان جاراً له، جاء شخص بسيارة جديدة جداً وفيها خلل، الذي جاءه أدرك أنّ صاحب السيارة جاهل، وهو حريص على سيارته، فحصها، قال له: في المحرك خلل كبير، تكلفك عشرة آلاف ليرة، صاحب السيارة لا يعرف أن يناقشه، قال له: أصلحها، يقول لي قريبي وهو جار له: أصلحها في خمس دقائق، لا تكلف إلا مئة ليرة، أول يوم أخذ أهله إلى الزبداني بها، ثاني يوم ذهبوا إلى المطار، ثالث يوم إلى وادي بردى، رابع يوم جاء صاحب السيارة استلمها ودفع عشرة آلاف ليرة، قال لي: والله دفعها نقدا وعدًّا، لكن هذا المصلح ذكي جدا، ذكر له أشياء معقدة في المحرك، وخوّفه، ووهّمه، وابتزّ ماله، ودفعهم، فقال له قريبي: أيُعقَل ما فعلت؟ قال له: هكذا أصول العمل، وهو يضحك ومسرور، عشرة آلاف مع ثلاث نزهات بها، قال لي: كان له ابن يعمل في مخرطة، تدخل نثرة فولاذ في عينه في القرنية، أخذه على لبنان، بأوج لبنان، كلَّفته العملية ستة عشر ألف ليرة لبنانية، والليرة اللبنانية بمئة وستين قرشاً سورياً، قريب من خمسة وعشرين ألفاً، قال: يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ قال: عبدي قد عاقبتك ولم تدر.
يفرح الإنسان أنني أنا حصّلت مبلغاً، ضحكت عليه، كنت شاطراً، لست شاطراً، لا تكون شاطراً إلا إذا كنت في طاعة الله، وأنا أقول لكم أيها الإخوة؛ أي إنسان لا يُدخِل اللهَ جل جلاله في حساباته اليومية يكون أحمق، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾

[ سورة البروج ]

وفي الحديث:

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))

[ صحيح البخاري ]

بطولتك أن تضع رأسك على الوسادة، وليس لأحد من الخلق حق عندك، ولا دابة،  ولا كلب، ولا قطة، ولا شيء، لا يوجد مخلوق له حقّ عندك، هذه بطولتك، ولو كنت فقيراً، ولو كنت ضعيفاً، ولو كنت مريضاً، ولو كنت مضطهداً، بطولتك أن تكون بريئاً من تعلّق الحقوق بك، أما إذا كان الإنسان ظالماً، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، وبنى غناه على إفقارهم، وبنى أمنه على خوفهم، وبنى حياته على موتهم.
 

المؤمن يفرح أنه في رضوان الله وفي خدمة الخلق:


أقول لك هذه الكلمة: هناك إنسان يعيش للناس هم الأنبياء، وهناك أناس يعيشون لإنسان، فبين أن تكون في خدمة الخلق وبين أن يكون الخلق في خدمتك؛ لذلك الدرس مهم جداً لا تفرح لا بمال وفير، ولا بمكانة عليّة، ولا بحظّ رائع، افرح بطاعة الله، وكل إنسان يفرح بشيء لا يرضي الله أحمق، غبي، والعلم حَكَم على الحال، ليس الحال مقياساً، انظر ضعاف العقول بين الناس ترقص لهم الدنيا أحياناً، تجده لا أحد يستطيع أن يتكلم معه، ضحك، واستعلاء، وتعليقات لاذعة، ومشية فيها كِبر، ويركب سيارته بالعرض، يفرح بشيء سخيف، أما المؤمن فيفرح بطاعة الله، يفرح أنه في رضوان الله، يفرح أنه في خدمة الخلق، يفرح أنه ينام الليل وليس لأحد عنده حقّ أبداً.
 

المؤمن وقّاف عند كتاب الله:


قيل لأحدهم: يبدو أن هناك داعية شاباً، أحبّه الناس كثيراً، والتفوا حوله، فالطرف الآخر أصابتهم الغيرة والحسد، فبدؤوا يتكلمون في حقه كلاماً غير صحيح، فجاء رجلٌ بشخص لهذا الداعية، قال له: إنني أُشفق عليك مما يقوله الناس عنك، قال له: هل سمعت مني عنهم شيئا؟ قال له: لا، قال له: عليهم فأشفق، عوِّد نفسك لا تقابل من عصى الله فيك إلا بأن تطيع الله فيه.
قال شخص لآخر: لقد اغتبتني؟ قال له: ومن أنت حتى أغتابك؟ لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي، لأنهم أولى بحسناتي منك.
المؤمن موقن أنه إذا اغتاب فإنّ هذا المغتابَ سيقف لك يوم القيامة ويأخذ من حسناته، لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي، لأنهم أولى بحسناتي منك، من أنت حتى أغتابك؟ المؤمن وقّاف عند كتاب الله، ومقياس الدنيا لا قيمة له، قد تكون فقيراً وتكون عند الله كبيراً، قد تكون ضعيفاً، وقف النبيُّ لأحد أصحابه، قال له: أهلاً بمن خبّرني جبريل بقدومه، قال: أو مثلي يا رسول الله؟ قال له: نعم يا أخي؛ خامل في الأرض علَم في السماء، قد تكون شاباً لا تملك من الدنيا شيئاً.
 

المرتبة الاجتماعية لا قيمة لها أبداً:


قلت مرة: كنت بمؤتمر بالمغرب، وجلسنا في أرقى فندق في المغرب، واستيقظت على صلاة الفجر، سمعت صوت قرآن نديّ مع الفجر، نظرتُ من الشرفة، فإذا عامل الحديقة يصلِّي الفجر على الحشيش بصوت شجيٍّ، واللهِ غلبَ على ظني أن هذا الذي يصلي بهذا الصوت الشجيِّ أقرب إلى الله مِن كل مَن في الفندق، والمؤتمر إسلامي طبعاً، إنسان موصول بالله هذا بطل، فمرتبتك الاجتماعية لا قيمة لها أبداً، لأنه: 

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾

[ سورة الواقعة ]

الذي كان في أعلى عليِّين ولم يكن يعرف الله عز وجل يهبط إلى أسفل سافلين، والذي كان في أسفل سافلين وكان قد عرف الله عز وجل يرقى إلى أعلى عليين، لذلك خافضة رافعة.
 

تعريف المفلس:


إخواننا الكرام؛ هذا الحديث أنا أقول عنه: يقصم الظهر:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. ))

[ صحيح مسلم ]

تعريف المفلس السهل البسيط: من لا درهم له ولا متاع، المفلس يصلي ويصوم، لكنه شرس في تعامله مع الخلق، عباداته التعاملية سيئة جداً، لذلك هذا مفلس.
 

خيرك منك وشرك منك:


(( عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ أخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. ))

[ ابن ماجه في سننها: الوادعي: حسن ]

لهم خلوات فيها معصية، أما مواقفهم المُعلنة رائعة، ممثلون، والتمثيل الآن دقيق جداً، يُمثِّل عليك تظنه تقياً ورعاً فإذا هو فاجر.
أقول هذه الكلمة واحفظوها: إذا كان معك كيلو من الذهب الخالص، وظنّ الناس أن هذا من المعدن الخسيس، من هو الرابح؟ أنت، لو ظنّ الناس أن هذا الكيلو معدن خسيس، الآن لو أن معك كيلو من المعدن الخسيس وأوهمتَ الناسَ أنه ذهبٌ، فصدّق الناسُ كلامَك، من هو الخاسر؟ أنت، خيرك منك، وشرك منك، كن مع الله واضحاً.
 

الدهشة مؤقتة العبرة بالاستقامة:


ملخص الدرس: منزلة الدهشة، كل مؤمن يدخل في عالم الإيمان له دهشة، وله أحوال مسعدة، لكن هذه الأحوال لا تلبث أن تضعف، ضعف هذه الأحوال مع بقاء الاستقامة لا ضير فيه أبداً، الحال موجود لكن بشكل أَلِفْتَهُ أنت، أحياناً يدخل الإنسان إلى بيت فيُدهش، إطلالة رائعة، مساحة كبيرة، أثاث فاخر، منطقة هادئة، اسأل أصحاب البيت: هل هم مدهوشون كهذا الداخل؟ أبداً، أَلِفُوه.
قد تدخل إلى مكتب فخم مكتب وزير، مكتب فخم جداً، أثاث من أرقى ما يكون، اسأل صاحب المكتب: هل هو مندهش مثلك؟ أبداً، الدهشة مؤقتة، فإذا دُهش الإنسان، ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ أحياناً الإنسان يُدهش بفتاة، يتزوجها، هل يبقى مدهوشاً بها؟ تخف الدهشة إلى أن تتلاشى، فلذلك الدهشة مؤقتة، العبرة بالاستقامة، واحفظ هذه الكلمة: دائماً العلم حَكَم على الحال، لأن هناك حالاً رحمانياً وحالاً شيطانياً.
 

الفرح المشروع والفرح غير المشروع:


أنا مرة شاهدت شخصاً فرض على إنسان مدان مبلغاً ضخماً جداً، في ذلك الوقت كان مبلغاً ضخماً ثلاثمئة ألف، كان الدولار بثلاثة ليرات وثمانين قرشاً، فرض عليه مبلغاً ضخماً والثاني خضع له، الأول يستطيع أن يدفعه عشرين ضعفاً، قبِل منه ثلاثمئة ألف، وجد الذي قبض المبلغ في وجهه تألقاً يكاد وجهه يضيء من الإشراق، هل هذا موصول بالله؟ لا، هذا شيطان، فيمكن أن يتألق وجهك، يمكن أن تشعر بسرور بالغ إذا حققت هدفك، وقد يكون الهدف غير مشروع عند الله عز وجل، فلا تعتدّ بالحال اعتدّ بالعلم، أما إذا كان حالك مغطى بالعلم، أنت جالس جلسة مع بعض الناس، وتكلمت كلاماً طيباً، كلاماً واضحاً، كلاماً معه دليل، بحال قوي فتأثروا تأثراً بالغاً، ورأيت معظمهم عَقَد التوبة، أنت فرحت، والله معك حق أن تفرح، لأن هذا من أعظم الأعمال، هذه صنعة الأنبياء، فأنت يمكن أن تفرح مليون مرة، كل هذا الفرح مغطى بالقرآن والسنة، فرحك مشروع، دائماً زن فرحك بمقياس الشرع، لكن إياك أن تُقيّم فرحك بمطلق الفرح: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ قال تعالى: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ينبغي أن تفرح بفضل الله عز وجل، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ وبالمقابل: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ معنى ذلك أن هناك فرحاً لا يحبه الله، وهناك فرح يحبه الله، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ هذا فرح مشروع، ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ فرح غير مشروع، فالبطولة أن تفرح فرحاً مشروعاً.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور