وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 011 - الإتصال بالله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

منزلة الاتصال :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ مع درسٍ جديد من مدارج السالكين , ومنزلة اليوم :
 منزلة الاتصال .

تمهيد :

 الحقيقة : حول هذه الكلمة لا أدري من أين أبدأ ؟
 إذا قلتُ لكم : إنَّ الدين كله من أجل أن تتصل بالله عزّ وجل , لا أكون قد ابتعدتُ عن الحقيقة .
 إذا قلتٌ لكَ : إنَّ العباداتِ كلها من أجل أن تتصلَ بالله عزّ وجل , لا أبتعد عن الحقيقة .
 إذا قلتُ لكَ : إنَّ تسخير السموات والأرض لهذا الإنسان , من أجل أن يعرف الله عزّ وجل , ويتصل به , فيسعدَ بهذا الاتصال , لا أكون قد بالغت .
 بل إنَّ الاتصال هو غاية الغايات , بل هو حال أهل الجنة , إنَّ كلَّ ما شرعه الله عزّ وجل من عباداتٍ , ومن معاملاتٍ , ومن تنظيماتٍ , من أجل أن تتفرغ لمعرفة الله , وللاتصال به .
 رمضان من أجل أن تتصل به ، الحج من أجل أن تتصل به ، الزكاة من أجل أن تتصل به ، الصلاة من أجل أن تتصل به .
 إن قلتُ لكم : إنَّ الاتصالَ بالله عزّ وجل غاية الغايات , فهذه حقيقةٌ لا ريبَ فيها , بل الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نكونَ ربانيين .
 الرباني : هو الإنسان الذي يسعى لُحسنِ علاقةٍ بالله عزّ وجل ، لحُسنِ اتصالٍ به .

حقيقة الكون :

 لأنَّ في الكون حقيقةً واحدة ، هذا الكون بمجراته ، بكزاراته ، بنجومه ، بمذنباته , بكواكبه السيّارة ، بكواكبه ، بأرضه , ببحاره ، بأسماكه ، بأطياره، بنباتاته ، هذا الكون كله مُستمدٌ وجوده من الله عزّ وجل :

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾

[سورة البقرة الآية: 255]

 في الكونِ حقيقةَ واحدة وهي الله ، لذلك :
 أيُّ سلوكٍ ، أيٌّ فِكرٍ , أيُّ اطلاعٍ ، أيُّ تعلمٍ يُقرّبَكَ من هذه الحقيقة فهو مشروع .
 وأيُّ شيء يُبعدكَ عن هذه الحقيقة فهو مُحرّم .
 ليسَ في الكونِ إلا الله , الحقيقة الأولى والأخيرة , هو الظاهر والباطن , هو الأول والآخر .

معاني الإتصال :

 فقلتُ لكم في أول الدرس : لا أدري من أينَ أبدأ ؟ المرتبة اليوم مرتبة الاتصال .
 الاتصال هو الدين .
 الاتصال هوَ سِرُ وجودكَ في الأرض .
 الله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا , ورحمته بأن نتصلَ به .
 إنكَ إن اتصلت بمخلوقٍ على شيء من الميزات تسمو .
 إنكَ إن اتصلت اتصالاً بصرياً بمنظر جميل تسعد .
 إنكَ إن اتصلت اتصالاً سمعياً بنغم جميل تطرب .
 إنكَ إن اتصلت بحقيقةٍ علمية تستمتع .
 فكيفَ إذا اتصلتَ بالحقيقة الأولى والأخيرة ، بِسرِ القوة في الكون ، بِسرِ الحِكمة ، بِسرِ الرحمة ، بِسرِ الغِنى , بِسرِ القدرة ؟ .
 الدين كله اتصال .
 الكون خُلقَ من أجل أن تعرفه , وما معرفة الله عزّ وجل إلا وسيلةٌ لغاية ، الغاية أن تسعدَ بهذه المعرفة ، أن تسعدَ بهذا القرب .
 لذلك : منزلة الاتصال منزلة لها طعمٌ خاص , لأنها سِرُ الدين ، لأنها جوهر الدين ، لأنها هيَ الدين ، لأنها سِرٌ وجودكَ في الأرض .
 خلقتُ لكَ ما في الكون من أجلك فلا تتعب , وخلقتكَ من أجلي فلا تلعب , فبِحقي عليك لا تتشاغل بِما ضَمِنته لكَ عما افترضه عليك .

لو شاهدت عيناك من حُسـننا  الذي رأوه لَمـا وليتَ عنّا لغيرنا
ولو سمعت أذناكَ حُسنَ خِطابِنا  خلعتَ عنكَ ثياب العُـجبِ وجئتنا
ولو ذُقـت من طعم المحبة ذرةً  عذرتَ الذي أضـحى قتيلاً بِحبنا
ولو نسمت مـن قربنـــا لك نسمةٌ  لّمُتَ غريباً واشتياقا لِقربنا
فما حُبنــا سهلٌ وكلُّ من ادعى  سهولته قُلنــا له: قد جَهِلتنـا

 الآن :

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[سورة طه الآية: 14]

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

[سورة العلق الآية: 19]

﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾

[ سورة العنكبوت الآية: 45]

 أنا في حيرة بالغة ، هذا موضوع المواضيع ، هذا هو الدين كله , أن تكونَ لكَ صِلةٌ بالله حَسنة ، لذلك كلما ارتقى إيمانك , امتلكتَ ما يُسمى بميزان دقيق , لو أنكَ تكلمتَ كلمةً فيها استعلاء , لشعرتَ بالبعدِ عن الله عزّ وجل ، لأنَّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً ، الكامل لا يُقربُ إلا الكامل ، أنت على مستوى من الإيمان , لا تستطيع أن تُجالس إنساناً بذيء اللسان , لا يمكن أن تجلس معه , أنتَ على مستوى من إيمان , لا يمكن أن تُجالس إنساناً خائناً , إنساناً فُاحشاً .
 فالموضوع :
 الله سبحانه وتعالى هو الحقيقة الوحيدة في الكون , وكلُّ الكون يستمدُّ وجوده من الله عزّ وجل ، يستمدُّ خصائصه ، صفاته من الله , ليسَ في الكون إلا الله , هذا هو التوحيد , وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد .
 في الكون حقيقتان :
 1- الله عزّ وجل هوَ كلُّ شيء .
 2- والاتصال به كلُّ شيء .
 فأول فكرة : الله هو الحقيقة الأولى والأخيرة الوحيدة , والاتصال به هو جوهر الدين .
 نحنُ صائمون من أجلِ أن نتصلَ به ، نصلي من أجلِ أن نتصلَ به ، نحجُ البيت الحرام , ندفع عشرات الألوف , ندعُ أولادنا وأهلنا وأعمالنا , ونذهب إلى بلادٍ حارة , حيثُ الازدحام , من أجلِ أن نشعرَ أننا فعلنا شيئاً من أجله , حتى نُقبلَ عليه ، حتى نتصلَ به ، حتى نسعدَ بهذا الاتصال ، هذا مقام الاتصال بالله عزّ وجل .
 فأنا أعتقد : أنَّ المؤمن بعد حين من إيمانه , بعد فترة يملك ميزاناً دقيقاً , أيُّ عملٍ يُقربه من الله يفعله , وأيُّ عملٍ يبعده عنه يدعه , وميزانه نفسه ، القصة التي إذا حدثتَ الناسَ بها شعرتَ بانقباض , وشعرتَ بحجابٍ بينكَ وبين الله , هذه معصية معناها ، كلما شفّت نفسك أصبحت نفسك ميزاناً , وكلما بَعُدَ الإنسان عن الله عزّ وجل , أصبحَ ميزانه غير دقيق , لذلك المؤمن ذنبه كجبلٍ جائمٍ على صدره ، بينما الكافر ذنبه كالذبابة .

أنواع الاتصال :

 قال الاتصال أنواع :
 اتصال اعتصام , واتصال شهود , واتصال وجود .

1- الاعتصام :

 أول أنواع الاتصال أن تعتصمَ بالله , أن تُطبقَ أمره بحذافيره ، أن تكونَ ورعاً ، قال تعالى :

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾

[سورة آل عمران الآية: 103]

 أحياناً: إنسان يتفضل على إنسان بعطاء كبير جداً, فهذا المُعطى يَتَقصّد أن يُرضي المُعطي بكلِّ أسلوب، بأيّة طريقة، بأيّ موقف، فإن كان يعلم أنَّ هذه الرائحة يُحبها عطّره بها ، إن كان يعلم هذا الكتاب يُحبه قدّمه له، همه الأول والأخير أن يتقرّبَ من هذا المُحسن، لذلك المؤمن يصبح في النهاية همه الأول: أن يتقربَّ من خالقه؛ بالاستقامة، بالأعمال الصالحة، بخِدمة الخلق، بالصبر, بالتحمل، بمجاهدة النفس والهوى .
 فقال أول أنواع الاتصال : اتصال الاعتصام , ومن يعتصم بالله , طبّق أمره عزّ وجل ، بشكل مُجسد : حينما تتحرك الأم في الطريق , ومعها طفلها الصغير, يلحقها ويعتصم بها، يُمسك ثوبها أحياناً، شعور الالتصاق، شعور الحب، شعور الانتماء، إمساك الطفل بيد أمه, أو بثوب أمه, أو حينما يحيطها بذراعيه, هذا دليل الحب، دليل الشوق، دليل الانتماء، دليل القرب ، المؤمن بشكل أو بآخر: اعتصامه بالله عزّ وجل عن طريقِ طاعته لله عزّ وجل .
 إذا مرت امرأةٌ في الطريق, فإذا ألقى عليها نظرةً, شعرَ بالبعدِ عن الله عزّ وجل, لأنَّ هناكَ نهي, فإذا غضَّ بصره عنها شعرَ بالقرب، إذا رأى مسكيناً فرقَّ له شعرَ بالقرب، إذا رأى سائلاً صادقاً فأعطاه شعرَ بالقرب، إذا رأى إنساناً أساء إليه, وبإمكانه أن يعفوَ عنه, في عفوه عنه يقرّبه منه, يعفو عنه، الإنسان المؤمن في سبيل الله عزّ وجل يضع نفسه تحتَ قدميه لا ضعفاً ولكن تواضعاً، قال: هذا اتصال الاعتصام .

2- الشهود :

 واتصال الشهود : أن ينتقل من مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان .
 الإيمان معه ذوق ، معه رؤيا ، الإسلام معه تطبيق ، لو أنه طبّقَ أمرَ الله عزّ وجل تطبيقاً دقيقاً فهوَ مسلم ، فهو معتصم بحبل الله ، معتصم بأمر الله ، أما إذا بَعُدَ اعتصامه بأمره أقبلَ عليه , صارَ اتصاله اتصال شهود ، كان اتصال اعتصام صار اعتصام شهود .
 أما إذا بلغَ مرتبة الإحسان فاتصاله أصبح اتصال وجود ، بينَ إعتصامٍ وشهودٍ ووجود .
 الآيات , قال تعالى:

﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾

[سورة الحج الآية: 78]

 الإنسان يفتخر بعلاقته بفُلان, يراه مكسباً كبيراً, وأحياناً إنسان يستحيي من علاقته بفُلان، ربنا عزّ وجل يقول:

﴿واعتصموا بالله هو مولاكم فنِعمَ المولى ونِعمَ النصير﴾

 آية ثانية:

﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[سورة آل عمران الآية: 101]

 أنتَ في أكملِ حالاتك حينما تعتصم بالله عزّ وجل .
 آية ثالثة :

﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾

[سورة النساء الآية: 146]

 تابوا, وأصلحوا, واعتصموا, تمسكوا بالاستقامة, لذلك الاستقامة عينُ الكرامة:

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

[سورة هود الآية: 112]

 أنتَ تطلب من الله الكرامة, وهو يطلبُ منكَ الاستقامة .
 آية رابعة:

﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً﴾

 المعنى الأول : أن تعتصمَ بالله فهذا نوعٌ من أنواع الاتصال به ، أن تعتصمَ به فهذا نوعٌ للاتصال به ، أو أن تستقيم على أمره فهذا يدفعكَ إلى الاتصالِ به، أن تطيعه يرفعُ لكَ الحِجاب, هناك حُجبٌ كثيفة, كلُّ معصيةٍ حِجاب, فإذا أطعته رفعَ لكَ الحِجاب، هذا اتصالُ الاعتصام .
 الاعتصام نوعان ؛ اعتصام توكل, أنتَ متوكل عليه اتكالاً حقيقياً, مستعين به، مفوضٌ له، ملتجئ إليه، مستعيذٌ به، مُسلمٌ إليه، مستسلمٌ لأمره، هذا نوع .
 النوع الآخر: الاعتصام بالوحي؛ أي الاعتصام بالقرآن بأمره ونهيه، إما اعتصام علمي، أو اعتصام نفسي، إن اعتصمت بقرآنه وسُنّةِ نبيهِ, فأنتَ متصلٌ بالله اتصالَ اعتصام وحي, أما إذا اتكلتَ عليه، وفوضتَ إليه، وسلّمتَ إليه، وأطعته، وأرحتَ قلبكَ من هم الدنيا، واخترته على من سِواه, هذا اعتصام من نوع آخر .
 من معاني أن تعتصم بالله بكتابه أو بوحيّه: أن تُحكّمَ القرآن دونَ آراءِ الرِجال، فُلان له رأي، النظرية الفلانية، آراء الناس, ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم، ليست بشيء أمام مواجيد القرآن، وأذواق القرآن، وقِيم القرآن، وما في القرآن, علامة اعتصامك بالله .
 الاعتصام نوعان؛ اعتصام بكتابه اعتصام علمي، اعتصام استسلام وتفويض وتوكل اعتصام نفسي، فيجب أن تستسلم نفسكَ لله عزّ وجل, وأن يستسلم عقلكَ له، بمعنى أن خالقَ الكون, هذا كلامه, هو الحق، هو الصدق، هو المُحكم، هو الدقيق، هو الواقع، هو المصداقية .
 أما اتصال الشهود : هو اتصال الحال والمعرفة ، قضية فكرية ، في قضية نفسية ، شَهِدتَ كماله فأحببته، اقتربتَ منه, فشعرتَ بطعم القرب, فَلَزِمتَ القُرب، أصبحَ هذا حال, كُنتَ في العقلِ والطاعةِ، كُنتَ في العِلم والعمل, فأصبحت في الحال والمعرفة، العِلم والعمل مرتبة، والحال والمعرفة مرتبة ثانية .
الحديث عن اتصال الوجود، من أينَ جاءَ المؤلفُ بهذه العبارة اتصال الوجود؟ أخذه عن الحديث القدسي:

((ابنَ آدم اطلبني تجدني, فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيء, وإن فِتُكَ فاتكَ كلَّ شيء))

 أول مرحلة : رأيتَ أن هذا القرآن كلامُ خالِقُ الكون، يجب أن تُطبّقه, هذا اعتصام وحي، اتصال اعتصام وحي، ثم رأيته أهلاً أن تتكلَ عليه, توكلتَ عليه, هذا اعتصام استسلام، اتصال اعتصام استسلام، لكن الآن بعدَ أن استقمتَ على أمره, وتوكلتَ عليه, رأيتَ من جماله ، رأيتَ من كماله، رأيتَ من لطفه، رأيتَ من رحمته.
 الآن: دخلنا في مرتبة أخرى من مراتب الاتصال وهي: اتصال الشهود, اتصال الشهود ينعكسُ على قلب المؤمن بحال ومعرفة، المعرفة أرقى من العِلم السابق، والحال أرقى من شعور الانتماء إلى الله عزّ وجل، صار لكَ حالٌ مع الله عزّ وجل, هذه مرتبة ثانية .

 

3- الوجود :

 أما المرتبة الثالثة : وصلتَ إلى شيء, وقد ثَبَتَ هذا الشيء بينَ يديك، وجدته، وجدتَ الله عزّ وجل كلَّ شيء، وجدتَ نفسكَ تعرفه وأنتَ مُقبلٌ عليه، إذاً: هذا الكنز الذي حصلتَ عليه, أصبحَ مِلكاً بينَ يديك, كنزُ المعرفة، كنز الطاعة، كنز الحب، هذه المرتبة الثالثة سماها بعضُ العلماء: مرتبة الوجود.
من بلغ هذه المرتبة قال: إذا تابَ إليه وجده غفوراً رحيماً، وإن توكلَ عليه وجده حسيباً كافياً، وإن صدق في الرغبة إليه وجده قريباً مُجيباً، وإن صدقَ في محبته وجده حبيباً، وإن صدقَ في الاسغاثة به وجده كاشفاً للكربِ مُخلّصاً منه، وإن صدقَ في الاضطرارِ إليه وجده رحيماً مغيثاً، وإن صدقَ في اللجوء إليه وجده مؤمّناً من الخوف، وإن صدقَ في الرجاء وجده عِندَ حُسنِ ظنه.
 هذا معنى الحديث القدسي:

((ولئن سألني لأعطينه، إن دعاني لأجيبنّه، إن سألني لأجيبنّه))

 وجدَ الله عزّ وجل, فبينَ الاعتصام تمسك بالطاعة، وبين الإقبال على الله الشهود، وبين الوجدان وهو أعلى مرتبة في مراتب المؤمنين .
 بالوجود كنتَ تريدُ منه، المرتبة الأعلى أصبحتَ تريدُ، من أحبنا أحببناه, ومن طلبَ منّا أعطيناه, ومن اكتفى بنا عمّا لنا, كُنا له وما لنا, طبعاً: هذا الكلام أقول لكم كلاماً نظرياً؛ لكن من سَلَكَ طريق الإيمان, وحرصَ على طاعة الرحمن، وبذلَ الغالي والرخيص، والنفسَ والنفيس, وجَهِدَ أن يكونَ عِندَ الله محبوباً, يعرفُ معنى هذا الكلام, كما قال بعضُ العُلماء: لا يعرف ما نقول إلا من اقتفى أثرُ الرسول، لا يعرفُ الشوقَ إلا من يُكابده, ولا الصبابة إلا من يعانيه.
 الإنسان يتزوج، يسعد في زواجه، إنسان رقيق المشاعر، جميل الصورة، مؤنس، مُطلّع، ذكي مثلاً، مصدر سعادة وأُنس للآخرين، فالزواج يُسعد, فلو أنَّ إنساناً تعرّفَ إلى الله عزّ وجل, وهو مصدر الجمال، مصدر الكمال، مصدر القوة، مصدر الغِنى, هذا الذي نحرص عليه حُسنُ الصِلةُ بالله عزّ وجل، هو مقام ولكن كونوا ربانيين, والرباني الذي يسعى لُحسنِ صِلةٍ بالله عزّ وجل .
 الآن: فُلان وجد نفسه، أو وجد ربه، معنى وجد نفسه: يعني أصبحت نفسه طوعَ بنانه، هناك نفسٌ تُعاند صاحِبها, يحملها على الطاعة فلا يستطيع، يحملها على الصدق فلا يستطيع، يحملها على غض البصر لا يستطيع، غارق بالمعاصي, كلما جاهد نفسه أن تستقيمَ على أمر الله لا يستطيع، في مرتبة عالية بالإيمان نفسه طوعُ بنانه، تَغُضُ البصر بيُسر، تصدق بيُسر، تبتعد عن الدنيا بيُسر, دون صراع، دون مجاهدة, معناها مَلَكَ نفسه، إما أن تَملِكه نفسه وإما أن يملكها، وإما أن تقع المُشادةُ بينكَ وبينها, تملِكها مرةً وتَملِككَ مرة أخرى، لكن بمرتبة الوجود, مَلكتَ نفسكَ واسترحت.
ربنا عزّ وجل قال:

﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾

[سورة الذاريات الآية: 54]

 يعني بلغتَ أيها النبي مرتبةً, لستَ ملوماً عِندنا, ولا عِندَ الخلق, ولا عِندَ نفسك:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

[سورة القلم الآية: 4]

 الخُلق عِندك ليس صِراعاً، الإنسان يكون في مجلس, يأتي ذِكر فُلان, يبدأ يحكي عنه ويسكت, أحياناً يُستفز من إنسان, يتمنى أن يكيل له الصاع صاعين, يُحجب, وقع بصراع، هذه مرتبة طيبة جداً, لكن هناك أرقى منها, أرقى أن تكونَ متمكناً من الخُلقِ الحسن:

﴿وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيم﴾

 هذه مرتبة الوجدان, وجدتَ نفسكَ؛ أي أصبحت طوع بنانك، أصبحت منقادةً لك، أصبحت في خِدمتك، وجدتَ ربك، كلما سألته أجابك، كلما دعوته لبّاك، كلما عرضتَ عليه حاجةً أعطاكَ إياها، كلما التفتَ إليه وجدتَ سعادةً, معناها وجدتَ نفسكَ ووجدتَ ربكَ، طبعاً هذه مرتبة ثالثة؛ يأتي قبلها الاعتصام، الاستقامة، اعتصام نفسي، اعتصام علمي، بعدها المشاهدة، الاتصال بالله عزّ وجل، والشعور بالقُرب، يأتي بعدها الوجدان، وجدان النفس ووجدان الله عزّ وجل .

 

تفاصيل :

 نعود مرةً إلى بعض التفصيلات , نتحدثُ مرة ثانية مع بعض التفصيل عن اتصال الاعتصام .

اتصال الاعتصام :

 الإنسان يكون له قصد دنيوي, فأول مرحلة من مراحل الاعتصام: أن تُصححَ القصد، لماذا أنتَ هنا في هذا المسجد؟ في قصد، لماذا قُلتَ هذا الكلام؟ لماذا وقفتَ هذا الموقف؟ لماذا أعطيتَ هذا العطاء؟ لماذا منعت؟ لماذا غضبت؟ لماذا رضيت؟ لماذا أحببت؟ لماذا كرهت؟ ما الدافع وراء كلِّ هذه المواقف؟ هل الدافعُ رِضوان الله عزّ وجل؟ إن كُنتَ كذلك فأنتَ في مرتبة الاعتصام، في تصحيح القصد، ثم تقوية الإرادة، الاعتصام يحتاج لإرادة.
 انظر إلى الناس, أكثرهم قناعات جيدة, لكن التطبيق ضعيف، يوجد شيء مفقود, عنصر الإرادة الذي يعينُ على تطبيق القناعات, فالإنسان حينما يُصححُ قصده تقوى إرادته, وبعدها يتحققُ له حالٌ طيبٌ مع الله عزّ وجل, تحقيق الحال، تقوية الإرادة، تصحيح القصد, هذا كله متعلقٌ بالاعتصام, لن تكونَ معتصماً بالله إلا إذا صحَّ قصدك، وقويت إرادتك، وصَلُحَ حالك .
 تفسير آخر: تصحيح القصد يحتاج إلى إفراد المقصود, لا يوجد إلا الله عزّ وجل، نعيش بمجتمع, لكَ رئيس بالدائرة، لكَ مرؤوس، لكَ زوجة، لكَ أولاد، لك جيران، يَهُمكَ سِمعتُكَ عندهم، يَهُمكَ مكانتك عندهم، فربما اتجه القصد إلى غير الله, إلهي أنتَ مقصودي ورِضاكَ مطلوبي، لا تأخذكَ في الله لومة لائم، لا تخشى إلا الله، لا ترجو إلا الله, أنتَ الآن أفردته بالمقصود وجمعت الهمَّ عليه .
 تصفية الإرادة، وتقويتها، تخليصها من الشوائب، ومن تعلقات السِوى والأعواض, لن تكونَ الإرادة قوية إلا إذا أردت الله وحده, فإذا أردتَ سِواه تشعبت الإرادة، هذه الحزمة الضوئية تبعثرت, تشتت، وتحقيق الحال لا يكون إلا بالتطبيق, مستحيل أن تتعلم ولا تطبق, وأن تشعر بحالٍ طيب مع الله عزّ وجل, دائماً حالك حال أهل الدنيا, في قلق، في ملل، في حيرة، في سأم، في ضجر، لكنك إذا طبقتَ ما علمت, عَمِلتَ بما علمت, الله سبحانه وتعالى تفضلَّ عليكَ بحالٍ مُسعد .

اتصال الشهود :

 الدرجة الثانية اتصال الشهود , قال : خلاص الشهود من الاعتلال, شهود ضبابي، شهود معه ضعف، شهود نوبي، شهود غير مستمر، وغِناه عن الاستدلال, وسقوط شتات الأسرار, كلامٌ دقيق .
 يقول لكَ شخص: في البيت يوجد كهرباء, طبعاً بالنهار, تقول له: ما الدليل؟ يبحث لكَ عن دليل، أما لو دخلتَ البيت ليلاً, ورأيت الثُريا متألقة, هل تحتاج إلى دليل؟ الوجود يُغني عن الدليل، فلذلك الاتصال بالله عزّ وجل اتصال الشهود من شوائبه أن يفتقر إلى دليل، ومن شوائبه التشتت، أما اتصال الشهود لا اعتلال فيه، ولا استدلال، ولا شتات أسرار، في توحد, هذه الأحوال وهذه المقامات, من ذاقَ عرف، والطريق إلى الله عزّ وجل سالكة، وكل إنسان يقدر في كل وقت أن يتقرّب من الله عزّ وجل، الله عزّ وجل يُسترضى .

الوسيلة :

 قال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[سورة المائدة الآية: 35]

 هذه الوسيلة ما معناها؟

﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة﴾

 العمل الصالح وسيلة، العمل الصالح منوع؛ في أعمال في البيت، أعمال في المهنة، أعمال في الطريق، أعمال مع الجيران، أعمال ماديّة، أعمال معنوية، الابتسامة عمل، المعاونة عمل, إذاً : الآن الوسيلة هي العمل الصالح:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[سورة الكهف الآية: 110]


 أيضاً: ألا تُحس إذا اطلّعت على حقيقة عن الله عزّ وجل لم تكن تعرفها من قبل, شعرت بالقرب من الله عزّ وجل, إذاً: العلم وسيلة, العِلم وسيلة والعملُ وسيلة, ألا تُحس أحياناً أنكَ إذا جالستَ أهلَ الحق؛ جلست مع مؤمن، سافرت معه، سهرتَ عنده، زرته، ألا تُحس أن حالكَ مع الله أقرب مما لو جلست مع كافر، مع مُعرض، مع بعيد، مع مُنكر، مع مُنافق؟ أن تكونَ مع أهل الحق, هذه وسيلة، المعرفة وسيلة، العمل وسيلة، والبيئة الصالحة وسيلة.
 سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى, عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ, كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ, لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ, وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ, أَوْ ثَوْبَكَ, أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً))

 الوحدةُ خيرٌ من الجليس السوء, ولكنَّ الجليسَ الصالحَ خيرٌ من الوحدة, وسيلة أخرى؛ العلم والعمل, وأن تختارَ أخواناً مؤمنينَ طيبين تعيش معهم دائماً .
 العبادات, نوافل العبادات، قراءة القرآن، صلوات النفل، صيام النفل، هذا وسيلة للقرب من الله عزّ وجل، الدعوة إلى الله وسيلة, قال أحد العلماء: الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.
 وأنتَ تتوضأ وجدت نملة في المغسلة, وكادت تغرق في ماء الوضوء, فتوقفت عن الوضوء وأنقذتها, إذا وجدت إنساناً ضعيفاً, أعنته, أليس هذا عملاً صالحاً؟ .
 يا أيها الأخوة الأكارم, العمل الصالح ثمن اللقاء مع الله عزّ وجل:

﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً﴾

 من أجل رفع مستوى المعرفة بالله عزّ وجل, ما السبيل؟ التفكر, كلما تفكرتَ في ملكوت السموات والأرض, ازدادت المعرفة بالله عزّ وجل، وكلما ازددتَ به معرفةً, ازددتَ به قرباً .
 الذي أتمناه على كلِّ أخٍ كريم, أن يعلمَ عِلمَ اليقين: أنَّ الاتصالَ بالله هو كلُّ شيء في الدين, وأنه لا خيرَ في دينٍ لا صلاة فيه, وأن أيّةَ معصيةٍ إذا شعرتَ أنها أبعدتك عن الله عزّ وجل, أوقعت بينكَ وبينه جفوة, يجبُ أن تبتعدَ عنها، لو جلست مع إنسان, وشعرت أن هذا الإنسان أبعدكَ عن الله عزّ وجل, الأولى أن تبتعدَ عنه، الأولى أن توالي من يوالي الله عزّ وجل ورسوله، لهذا جاءت الحمية اجتماعية:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾

[سورة المائدة الآية: 51]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾

[سورة الممتحنة الآية: 13]

 يوجد شيء اسمه: عدوى نفسية، جلست مع إنسان مُحب لله, تشعر بأشواق لله عزّ وجل، تشعر أنَّ مستوى إيمانك ارتفع، تشعر بشوق إلى طاعة الله، إلى العمل الصالح, إن جلستَ مع أهلِ الدنيا تشتاقُ إلى الدنيا, إن جلستَ مع أصحاب الشهوات تُحبُّ الشهوات, فلذلك: الصاحب ساحب.
قل لي من تُجالس؟ أقل لكَ من أنت
 هذا الاتصال ماذا يُقابله؟ ألم يقل لها: يا وِصال كُنتِ سبب الاتصال, فلا تكوني سببَ الانفصال، يقابله الانفصال .
 قال: فليحذر القريب من الإبعاد، والمتصل من الانفصال، فإنَّ الحقَ جلّ جلاله غيور، لا يرضى ممن عرفه ووجدَ حلاوة معرفته, واتصلَ قلبه بمحبته والأُنسِ به, وتعلقت روحه بإرادة وجهه الأعلى, أن يكون له التفاتٌ إلى غيره البتة, فحينما تلتفت إلى غير الله حصلت الجفوة، وحصل الانقطاع .
سيدنا إبراهيم لمّا حصل التفات إلى ابنه, أمره أن يذبحه, فالاتصال خشية الانفصال .
 الحقيقة الأولى في الكون هي :
 الله عزّ وجل .
 وأيُّ شيء يُقربّكَ من الله عزّ وجل يجب أن تفعله ، وأيُّ شيء يُبعدكَ عنه يجب أن تجتنبه ، بدءاً بالأوامر والعبادات والأعمال الصالحة والنوافل ، وترك المحرمات والمكروهات وكلّ شيء يُلهي عن ذِكر الله عزّ وجل , لا تكون في مستوى الإيمان الحق , إلا إذا ذاقَ قلبكَ طعمَ القُرب , والقُربُ مبذولٌ بينَ يديك , في طاعته واجتنابِ معصيته .
 قال : إذا ضُربَ القلبُ بسوطِ البُعدِ والحِجاب , سُلّطَ عليه من يسومه سوءَ العذاب .

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾

[سورة المائدة الآية: 18]

 استنبط الإمام الشافعي من هذه الآية: أنَّ الله عزّ وجل لا يُعذبُ أحبابه، إذا أحبكَ الله عزَ وجل لا يُعذبك، إذا أحببته لا تُعذب، قد ينسى المرء أن من قصّرَ بالعمل ابتلاه الله بالهم، الهم مشكلة كبيرة, مصيبة البُعد عن الله عزّ وجل, وصارَ قلبّه محلاً للجيفِ والأقذار، وبُدِلَ بالأُنسِ وحشةً, وبالعزِّ ذلاً، وبالقناعةِ حِرصاً، وبالقُربِ بُعداّ وطرداً، وبالجمعِ شتاتاً وتفرقةً .
 اسمعوا هذا الحديث القدسي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ, جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ, وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ, وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ, وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ, جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ, وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ, وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

 لذلك الإنسان مهما تعلّم عليه أن يعمل: ومن عَمِلَ بما عَلم ورّثه الله عِلمَ ما لم يعلم.
 لن تذوقَ طعم القرب، ولا طعم الحال الطيب مع الله عزّ وجل، ولا طعم التوفيق، ولا طعم الطمأنينة، إلا إذا أطعتَ الله عزّ وجل .
 قال بعضهم: احذروا الله فإنه غيور, لا يُحب أن يرى في قلبِ عبده سِواه، القلب منظر الربّ، لا يُحب الله عزّ وجل أن يراك ملتفتاً إلى سواه, عندئذٍ كيفَ يعالجك؟ يجعل الأذى عن طريق هذا الإنسان الذي التفتَ إليه .
 يؤكدُ هذا قولَ النبي عليه الصلاة والسلام:

((لو كنتُ متخذاً من العِبادِ خليلاً, لكانَ أبو بكرٍ خليلي, ولكن أخٌ وصاحبٌ في الله))

 قال: من غيرته جلَّ جلاله: أنَّ صفيّه آدم لمّا ساكنَ بقلبه الجنة, وحرصَ على الخلودِ بها, أخرجه منها، وأنَّ إبراهيم خليله, لمّا أخذَ إسماعيل شُعبةً من قلبه, أمره بذبحه, طبعاً هذا حال الأنبياء, أما أنت إن تعلقت بشيء تعلقاً شديداً ينكسر، الإنسان يتعلق بشيء يزهو به, فيرتكب غلطة كبيرة فتجده يَصغُر.
الله غيور, الشِرك عِنده ذنب عظيم، لأنك اتجهت لغير الله عزّ وجل, إذا لم تتجه لغيره, ولكن علاقتك معه فترت, تأتي مشكلة, لأن الله عزّ وجل يُحب أن يسمعَ صوتَ عبده اللهفان، ناجيه مختاراً قبلَ أن تناجيه مضطراً .
 قال بعضهم: لا إله إلا الله, ما أشدَّ غبنَ من باعَ أطيبَ ما في الحياة في هذه الدار المتصلة بالحياة الطيبة هناك, والنعيم المقيم بالحياة المُنغصّة المُنكّدة المُتصلة بالعذاب الأليم .
 إذا الإنسان باع الآخرة بهذه الدنيا، الدنيا مؤقتة؛ دار ابتلاء وانقطاع وامتحان، فما أشدَّ غُبنَ هذا الذي باع آخرته بدنياه، بل إنَّ بعض العارفين يقول: مساكين أهلُ الدنيا, جاؤوا إليها وخرجوا منها, ولم يذوقوا أطيبَ ما فيها, إنَّ أطيبَ ما فيها الاتصال بالله عزّ وجل .
 جرّب مع أنَّ الله لا يُجرّب ولا يُشارط, لكن لو أنكَ بالغتَ في استقامتكَ, لوجدت الله سبحانه وتعالى معكَ في كل أحيائك .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور