الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ لا زلنا في مدارج السالكين، مع الدرس الثمانين من هذه الدروس، والمدْرج اليوم منزلةُ الهِمَّة.
أيها الإخوة الكرام؛ النوع البشري شيءٌ عظيم، لو نظرْتَ إلى طبقٍ من البيْض، التفاوُت بين حبّات البيْض تفاوُتٌ بسيط، لا يزيدُ عن بِضْع غرامات، ولكن في عالم البشر قد تجِدُ إنسانًا بِقَلبِهِ الكبير، وهِمَّتهِ العلِيّة، وأهدافِهِ النبيلة كالجبل، وتجِدُ إنسانًا آخر لِضَعفِ هِمَّتهِ، ولِسُخْف مَطلبِهِ كأنّه ذُبابة، النوْع البشريّ نوعٌ مُكرَّم، أُعْطِيَ الإنسان طاقات هائلة، فإنسانٌ يستخدمُ هذه الطاقات الهائلة في معالي الأمور سيكون عظيمًا من عُظماء البشَر، وإن كان معه رسالة فهو نبيّ كريم، أو رسول عظيم، وهناك من لا يستخدم هذه الطاقات فيتحمّلُ من أجلها الحسرات إلى أبد الآبدين، وهناك من يستخدمُ هذه الطاقات في الشرّ، فهُم المجرمون والطّغاة، النَّوْع البشريّ نَوْعٌ مُحَيِّر، مِن إنسانٍ يكْبُر ولا ترى كِبَرَه فيتضاءلُ أمامهُ كلّ كبير، إلى إنسان يصْغُر ولا ترى صِغَره فيتعاظَم عليه كلّ حقير، العامل المؤثّر في هذا الموضوع هو الهِمّة.
لو سألْت إنسانًا ضعيف الهِمّة: ما هدَفُك؟ أنْ يأكلَ، وأن يشْرَبَ، أن يسْكُن في بيتٍ، أن يتزوّج امرأة فقط، فإذا حقّق هذه المطالب تنتهي كلُّ أهدافِهِ، أما النبي عليه الصلاة والسلام هَمُّه هِدايةُ الخلق، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثلَهَا قَطُّ، قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرًا» . قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «فُلانٌ». فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .))
فالله عز وجل لا ينظرُ إلى شكلك، ولا إلى صورتك، ولكن إلى همِّكَ وهِمّتِكَ، ما الذي يهمك؟ إنسانٌ أحياناً همّه أن يأكل، همه أن يستمتع بالحياة، همُّه أن يعيشَ وحيدًا مرتاحًا من كلّ همّ، لكنْ هناك إنسان همُّه هِدايَة الخَلْق، فأنت تكْبُر عند الله بِقَدر ما تحْمِلُ من هُموم المسلمين.
وصول الإنسان إلى أعلى عليين إذا استغل الطاقات التي أودعها الله فيه:
الإنسان كما قلتُ قبل قليل: طاقات كبيرة جدًّا، فقد تجدُ إنسانًا تركَ آثارًا عِلْميّة مُذْهلة، وعاشَ عُمْرًا محدودًا كأيّ عُمْر، ترك مئتي مُؤَلّف.
هناك علماء كِبار يُعَدُّون من المُجدِّدين في الدِّين، أي فِكرُه وكتُبُه على كلِّ لِسانٍ، بعْد ألفِ عامٍ، وفي كلّ قُطرٍ من أقطار المسلمين، ما هذه الهِمة التي كان ينْطوي عليها يومَ كان حيًّا يرْزق؟ على كلٍّ؛ الإنسان يمكن أن يصِل إلى أعلى عِلِيِّين إذا اسْتغلَّ هذه الطاقات التي أوْدَعَها الله فيه، على مستوى الدّنيا إنسان شابّ في الأربعينات، الآن ثرْوتهُ تزيدُ عن تِسعين مليار دولار، صاحبُ مايكروسوفت، شابّ بالأربعينات، هل حصَّل هذه الثَّرْوَة جُزافًا؟ لا، هِمَّتهُ في تَحصيل المال مُذْهلة، وإنسانٌ آخر تركَ خمسين مليوناً قتيلاً مثل هتلر، في الحرب العالميّة الثانيّة، وَحْش، طاغِيَة جبّار، فالإنسان النوْع البشري عجيب، هناك طاقات كبيرة جدًّا، وليس هناك حلّ وسَط، إما أن تصعد بهذه الطاقات فتكون أعلى من كلّ ملَكٍ، كما قال الإمام عليّ كرّم الله وجهه: رُكِّبَ المَلَكُ من عقْلٍ ولا شهوَة، ورُكِّب الحيوان من شَهوةٍ ولا عقْل، ورُكِّبَ الإنسان من كِلَيْهِما، فإن سما عقلهُ على شهوتِهِ كان فوق الملائكة، وإن سمَت شهوتهُ على عقله كان دون الحيوان.
ما الذي يهمّك؟ وما الذي يُقلقك؟ ما الذي تصْبو إليه؟ ما الذي ترجو منه؟ تعيشُ مع من؟ تعيشُ لِمَن؟ تُرضي مَن؟ تُغْضِبُ من؟ تنفقُ على مَن؟ تَصِلُ مَن؟ تَقْطَعُ مَن؟ مَن أنت؟ قلْ لي ما الذي يغضبُك؟ أقل لك من أنت، قل لي ما الذي يرضيك؟ أقلْ لك من أنت، قلْ لي ما مِقياسُ الفوز عندكَ؟ أقل لك من أنت، قلْ لي إلام تسْعى؟ أقُل لك من أنت، ما الذي يُحزنُكَ؟ أقل لك من أنت، أيُّ شخْصٍ ترنو إليه؟ أقُلْ لك من أنت، فالمسافات كبيرة جدًّا، والإنسان مخلوق ومجبول لِيَكون أعلى المخلوقات، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
الوسائل التي في متناول يد الإنسان للوصول إلى الله:
وسائل أن تصل إلى الله بين يدَيك، في متناول يديك، شرْعُ الله واضِحٌ لديك، الحلال بيِّنٌ والحرام بيّن، لِمُجرّد أن تَدَعَ الحرام، وأن تُقبِلَ على الحلال فقد ارْتقيْت عند الله عز وجل،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ». ))
بالنوافل؛ بالصلاة النافلة، بصدقة نافلة، بطلب علم، بخدمة أخ مؤمن، بتربية ولد، بدعوة إلى الله، ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) أي أنْ تكون عند الله محبوبًا شيءٌ في متناوَل يدك، هناك مُلوك بيَدِهم كل شُؤون الممْلكة، ولكنْ لن تستطيع أن تصلَ إليه، هو بيَدِهِ كلّ شيء، يمْلكُ مال ممْلكته، يمْلكُ كلّ شيءٍ فيها، ولكن لا سبيل إلى أن تصلَ إليه، لكنّ ملِكَ المُلوك قال:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾
اِعْمَل عملاً صالحًا لا تبتغِ به إلا وَجه الله تعالى، أقْرِض الله قرضًا حسنًا، أيّ إنسان، أيّ مخلوق، أيّ نبات، هو مخلوقٌ لله عز وجل، إذا اعْتَنَيْت بِنباتٍ، سقَيْتَهُ ماءً، إذا اعْتنيْتَ بِهِرّة، بكلب، غفرَ الله لامرأة سقَتْ كلبًا في الصّحراء، طريق الوُصول إلى الله بين يديك، كلّ هؤلاء الذين أمامك هم مخلوقات لله عز وجل، فإن أحْببْتَ الله أحببْتَ مخلوقاته، فكُنْتَ بهم رحيمًا، كنت بهم رؤوفًا، كنت لهم مُنصِفًا، أعنْتَهُم على شؤون دينهم.
الإنسان التافه هو الذي يعيشُ لِشَهوَتِهِ:
الإنسان التافه هو الذي يعيشُ لِشَهوَتِهِ، تافِهٌ لا قيمة له، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)﴾
وقال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)﴾
قال تعالى:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾
قال تعالى:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾
قضيّة مصيريّة، قضيّة خطيرة.
أنت المخلوق الأوّل، أنت المخلوق المكرّم، أنت المخلوق المكلّف، همك إسطوانة غاز فقط؟ والله تجدُ إنسانًا همّه شيءٌ تافهٌ جدًّا، همّه مركبة أحيانًا، همّه بيت، همّه زوجة، ولا يريد فوق ذلك شيئًا، عُلُوّ الهِمّة من الإيمان، سيّدنا عمر رضي الله عنه ماذا أراد؟ أراد أن يقيم الحقّ في الأرض.
سيّدنا الصدّيق، هذا الإنسان اللطيف الناعم الرقيق النحيل، جيَّشَ جيشًا بعد حُروب الردّة، وفتَحَ به بلاد المسلمين، وقال: والله لو منعوني عِقال بعيرٍ كانوا يُؤدُّونه لِرَسول الله لقاتلْتُهم عليه، هِمَّة عاليَة.
سيّدنا عثمان أنفقَ مالهُ كلّه، جيَّشَ جيشًا بأكمله، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( عن عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمانُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بألفِ دينارٍ في كُمِّه حينَ جهز جيشَ العسرةِ فنثَرها في حِجرِه، فرأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقلِّبُها في حِجرِه، ويقولُ: ما ضَرَّ عثمانَ ما عمِل بعدَ اليَومِ، مرتينِ. ))
[ صدر الدين المناوي: كشف المناهج والتناقيح: أخرجه الترمذي: خلاصة حكم المحدث: رجاله موثقون ]
والله إذا قرأت عن تاريخ الصحابة، والله نجدُ أنفسنا لا شيءَ أبدًا.
على كل إنسان أن يكون له عمل طيب يبتغي به وجه الله:
مرَّة رَكِبْت من المدينة إلى مكّة بِسَيّارة، طريق طويل، أربعمئة وخمسون كيلو متر، والمركبة تسير على المئة والثمنين ومكيّفة، الطريق طويل، كيف قَطَعَ النبي هذا الطريق على ناقة؟ هل هناك ناقة مكيّفة؟ لا يوجد، كيف قَطَع الطريق على ناقةٍ وكان مطارداً وكان مهدورًا دمُه وقد وُضِعَت مئة ناقة لِمَن يأتي به حيًّا أو ميِّتًا؟ وكيف تبِعَهُ سُراقة، وقال: يا سُراقة، كيف بِكَ إذا لبِسْت سِوارَي كِسرى؟! إنسانٌ مُلاحقٌ، مهدورٌ دمُه، يُدفعُ لمَن يقتلهُ مئة ناقةٍ، يقول لِسُراقة: يا سُراقة كيف بِكَ إذا لبِسْت سِوارَي كِسرى؟! معنى ذلك أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان موقنًا أنّه سيَصِلُ إلى المدينة، وسيُنشىء دولةً هناك، وسيُحاربُ الفرْس، وسوف تأتي الغنائم إلى المدينة، وهذا الذي حصلَ بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، جاءَت الغنائم إلى المدينة، فلم ير الرجلان بعضَيْهما، وقد رفعا رُمْحيهِما من ارتفاع كتلة الغنائم، فسيِّدُنا عمر قال: والله إنّ الذي أدَّى هذا لأمينٌ، جواهر وتيجان وحليّ، فقال سيّدنا عليّ-كرَّم الله وجهه-: يا أمير المؤمنين أعَجبْت من أمانتهم! لقد عففْتَ فعَفُّوا، ولو رتعت لرتعوا.
أُناسٌ عُظماء، قلْ لي من الذي مات في نهاونْد؟ قال: ماتَ خلق كثير لا تعرفهم، فبكى سيّدنا عمر قال: وما ضرّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم؟
أي هل لك عمل طيب عظيم لا يعلم به أحد تبتغي به وجه الله تعالى كَخِدْمة للخلْق؟ تركْت بصمات في المجتمع؟ تركْت أثرًا؟ قال تعالى:
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)﴾
كان أمة، أي هو في قلب أمّة، أنت بِقَلب كم واحد؟! هل تركْت بصماتٍ في المجتمع؟ هل تركْت علمًا؟ هل تركت ولدًا صالحًا؟ هل تركت مؤلّفاتٍ؟ تركْت مؤسسّة خيريّة؟ هل تركت دعوة إلى الله تعالى ناصعة واضحةٌ بيّنة؟ ماذا تركت؟ إذا الإنسان انتقلَ إلى رحمة الله تعالى ماذا يقول الناسُ عنه؟ إذا كان ترك الدنيا فقط لا يُقال ولا كلمة، الله يرحمه، كان في بيته جيصين رائع جداً، هذا كلامٌ لا يُقال، أو لقد كان عنده ثلاث سيارات؛ أحدها للسفر، والثانية للبلد، والأخيرة للنقل، هذا كلام لا يُقال، لكن والله انتفَعَ الناس به في حياته، عملَ عملاً عظيمًا.
تعلق الهمة بالعلم وبِعِظَم الهدف:
يا أيها الإخوة؛ هذا الموضوع موضوع خطير، منزلة الهمّة، منزلةٌ من منازل إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين، والهمّة فِعْلَةٌ من الهمّ، وهو مبدأ الإرادة، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾
الهمّ مبدأ الإرادة، الانبعاث، فالإنسان ما الذي يبعثُه؟ خُذْ ألْف إنسانٍ، نائم على فراشٍ وثير، في أيّام الشتاء الباردة، والفراش دافئ، ونام قبل ساعتَين، وقد أذَّنَ المؤذِّن لِصَلاة الفجْر، فصاحِبُ الهمّة العاليَة يتجافى جنبُه عن المضاجِع، وينطلقُ إلى الله لِيُصلّي، وصاحِبُ الهمّة الدنية يبقى نائمًا، صاحبُ الهمّة العليّة يُنفقُ مالهُ ابتغاء مرضاة الله، وصاحب الهمّة الدنية ينفق ماله على نفسه مستمتعًا به، الحقيقة الهمّة هي المحرِّك، والهمّة لها علاقة بالمعرفة.
إذا شخص عنده وعي عال جداً، مرّة كنَّا في جلسة قُدِّمَ حلويات فاخرة جدًّا، هناك طبيب قلب لم يأكل، لأن فيها قشدة، لشِدّة ما يرى من انسداد الشرايين عند مرضاه كلّ يوم، وهو يعلمُ أنّ هذه المادّة الدّسِمَة هي التي تسُدّ هذه الشرايين، كرِهَها كراهية علميّة، هي طيّبة جدًّا لكنْ كرهها.
تجد إنسانًا يجري في أيّام البرْد، في أيام المطر، والناس جميعًا في بيوتهم جالسون، عندهُ قناعات، قناعاته العاليَة أعْطَتْهُ هذه الهِمّة، هناك طالب يدرسُ حتى الثانية فجْرًا، في همّته أن يكون طبيبًا لامعًا وهو في الشهادة الثانويّة، وتحتاج كليّة الطبّ إلى علامات عاليَة، لذلك يعْزفُ عن لقاءٍ مع صديق، عن نزهة، عن سهرةٍ مع أهله، عن وليمةٍ، عن خروجٍ من البيت، يعكف على الكتاب، لأنّ هدفهُ كبير، همّته عاليَة، كلّما كبرَ الهدف تعْلو الهمّة، وكلّما اشْتدّ العلم تعلو الهمّة، الهِمّة متعلّقة بالعلم، ومتعلّقة بِعِظَم الهدف.
أحيانًا تجدُ إنسانًا بالسِّتين أو السبعين، متزوج، وقد زوّج أولاده، ويسكن ببيت، لا يوجد عنده رغبةَ كي يؤسس مشروعاً ضَخماً، لأنّ لا همّة له، أما الشابّ في أوّل حياته تجدُه يندفِع إلى تأسيس مشروع كالصاروخ إن صحّ التعبير، يوجد عندهُ آمال كبيرة، هذا في الدنيا أما بالآخرة إذا الإنسان تطلّع إلى الآخرة تعلُو هِمّته، ويزداد شَوْقُه، ويبْذلُ الغالي والرخيص، والنّفْسَ والنفيس، بين العامّة مَقولةٌ يقولونها دائمًا: إنّ قيمة كلّ امرئ ما يُحسِن، هناك مقولةٌ أصحّ من هذه المَقولة: قيمة كلّ امرئ ما يطلبُ، ما الذي تطلبُه أنت؟
الله عز وجل خلقَنا لِيُسْعدنا:
أحدهم وقفَ على باب ملكٍ، طلبَ قلم رصاص، ثمنهُ نصف ليرة، كَمْ هو ضعيفُ الهمّة؟ ما دُمْتَ قد وقفْت على باب ملِكٍ فاطْلُب سيارة، اطلب بيتًا، اطْلُب منصِبًا رفيعًا، فالله عز وجل خلقَنا لِيُسْعدنا، إذا رآنا نختارُ الدّنيا يُعاتبُنا، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
يوجد مطب أيها الإخوة؛ يقع به معظمُ الناس، يتَّجه إلى المباحات، يعتني بها إلى أقصى درجة، فجأةً تأتيه المنيّة وهو في أوْج نشْوَتِهِ، يُغادرُ الدّنيا وهو حريصٌ على البقاء بها.
الإنسان العاقل يوزّع أهدافهُ بين الدنيا والآخرة:
حدّثني أخٌ يعمل في أمريكا بالطبّ، قال لي: كلّما وجدْتُ مريضًا على وشك الموت، يعاني من انهيار أعصاب، خوف، أحيانًا يصيح، أحيانًا يشتم، أحيانًا يقول: أُعطيك كلّ ما تريد، اشْفني، لأنّه وضَعَ البيضَ كلّه في سلّة واحدة.
الإنسان العاقل يوزّع أهدافهُ بين الدنيا والآخرة، أما الذي وضَعَ كلّ أهدافه في الدنيا، ثمّ اكْتشفَ فجْأةً أنّ الدنيا زائلة، والله تأتي ساعات على من يُفارقُ الدّنيا ينسى فيها كلّ لذائذ الدنيا، يقول: لمْ أر خيرًا قطّ!.
الهمّة العاليَة هي التي تتعلق بالحق تعالى:
الآن همة العبْد إذا تعلَّقَت بالحقّ تعالى طلبًا صادقًا محْضًا فتِلْك هي الهمّة العاليَة، أيّة همّة تعلّقت في الدنيا فهي هِمّة دَنِيَّة، وأيّة هِمّة تعلَّقَتْ بالحق تعالى فهي هِمّة علِيَّة، أي من شَغَلَهُ ذِكْري عن مَسألتي أعْطَيْتُهُ فوق ما أُعطي السائلين، أنت هِمَّتُك تتَّجِهُ إلى مَنْ؟ إن كانت هِمَّتُكَ تتَّجِهُ إلى الحقّ جلّ جلاله فأنت من عُظماء البشَر، سَمَوْت عن الضَّعْف البشري، من هم الأنبياء؟ هم بشرٌ في الأساس، لكنّهم ولأنّهم تَجْري عليهم كلّ خصائص البشر كانوا سادة البشَر، همْ قِمَمٌ لأنّهم بشر، انتَصروا على ضعفهم البشري، أما إذا الإنسان خضَع لضَعْفه البشريّ صار تافهًا، الآن لاحظ أن لكلّ عصْرٍ يوجد للبيئة معالم، الخطّ العريض في المجتمع، أي دَهْماءُ الناس وسوقتهُم يستجيبون لهذه البيئة، يقول لك: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحْسنْت، وإن أساؤوا أسأْت، والناس يُقلِّدون بعضهم بعضًا، كنت تجد بالعشر بنايات صحن، الآن تجد بكل بناء يوجد صحون بعدد البيوت، أبداً، الناس يُقلِّدون بعضهم بعضًا، الخطّ العريض في المجتمع الأكثريّة مقلّدة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عنِ ابنِ مسعودٍ أنَّهُ قالَ: اغدُ عالمًا أو متعلِّمًا ولا تَكوننَّ إمَّعةً. ))
[ خلاصة حكم المحدث: صحيح: ابن القيم، المصدر: أعلام الموقعين ]
من هو الإمعة؟ الذي يقول: أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت وإن أساؤوا أسأت، أما الأبطال لا يتأثّرون بالبيئة، ولا يستجيبون لِضَغْط البيئة، بل هم يؤثِّرون في البيئة، يُحْدثون تغْييراً جِذرياً في المجتمع، هؤلاء الذين تركوا بصمات كما يقولون.
فقال: همّة العبْد إذا تعلَّقَت بالحقّ تعالى طلبًا صادقًا خالصًا مَحْضًا، فَتِلْك هي الهمّة العاليَة التي لا يقْدرُ معها على المهلة، ولا يتمالكُ صبْرهُ، لِغَلَبَةِ سُلطانِهِ عليه، وشِدّة إلزامها إيّاه بِطَلبِ المقصود، ولا يلتفتُ عنها إلى ما سوى أحكامها، وصاحبُ هذه الهِمّة سريعٌ وُصولهُ، وظفرُهُ بمطلوبه، ما لمْ تُعِقْهُ العوائق، أو تقطعهُ العلائق، أو تصرفْهُ الصوارف.
همة عمر بن الخطاب في الاتصال بالله عز وجل:
الإنسانُ يلاحظ نفسهُ حينما يستيقظ صباحًا، أوّل خاطر يأتي إليه، هناك أشخاص وهم على فراش الموت: هل وصَلَتْ البِضاعة؟! هل خلصَتْ؟! هل صببْتُم السّقف؟! أما سيّدنا عمر بعد أن طُعِنَ، وكان يُصلّي بالمسلمين الفجْر، أوّل ما صحا، قال: هل صلّى المسلمون الفجْر؟ أكملوا صلاتهم؟ انظروا إلى هِمّته، هِمَّتهُ في الاتّصال بالله عز وجل.
همة عمر بن الخطاب في رعاية رعيته وإكرامهم:
سيّدنا عمر كان في المدينة، ومعه سيّدنا ابن عوف، وجدا قافلةً قد استقرَّت في ظاهر المدينة، فقال: تعال نحْرُس هذه القافلة، عملٌ صالحٌ لِوَجه الله، هو خليفة المسلمين، يبدو أنَّ طِفلاً بكى، فقام عمر رضي الله عنه إلى أُمّه قال: أرْضِعيه، فلمّا بكى ثانيَةً، قال: أرضِعيه، فلمّا بكى ثالثةً يبدو أنّه غضِبَ، قال: ألا ترضِعينَهُ؟ فقالَتْ: ما شأنُكَ بنا؟ قالَت: إنَّني أفْطِمُهُ، قال: ولِمَ تُفطِميه؟ قالت: لأنّ عمر لا يُعطينا العطاء إلا بعد الفِطام، يُقال: إنّ هذا الخليفة العظيم ضربَ جبهتهُ وقال: ويْحَكَ يا عمر، كم قتَلْت من أطفال المسلمين؟! وصلّى صلاة الفجر، فلم يستمع أصحابُه إلى قراءته من شدّة خُشوعه وبُكائِه، وكان يدعو ويقول: يا ربّ هل قبلْت توبتي فأهنئ نفسي أم ردَدْتها فأُعزِّيَها؟
خوفهُ من الله، هِمَّتهُ في رعايَة رعِيَّتِهِ وإكرامهم، هو اجْتهَدَ أن يُعْطِيَ العطاء بعد الفِطام، أي التعويض العائلي، لكنْ ما كان يخْطُر في بالهِ أنَّه حينما أمرَ أن يُعْطَى العَطَاء بعد الفِطام هناك أُمّ تفْطِمُ ابنها قصْرًا، ثمَّ أمر أن يُعطى العطاء بعد الولادة مباشرة.
ملامح صاحب الهمة العالية:
1-صون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني:
أوَّلُ ملامِحِ هذه الهِمَّة العاليَة هي صوْنُ القلب عن وحْشَة الرغبة في الفاني، لا يرتاح بالدنيا، له من الدنيا ما يُقيم أوَدهُ، ويسترُ عَوْرتَهُ، هو يُلبّي رغْبتَهُ المشروعة فقط، أما التوسُّع، البذْخ، التَّرَف، الإسراف، العلوّ في الأرض، هذا ليس من هِمَّة المؤمن، قال تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
يأكلُ لِيعيش، يسْترُ جسمهُ كما أمر الله عز وجل، يتزوّج وفْق سنَّة النبي صلى الله عليه وسلّم، يأكل، ويشرب، ويلبسُ من دون إسرافٍ ولا مَخْيلَة، هذا شأْنُ المؤمن، أما الإسراف، الترَف، التبذير، الظهور بِمَظهر كبير جدًّا، هذا ليس من شأن المؤمن.
أوّل نبضات هذه الهِمّة أنّ قلْبَ صاحبِ هذه الهمّة يسْتوحِش من الدنيا الفانيَة ويتعلّق بالباقيَة، المؤمن وهو في المسجد كالسّمك في الماء، المنافق إذا قلنا عصفوراً لا تليق به، غير العصفور، كالعصفور في القفص، أو كالجرذ في المصيَدَة، منافق، ضعْهُ بمكان، بسوق جميل فيه نساء حَسْناوات غاديات، ينْتعِش قلبهُ هناك، أما إن أتَيْتَ به إلى المسجد يتضايَق، هو يحبّ المناظر، يحبّ الناس.
كثير من المؤمنين أسْمعُ عنهم، إذا أقاموا نزهةً بِمَكانٍ جميلٍ مع أهلهم، الطَّرَف الآخر ينتقدونهم: ما هذه النُّزْهة؟! يقول لك: الجنة دون أناس لا تُدخل، يجلس بِمَقهى مزدحِم، والأغاني تصْدَع، وصوت الطاولات، النَّرْد، والنّساء كاسيات عاريات، وغناء عالٍ، وازْدِحام، هناك يجد السرور، أما المؤمن يجد السرور بِمَكانٍ جميلٍ بعيدٍ عن الناس، يوَحِّدُ ربّه، ويدعو ربّهُ، فالهِمّة العالية أولاً من لوازمها أنّ القلب يسْتوحِش الدنيا، يأْنسُ بالحق.
الإنسان يسافر أحياناً، من جامعٍ إلى جامعٍ، يعيش في جنّة، يسافر إنسانٌ آخر من مَلهى إلى مَلهى، كلاهما مسافران.
مرّة كنتُ في ِدَرسٍ في الطاووسيّة، جاءَ أخٌ من الخليج، حضَر الدّرْس، أراد أشرطة وكُتباً، أنا والله كبُر بعيني، جاء من بلد لبلد، قال لي: الْتَقيْت بالعالم الفلاني، والجامع الفلاني، وحضرْت درسًا لفلان، وحضر عندنا أيضاً سُرّ، جاء من بلد إلى بلد يبْحث عن العلماء، والدعاة إلى الله، وهناك إنسان يبحث ببَعْض الأحياء، هناك أحياء بالشام لا ترضي الله عز وجل يذهبُ، يقول لسائق السيارة: خُذني إليها مباشرة، فالهمّة العاليَة تسْتوحشُ من الدنيا، والفانية هي الدنيا وما عليها، فالقلب قلبُ صاحب الهمّة العاليَة يزْهدُ فيها وفي أهلها، إليك عنّي يا دنيا فقد طلّقْتُك بالثلاث، كما قال سيّدنا عليّ؛ شأنك خطير، أمدك قصير، غُرِّي غيري، وأما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وَحشةٍ من أجسامهم، إذْ فاتها ما خُلقَت له، فهي في وحشة لفواته، فرْق كبير بين زاهدٍ في الدنيا وبين متعلّقٍ بها، الزاهدون في الدنيا يرونها مُوحشةً لهم، لأنّها تَحوُل بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم.
صدقوني أيها الإخوة؛ أحيانًا إخوان كرام يجلسون في مَجْلسٍ، في بيت، يدورُ حديثٌ عن الله عز وجل، وعن الآخرة، وعن كمال الله، وعن كمال الأنبياء، يقول لك وهو صادق: كُنَّا في جّنة، قد تكون الغرفة متواضعة جدًّا، جلسوا على الأرض، قد يكون قُدِّمَت لهم ضيافة بسيطة جدًّا، يقول لك: كنَّا في جنّة، وأحيانًا تكون بمكانٍ جميلٍ جدًّا، وفخْمٍ جدًّا، لكن لا يوجد سرور، هذه السكينة يُلقيها ربّنا على من يشاءُ من عباده.
الزاهدون في الدنيا ينظرون إليها بالبصائر، والراغبون فيها ينظرون إليها بالأبصار، الراغب يراها بِعَينِهِ، هناك مركبة جميلة جدًّا، وهناك امرأة جميلة، وهناك بيت جميل، وقصر جميل، أما المؤمن فهو يرى بالبصيرة، يرى أنّها فانيَة، لابدّ من أن يدَعها إلى جنّة عرضها السماوات والأرض.
طالبته بشيءٍ من الدنيا، قال لها: والله إنَّ في الجنّة من الحور العين ما لو أطلَّتْ إحداهنّ على الأرض لغلبَ نور وجهها ضوء الشّمس والقمر، فلأَنْ أُضحِّي بكِ مِن أجلهنّ أهْوَنُ مِن أن أضحِّي بهنّ من أجلكِ.
فصاحبُ الهمّة العاليَة تحْملُه هِمَّته على الرّغبة في الدار الباقيَة لا في الدار الفانية، وهو الحق سبحانه وتعالى، بالمناسبة المؤمن الصادق هدفهُ الله عز وجل، هِمَّتهُ العاليَة تقتضي أنّ أيّ شيءٍ يقرِّبُه من الله عز وجل يتعلّق به، وأيّ شيءٍ يُبعدُه عن الله ينقطِعُ عنه، صديقان؛ صديق مؤمن، حديثهُ عن الله، يتعلّق به، يزورهُ، يحرصُ على صُحبته، صديقٌ آخر دُنْيَوي، كلّ حديثه عن الدنيا، والطّعام والشراب والنّساء، يبتعِدُ عنه، المسجدُ يأوي إليه، الأسواق ينفرُ منها، فكُلّ شيءٍ يقرِّبُك من الله تتمسَّك به، كلّ شيءٍ يبعِدُك عن الله تعالى تبتعِدُ عنه.
كلّما ازداد إيمانك علَتْ همّتك وصار همّك طلب العلم:
أيها الإخوة؛ تكادُ تكون الهمّة محرّكاً، مركبة بلا محرّك، لو أنّها جميلة، ولونها زاهٍ، وفَخْمة في مقاعدها، لكن من دون محرك لا قيمة لها، المحرِّك أساس المركبة، وأنت في الطريق إلى الله عز وجل، أهمّ شيءٍ في حياتك هذه الطاقة المُحرّكة، هذه الهمّة العليّة، ولا تَنْسَوا المقولة الثابتَة التي وردَت في الأثر: عُلُوُّ الهمّة من الإيمان، كلّما ازداد إيمانك علَتْ همّتك، صار همّك طلب العلم، هناك بالإنسان حاجات عُليا، وحاجات دنيا، صاحبُ الهمّة العليّة تستيقظُ عندهُ الحاجات العليا، طلبُ العلم يأتي في رأس هذه الحاجات العليا، وصاحبُ الهِمّة الدنِيَّة حاجاتهُ دُنيا، حاجاته كما ورد:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ . ))
تعِسَ عبد الدّرْهم والدّينا، تعسَ عبدُ البطن، تعسَ عبد الخميصة، الذي يَعتني بِثِيابِه إلى درجة أنّه يكرهُ أن يُصلّي للحِفاظ على أناقة ثِيابِهِ مثلاً، هذا عبْدٌ للخميصة، والذي همّه الطعام والشراب، وهمّه النّساء، وهمُّه الدّرهم والدِّينار، هؤلاء عبيد، مَن هم الأحرار؟ الذين همّهم الله عز وجل، كان عليه الصلاة والسلام تعْظُم عندهُ النّعمة مهما دقَّتْ، لأنّه يعظّمُ المنعِم، لكن لم يكن يغضبُ للدنيا أبدًا، سيّدنا الصّديق لمْ ينْدَم على شيءٍ فاتَهُ من الدّنيا قطّ، لا يندم.
2-يأنف أن ينزل من مقامه العالي إلى مقام أهل الدنيا:
صاحبُ الهمّة العاليَة يأنَفُ أن ينْزلَ من مقامِهِ العالي إلى مقام أهل الدّنيا، هو ليس متكبِّرًا، ولكنْ في مُستوى رفيع، أضْربُ لكم مثلاً: لو أنّ طالبًا حصّل عِلْمًا من أعلى مستوى، هو في صُفوف عاليَة جداً في الجامعة، واختِصاصهُ نادر، وأمامه آفاق واسعة جدًّا، هذا لو جلسَ مع أُناسٍ تافهين من سُوقَة الناس وعامّتهم، وحديثهم كلّه مزاحٌ رخيص، تعليقات سخيفة، وكلمات سمجة، ينفرُ نفورًا شديدًا من هؤلاء، هو في واد وهم في واد، أكْبَرُ نِعمة مِن نِعَم الله أن يكون الذين حولك على شاكِلَتِك، في المستوى العلمي الذي أنت فيه، في مُستوى النّقاء الذي أنت فيه، في مُستوى الطُّهْر الذي أنت فيه، في مستوى الهِمّة العَلِيّة التي أنت فيها، هذا أعظمُ عطاءٍ إلهي، لذلك الله عز وجل اختارَ النبي عليه الصلاة والسلام، واختارَ له أصحابهُ، وكلما كان الذين حولك من مستوى عال، وهذا من مهمّات المؤمن:
(( عن أبي سعيد الخدري: لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ. ))
[ صحيح أبي داود: خلاصة حكم المحدث: حسن ]
صاحب مؤمنًا، تتذاكَر معه العِلْم، فتَرْقى به، ويرقى بك، صاحب مؤمنًا عندهُ حياء لا يتكلّم إلا الكلمة الراقيَة، صاحب مؤمنًا عندهُ كرَم، صاحِب مؤمنًا عندهُ رحمة، صاحب مؤمناً سِتِّيراً لا يفْضحُك، صاحِب مؤمنًا شُجاعًا لا يخذلُك، صاحب مؤمناً مخلصًا لا يُسْلمُك، والله صُحبة المؤمنين جنّة في الدُّنيا، إذا كان بالدّنيا يوجد جنّة، هي أن تصْحَبَ مؤمنًا، كلّه كمال، أخلاق عاليَة، أدَب، ورَعٌ، أنَفة، عِفّة، حِشْمة، صاحب إنساناً دُنيَوياً، دنيئاً، خسيساً، غدّاراً، كذّاباً، وصولياً، أنانياً، مصلحجي بالتعبير الشائع.
3-صاحب الهمة العالية يطلب ربه طلباً تاماً بكل معنى واعتبار في عمله:
قال: صاحب الهمّة العاليَة يطلبُ ربّهُ طلبًا تامًّا بكلّ معنًى واعتبار في عمله، يطلبُ ربّه بعمله، عملُه مُتقَن، فيه صِدق، فيه أمانة، وعبادته، ومناجاته، ونومه، ويقظته، وحركته، وسُكونه، وعُزلته، وخلْطَته، وسائر أحواله، لقد انْصبغَ قلبهُ بالتوَجُّه إلى الله تعالى أيَّما صِبغة، وهذا الأمْر إنَّما يكون لأهل المحبّة الصادقة.
سيدنا عمر شيءٌ عجيبٌ مع أنّ النبي عليه الصلاة والسلام بشَّره بالجنة، سألَ سيّدنا حذيفة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام: بِرَبِّكَ هل أنا مع المنافقين؟ قال له: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ما تفسيرُ ذلك؟ مِن شِدّة خوفِهِ من الله تعالى، ومن شِدَّة حِرصِهِ على طاعة الله تعالى، ومِن شِدّة تعلُّقِهِ بالآخرة، مع أنّ النبي عليه الصلاة والسلام بشَّرهُ بالجنّة، قال له: أُنْشِدُك الله هل جاء اسمي مع المنافقين؟ كان حذيفة أمينَ سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أما الآن تجِدُ إنسانًا غارقًا بالمعاصي يقول لك: أنا إيماني أقْوَى من إيمانك، غارقٌ بالمعاصي والموبقات، ويدَّعِي أنّ إيمانه كإيمان الصدِّيق، هذه وقاحةٌ بالإنسان.
متابعة الهمة إلى الله عز وجل:
أيها الإخوة؛ اخترت هذا الدرس بعد رمضان كي نتابع الهمة إلى الله عز وجل، وكي نجعل من الأشهر التي بعد رمضان كرمضان إن شاء الله، الإنسان كما قلت قبل قليل: قد تَجِدُ ملكاً بيَدِهِ كلّ أمور مملكته، لكن لا طريق إليه، لا سبيل إليه، لكنّ الله عز وجل ملِك الملوك، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ أنت حينما تنتهي عمّا نهاك الله عنه، وحينما تعملُ صالحًا تصِلُ إلى الله تعالى، والله عز وجل ينتظرُك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق