وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 039 - الصفاء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس التاسع والثلاثين من دروسِ مدارج السالكين, في منازِلِ إيّاكَ نعبدُ وإيّاكّ نستعين.

منزلة الصفاء.

 منزِلةُ اليوم هيَ منزِلةُ الصفاء, ومن مِنّا لا يُحبُّ الصفاء؟
 الصفاء بمعنى النقاء، شيء صافٍ أي نقي من كُلِّ شائبة، فهُناكَ صفاءٌ في العِلم، وهُناكَ صفاءٌ في الحال، وهُناكَ صفاءٌ في الهِمّة، والصفاءُ هوَ النقاء.
 المعاني الدقيقة لكلمة الصفاء: وردت هذه الكلمة في قولِهِ تعالى أو ما يُقابِلُها:

﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾

[سورة ص الآية: 47]

 هؤلاءِ الأنبياء مُصطَفون، والمُصطفى مُفتعل على وزن مُفتعل من الصفوة، والصفوة من الشيء خُلاصَتُهُ، الزُبدةُ صفوةُ الحليب، صفوةُ الكلامِ مختَصَرُهُ، وتصفيتهُ مما يشوبُهُ، شيء مُصفّى أي مما يشوبُهُ، واصطفى الشيء لنفسِهِ جعلهُ خالِصاً لهُ من تعلّقِ الشُركاء، اصطفيتُ هذه الدُكانَ لنفسي ليسَ معي فيها شريك، اصطفيتُ هذا البيت، اصطفيت هذه الزوجة ليسَ معها زوجة أُخرى.
 الاصطفاء: أن تستقِل بالشيء.
 والاصطفاء: أن تُصفيَّ الشيء مما يشوبُهُ من الأكدار, والاصطفاء من التصفية, وصفوةُ الشيء خُلاصتُهُ.

علاقة العلم بالصفاء.

 الحقيقة: ما دام الموضوع مُتعلّقاً بالإيمان, فالصفاء لهُ علاقةٌ بالعِلم, ولهُ علاقةٌ بالهِمّةِ والعزيمة, ولهُ علاقةٌ بالحال، فنحنُ في هذا الدرس نَقِفُ وقفاتٍ متأنيةً عِندَ العِلمِ والعزيمةِ والحال, فُلان عِلمُهُ صافٍ؛ أي كُلُ عِلمِهِ حقائق, وكُلُ عِلمِهِ عليهِ أدلّةٌ قطعيّة، عِلمُهُ صحيح، عِلمُهُ يقين، عِلمُهُ مُدعّمٌ بالكتابِ والسُنّة، عِلمُهُ لا شائبةَ فيه, لا خلط، لا شك، لا ريب ، لا ظن، لا وهم، لا خُرافة، لا وهم، عِلمُهُ صافٍ, يعني صحيح ونقيّ من كُلِّ شائبة.
 والعِلمُ الصافي هوَ: العِلمُ الذي جاءَ بهِ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلّم.
 أيها الأخوة الأكارم؛ كُلُنا يحتاج إلى عمليّة جرد، أنتَ لكَ عُمُرٌ, أمضيتَ وقتاً طويلاً, مرةً في المساجد, وفي المدارس, ومع أصدقاء, وفي نَدَوات, وفي سَهَرات, وقرأتَ كُتباً ومجلات, فتجمّعَ في وِعائِكَ العقليّ رُكام من المعلومات، بعضُ هذه المعلومات حقائق، بعضُ هذه المعلومات شُبُهات، بعضُ هذه المعلومات خُدع وأباطيل، بعضُ هذه المعلومات باطِلة.
 فنحنُ الآن بحاجة إلى عملية جرد، قد يكون دون أن ندري تسرّبَ إلى عقولِنا خرافات، أوهام، ظنون بالله, لا تليقُ بِذاتِهِ الكريمة, ولا بِحضرَتِهِ المُقدّسة، فالإنسان عليهِ أن يملِكَ العِلمَ الصافي، العِلمَ النقيّ من كُلِّ شائبة، العِلمَ المبني على أدلّةٍ عقليّةٍ ونقليّةٍ وواقعيةٍ وفِطريّة، العِلمَ الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن ينقُضَهُ لك, هل معلوماتُك؟ هل قناعاتُك؟ هل أفكارُكَ؟ هل تصوراتُكَ من هذا النوع؟ هل عِلمُكَ صافياً؟.
 فالإمام الجُنيد -رَحِمهُ الله تعالى- كانَ يقول: عِلمُنا مُقيّدٌ بالكتابِ والسُنّة.
 الكتاب كلام الخالق، السُنّة بيانُ رسولِ الله، اللهُ جلَّ وعلا أَمَرَ النبي, وقد عَصَمَهُ, وأراهُ ملكوتَ السمواتِ والأرض, وبيّن لهُ كُلَّ شيء, أمَرَهُ أن يُفصّل.
 يعني: كبشر أو كمسلمين أو كمؤمنين ليسَ عِندنا مصدر للحقيقة الصحيحة الصِرفة اليقينيّة القطعيّة إلا مصدران:
 الكتابُ والسُنّة.
 يمكن أن يكونَ الكِتابُ والسُنّة مقياسين، فأيّةُ قِصّةٍ, أيّةُ كلمةٍ, أيّةُ مقالةٍ تقرؤها, أيّةُ نظريّةٌ تسمعُها, أيُّ تصورٍ تطلِعُ عليه, إن لم يكن موافِقاً للكتابِ والسُنّة فهوَ باطل.
 يعني تقريباً: مثل إنسان أمام قِطع من القِماش, عليها لُصاقات وأطوال, وأنتَ معك مِتر صحيح، مِتر مضبوط، فأيّةُ قِطعةِ قِماش, وعليها لُصاقة, فيها طولُها, أنتَ بعمليّةٍ بسيطة تقيسُ هذه القِطعة بالمِتر الذي تملِكُهُ, وتعرف ما إذا كانت هذه اللصاقة صحيحة أم كاذِبة.
 يا أيها الأخوة الأكارم؛ يعني شاءت حِكمةُ اللهِ عزّ وجل: أن نأتي في عصرٍ, فيهِ من الضلالات, ومن الخرافات, ومن الأباطيل, ومن الدجل, ومن الكذب, ومن النظريات الباطِلة والفاسِدة والهدّامة، البرّاقة المُزخرَفة التي تبوحُ لبعض الجُهّال بأنها هيَ الحق، نحنُ في عصرِ الضلالات ولا يُنجينا إلا إذا تمسكنا بالكتابِ والسُنّة.
 النبيُ عليهِ الصلاة والسلام في حجة الوداع, وقبلَ أن يُغادِرَ الدُنيا, وقد رَسَمَ في حجة الوداع منهجَ عملٍ للبشريةِ من بعدِهِ, عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِي اللَّهم عَنْه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي, أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ, وهو كِتَابُ اللَّهِ, حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ, وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي, وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ, فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا؟))

[أخرجه الترمذي في سننه]

 كلامٌ دقيق، كلامٌ قطعيّ, أيُّ شيء تقرؤهُ، أيُّ خُطبةٍ تسمعُها، أيُّ قِصةٍ تَصِلُ إلى سمعِك، أيُّ فرحٍ تطّلِعُ عليه، أيُّ تعليقٍ تُشاهِدُهُ، أيُّ تحليلٍ تقفُ عليه، أيُّ شيء, عِندَكَ مقياس الكتاب والسُنّة.

أمثلة:

 أخي, هذا قرأتُ مقالةً عن دواءٍ يُطيل العُمر:

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 34]

 انتهى الأمر, المقالة باطِلة, معك مقياس أنت.
 أخي فلان شاهدَ الجِنّ:

﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 27]

 فلان محظوظ, قال تعالى:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

[سورة الليل الآية: 5-10]

 التيسير لهُ قانون والتعسير لهُ قانون، ياأخي العالم كُلهُ ظُلم!!! قال تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾

[سورة النساء الآية: 77]

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾

[سورة النساء الآية: 124]

﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة لقمان الآية: 16]

 هذا كُلُه كلام فارغ, أيّةُ قِصةٍ، أيُّ تحليلٍ, يؤكّدُ لكَ: أنَّ هُناكَ ظُلماً عظيماً, لا, هذا ظُلمٌ ظاهريّ, لأنَّ:
 الظالِمَ سَوطُ الله ينتقِمُ بهِ ثمَّ ينتقمُ مِنه.
 أقول لكم كلاماً دقيقاً: أنتَ إذا قرأتَ القُرآن, وتدبّرتَ آياتِهِ, ووقفتَ على مدلولاتِهِ, وتعمقّتَ في مضامينِهِ واستوعبتَهُ, هذا القرآن مقياس لكَ، نورٌ يهدي الله لكَ السبيل، حبلُ اللهِ المتين، برهانٌ من اللهِ عزّ وجل, فإذا آمنتَ باللهِ عزّ وجل إيماناً قطعيّاً, وآمنتَ بأنَّ هذا الكلام كلامهُ بالدليل القطعيّ، هذا الكلام يُخبِرُكَ أنَّ اللهَ عزّ وجل لا يظلِمُ أحداً.
 إذاً: الآن نحنُ نبحثُ عن ماذا؟ عن عِلمٍ صافٍ، ادخل إلى مكتبة, فتجدُ فيها مئات ألوف الكُتب, في حقائق, وفي أكاذيب، وفي ضلالات، وفي تُرّهات، وفي نظريات لم تثبُت بعد، وفي خرافات، وفي باطل مُغلّف بالحق، وفي حق مُغلّف بالباطل, أنـتَ بحاجة إلى مقياس.
 مثلاً؛ من باب الأمثلة: دخلتَ إلى غُرفةٍ, في هذه الغُرفة قِطع من الذهب كثيرة، قيل لكَ: بعضُ هذه القِطع عيار 24, وبعضُ هذه القِطع 21, وبعضُ هذه القِطع 18, وبعضُ هذه القِطع 16, وبعضُ هذه القِطع 11, وبعضُها نحاسٌ مُغلّفٌ بالذهب, وبعضُها نحاسٌ مُلمّع, وبعضُها معدن رخيص, خذ مِنها مئة قطعة, أنتَ الآن بحاجة ماسّة إلى مقياس يكشِفُ لكَ القِطعَ ذات النِسب العالية, فإذا حصلتَ على هذا المقياس, أخذتَ مئة قِطعةٍ من العيار العالي والغالي, فأنتَ من الفائزين.
 إذاً: نحن الآن بحاجة إلى مقياس نقيس بِهِ كُلَّ علومِنا، كُلَّ تصوراتِنا، كُلَّ فهمِنا، كُلَّ عقائدِنا، كُلَّ رواسِبِنا الفِكرية، نقيسُ بهِ ونَدَعُ كُلَّ ما ليسَ صحيحاً ونستبقي العِلمَ الصافي.
 درسنا الصفاء, العِلمُ الذي لا شائِبةَ فيه، أيام الحديد يكون غير صافٍ, فيهِ شوائب, فكميّة هذا الحديد لا قيمةَ لهُ, يحتاج إلى مضاعفة كميّات, لأنهُ كُل قطعة حديد فيها شائبة, هذه مُعرّضة للكسر.
 الجُنيد يقول: عِلمُنا هذا مُقيّدٌ بالكِتابِ والسُنّة, فمن لم يحفظ القُرآن, ومن لم يكتب الحديث, ومن لم يتفقّه لا يُقتدى به, وكانَ يقول:
 علمُنا هذا مُتَشَبِكٌ بحديث رسولِ الله.
 يعني هذا الكلام أهوَ تعصّبٌ للنبي أم ماذا؟.
 أتمنى عليكم ألاّ يُفهمَ هذا الكلام إطلاقاً: أنكَ بما أنكَ مُسلِمٌ وهذا نبيُّك, فأنا مُتعصّبٌ له , لا, الجواب: أنَّ النبيَّ معصوم, عَصَمَهُ اللهُ عن أن يغلَطَ في أفعالِهِ وفي أقوالِهِ، فإذا أردتَ عِلماً صافيّاً لا شائبةَ فيه, فعليكَ بحديثِ رسولِ الله.
 العلماءُ الآخرون, منهم أبو سُليمان الداراني, كانَ يقول: إنهُ لَتَمُرُّ بقلبي النُكتَةُ من نُكَتِ القول.
 النُكتة بالمُصطلح الحديث: الطُرفة, أمّا بالمصطلح القديم: تعني الفِكرة الدقيقة, اللفتة البارعة, الشيء الذي يُلفِتُ النظر.
 فكانَ يقول الداراني-: إنهُ تمرُّ بي النُكتَةُ من نُكَتِ القول, فلا أقبَلُها إلاّ بشاهديّ عدل, وهما الكتاب والسُنّة، إذا أيدتها السُنةّ وأقرّها الكِتاب فعلى العينِ والرأس.
 أيام يقول لكَ واحد: أخي فلان لا يُصلّي, لكن أخلاقُهُ عالية, النبي الكريم يقول:

((لا خيرَ في دينٍ لا صلاةَ فيه))

((الصلاةُ عِمادُ الدين, من أقامَها فقد أقامَ الدين, ومن هَدَمَها فقد هَدَمَ الدين))

 أحد العُلماء يقول: أصلُ مذهَبِنا ملازمةُ الكتابِ والسُنّة, وتَركُ الأهواءِ والبِدع, والاقتداءُ بالسلف, وتَركُ ما أحدثهُ الآخرون, والإقامةُ على ما سَلَكَهُ الأولون.
 مرةً ثانية: ليسَ هذا من باب التعصّب, لأنَّ اللهَ تكفلَّ لنا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطِقُ عن الهوى, أبداً, قال تعالى:

﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾

[سورة النجم الآية: 4]

 أنا أغبِط كُل أخ كريم, عقلُهُ ممتلئ بحقائق يؤكدُها القرآنُ والسُنّة، وأتحسّر على إنسان عقلُهُ مليء بأوهام, بظنون, قال تعالى:

﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

[سورة آل عمران الآية: 154]

 حُسنُ الظنِّ بالله ثمنُ الجنّة.

متى يمتلك العبد علماً صافياً؟

 أولاً: لن يكونَ عِلمُكَ صافيّاً إلا إذا جعلتَ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم لكَ إماماً وقُدوةً وحاكِماً, الدليل:

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾

[سورة النساء الآية: 65]

 فإن قَبِلتَ أن تحتَكِمَ إليهِ في حياتِهِ، وإذا قَبِلتَ أن تحتَكِمَ إلى سُنّتِهِ بعدَ مماتِهِ, فأنتَ مؤمنٌ وربِّ الكعبة، أيضاً:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 21]

 إذاً: من جعلَ النبيَ قدوَتَهُ وإمامَهُ وحاكِمَهُ, يُجيبَهُ إذا دعاه، يقفَ عِندَ أمرِهِ إذا أمَرَه، يسيرُ إذا سارَ بِك، يقولُ لكَ فتسمَعُ قولَهُ، يُنزِلُكَ هذه المنزِلة فتقبَلُها، تغضَبُ لغَضَبِهِ، ترضى لِرِضاه، إذا أخبَرَكَ عن شيء أنزلتَهُ منزِلةَ ما تراهُ بعينِك، وإذا أخبَرَكَ عن اللهِ بِخبر أنزلتَهُ منزِلةَ ما تسمعَهُ من اللهِ بأُذُنِك.
هذا ما قالَهُ سيدنا سعد بن أبي وقّاص, قال: واللهِ ثلاثةٌ أنا فيهنَّ رجل, وفيما سِوى ذلكَ فأنا واحدٌ من الناس؛ ما سَمِعتُ حديثاً من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّم إلا عَلِمتُ أنهُ حقٌ من اللهِ تعالى.
 كُلّما صدّقتَ النبي بتوجيهاتِهِ وأوامِرهِ ونواهيه, كانَ إيمانُكَ أرقى, يعني: إذا جعلتَ من رسولِ اللهِ مُعلّمِاً لكَ, ومربيّاً لكَ, ومؤدِبّاً لكَ, وأسقطتَ كُلَ الوسائط بينكَ وبينَهُ, إلاّ الوسيلة التي تُنقَلُ بِها سُنّتُهُ إليه, فقد امتلكتَ عِلماً صافيّاً.
 أقول لكم كلمة من القلب: إذا اتبعّتَ النبيَ لن تَضِلَّ أبداً، لن تندَمَ أبداً، لن تُخطِئَ أبداً، لأنَّ هذا كلامُ النبي تعليماتُ الصانع ومنهجُ الخالق، قالَ اللهُ عزّ وجل:

﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾

[سورة فاطر الآية: 14]

 أنتَ حينما تتَبِعُ كلامَ النبي تتَبِعُ كلامَ الخبير, اتّبع سُنّةَ النبي في زواجـِك، اتّبع سُنّةَ النبي في تزويجِ ابنتِك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ, إِلا تَفْعَلُوا: تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ))

 اتّبع سُنّةَ النبي في طعامِكَ، في شرابِكَ، في نومِكَ، في استيقاظِكَ، في صلواتِكَ، في عِباداتِكَ، في دُعائِكَ، في علاقاتِكَ، في كسبِ المال، في إنفاقِ المال.
 لذلك: معرِفةُ سُنّةُ النبي فرضُ عينيّ، كيفَ تتبِعُ النبي دونِ أن تعرِفَ سُنَتَهُ؟ لذلك أقول لكم للمرة الألف: ما من طريقٍ يُفضي بِكم إلى السعادةِ, إلاّ والعِلمُ أولُ مرحلةٍ فيه.
 إذا أردتَ الدُنيا فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتَ الآخرةَ فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتَهُما معاً فعليكَ بالعِلم.
 الشيء الآخر: هذه كلمة دقيقة وخطيرة: العِلمُ لا يُسمّى عِلماً إلاّ بالشواهِدِ والأدلّة، والعِلمُ الحقيقي هوَ العِلمُ الذي يُدعّمُ بالأدلّةِ والبراهين، فكُلُ عِلمٍ ليسَ لهُ دليلٌ ولا بُرهان, لا وثوقَ بهِ, وليسَ بِعلم, لأنهُ صارَ جهلاً, إيّاكَ أن تقبلَ بِلا دليل، وإيّاكَ أن ترفض بِلا دليل، لا بُدَّ من دليلٍ في القَبول ودليلٍ في الرفض، أمّا دعوى وقوعِ نوعٍ من العِلمِ بغيرِ سبب من الاستدلال فليسَ بصحيح.
 يعني من يقول: هذا عِلم لَدُنّي, العِلمُ اللدُنّي هوَ العِلم الذي وصلَ إلى الأنبياء عن طريق الوحي, فهوَ فِعلاً من لَدُن عليمٍ خبير، أمّا العِلمُ الذي تأتي بهِ من دونِ دليل, هذا ليَ من لَدُنِ اللهِ عزّ وجل, هذا من لَدُن نفسِك، أنا أُريد عِلماً منقولاً عن حضرةِ اللهِ عزّ وجل، أُريدُ عِلماً منقولاً عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم.
 فكلمة أقولُها لكم دقيقةٌ جداً: العِلمُ اللدُنّي لا يكونُ لدُنّيّاً إلا إذا كانَ منقولاً عن اللهِ وعن رسولِه, فإن لم يكن كذلك, فهوَ عِلمٌ من لَدُن صاحِبِهِ, وصاحِبُهُ قد يُخطِئُ وقد يُصيب, بل إنَّ العِلمَ الإشراقيّ -إن صحَ التعبير- يُقاسُ بالكِتابِ والسُنّة.
 واحد قالَ لكَ: أنا شعرت بكذا, إذا كانَ هذا الشعور, وهذه الفِكرة, وهذا الكشف مُطابِقاً للكتابِ والسُنّة فعلى العينِ والرأس, وإن لم يكن كذلك فهوَ مردود.
 في كلِمةَ أقرؤها لكم: ربُنا عزّ وجل حينما أرسلَ هذه الرِسالة, وأنزلَ هذا القرآن, وبعثَ بالأنبياءِ والمُرسلين, ألم يُعطِهم الأدلّة؟ أليست المُعجزات على أنهم أنبياؤه ورُسُلُهُ؟ أليست الكُتُبُ أدلّةً على ما جاؤوا بهِ؟ هل في القرآن الكريم فِكرةٌ بِلا دليل؟:

﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾

[سورة البقرة الآية: 111]

﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 44]

﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 50]

﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 80]

 إذاً: الطابَع العام طابَع عِلم، طابَع بُرهان، طابَع دليل، طابَع حُجّة، أمّا دع عقلَكَ واتبعّني, هذه مقولةٌ قالَها النصارى، قالتها أُممٌ أُخرى بعيدةٌ عن روحِ العِلمِ الذي جاءَ بِهِ الدينُ الحنيف.

الآيات التي وردت بهذا الخصوص.

 بعضُ الآيات المُتعلّقة بهذا الموضوع:

﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

[سورة آل عمران الآية: 78]

﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

[سورة آل عمران الآية: 75]

 يعني: أخطر شيء أن تأتي بِكلام تدّعي أنهُ من عِندِ الله وليسَ من عِندِ الله، هل هُناكَ وحيٌ بعدَ رسولِ الله؟ هل كانَ الدين ناقِصاً حتى يأتي فُلان ويُتِمّهُ؟:

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة المائدة الآية: 3]

 معناها التطبيق العملي لهذه الفِكرة, يعني: أنتَ في عملَك بالأسواق، بحفلات، بِعقود قِران، بسهرات، بِنَدوات, تستمع إلى أفكار كثيرة, إيّاكَ أن تقبَلَها كُلَها, لا بُدَ من التمحيص، لا بُدَ من التدقيق، لا بُدَ من التساؤل، لا بُدَ من أن تسألَ المُتكلّم هذا الكلام: من أينَ جِئتَ بهِ؟ وأينَ قرأتَهُ؟ وما الدليلُ على صِحَتِهِ؟ وهل هوَ مُعتمد؟ هل هذا الحديث مُسند؟ هل هوَ حديثٌ صحيح؟.
 دائماً وأبداً: أُناسٌ كثيرون يُمطِرونني بأسئلةٍ كثيرة, أستاذ فلان قال: هيك, طيب قالَ: كذا, لِمَ لم تسألوه: من أينَ جِئتَ بِهذا؟ أينَ قرأتَ هذا؟ ماالدليلُ على صِحةِ هذا؟.
يعني الإنسان:

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾

[سورة الإسراء الآية: 36]

 الإنسان مُحاسَب، لا بُدَ من تقديم الدليل.
 أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: لا أَدْرِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَوْ لا, ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ, فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ .
 الكلمة الشائعة: أخي ضعها في رقبَتي, من أنت حتى أستَمِعَ إليك؟ من أنت حتى أتّبِعَكَ دون دليل؟ النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقولُ اللهُ عنهُ:

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾

[سورة يوسف الآية: 108]

 يعني في إنسان يُحرّم الحلال بِلا دليل، وفي إنسان يُحلل الحرام بِلا دليل، الحلالُ والحرام من عِندِ اللهِ عزّ وجل، اللهُ وحدهُ هوَ الذي يُشرّع, لذلك: ما جاءنا عن صاحِبِ هذه القُبّةِ الخضراء فعلى العينِ والرأس, وما جاءنا عن سِواه فهم رِجال ونحنُ رِجال.
 الآية الأولى إذاً:

﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

 الآيـة الثانية:

﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 79]

 مرة ذكرت لكم بعض الأمثلة, لِقولِهِ تعالى:

﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾

 مثل افتراضي:
 واحد معهُ خمسة ملايين دولار × 47 أو 48, مبلغ ضخم, ممكن أن تشتري بيتاً بأرقى أحياء دِمشق, وبيتاً بأرقى مصايف دِمشق, وبيتاً على الساحل, وسيارة أحدث سيارة, ومتجر بأشهر شارع، بَرَد فأشعَلَها وتدفأَ عليها, إنهُ اشترى بهذا المالِ ثمناً قليلاً، كان مُمكن أن يشتري بِها عِدّة بيوت, وكل البيوت فيها تدفئة مركزية, لكن تدفأَ بِها لساعةٍ أو أقل, وانتهى الأمر, مثل طبعاً افتراضي لكنه دقيق.
 هذا الذي يتعامل مع الدين تعامُلاً تجاريّاً، يستخدِمُ القيّمَ الدينيةَ لمصالِحهِ, يستخدمُ بهِ حقائِقَ الدين للدُنيا, إنهُ اشترى بهِ ثمناً قليلاً, يقول: هكذا جاءني الإلهام، هكذا رأيت، هذا هوَ الكشف ليبتزَّ أموال الناس، يستخدِم قيّمَ الدين ليُحققَ مكانةً اجتماعيّة، يستخدِمُ قيّمَ الدين ليصرِفَ وجوهَ الناسِ إليه, شيء خطير.
 كلمة أقولها لكم: إذا أردتَ الدُنيا فاطلُبها من مظانِها, واحد يُريد المال، طلبَك معقول, ابحث عن المال في التجارة, في الصناعة, في الزراعة, في الوظائف, تعمّق باختصاص، لكن أن تجعلَ كسبَ المالِ من خِلال الدين شيء خطير جداً، أتلعبُ بدينِ اللهِ عزّ وجل؟ هذا الدين المُقدّس أتُحوّرِهُ كما تُريد؟ أتَجُرُهُ لأهوائِك؟ هذا إنسان يلعب بالنار.
 لذلك: أيُّ إنسانٍ يستخدِمُ قيّمَ الدين للدُنيا، يستخدِمُ قيّمَ الدين لمصالِحِهِ الشخصيّة، ليجمعَ المالَ، ليعلوَ على الناس، هذا الإنسان يلعب بالنار, ابحث عن المال في مظانِهِ الشريفة، أمّا أن تلعبَ بدينِ الله من أجلِ أن تأخذَ الأموال بِلا جُهد, هذا شيء خطير جدّاً, هذا معنى قولِهِ تعالى ، الإنجيل مثلاً, العهد القديم, تنطَبِقُ عليهِ هذه الآية:

﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾

 كُلُكم يعلم في العصور الوسطى, كان بعض رِجال الدين غير الإسلامي طبعاً, يبيعونَ الجنّة بصكوك, هذا أخذ قصبتين, وهذا ثلاث, جاءَ واحد يهودي ذكي جدّاً, واشترى مِنهُم النار بمبلغ لا بأسَ بهِ, وبعد أن اشتراها بوقت لا بأسَ بهِ, بلّغَ الناسَ أنني قد اشتريتُ, وسوفَ أُغلِقها، فبادت تجارتهم فعادوا, واشتروا النار منهُ, خُرافات, أباطيل, تدجيل, هذا دين, دينُ الله عزّ وجل, لذلك: أخطر شيء أن يتغلغلَ في ذهن الإنسان عقائد فاسِدة، عقائد زائغة.
الآية الثالثة:

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 93]

 أوهمَ الناس أنهُ يأتيه عِلم لَدُنّيّ، ويأتيه الوحي، ويأتيه الإلهام, وهذا الكلام كُلُهُ فــي مصلحَتِهِ.
 الحقيقة: مرّ معنا في دروس سابقة, في هذا المسجد: أن المُحرمّات كثيرة؛ في الشِرك, وفي الفِسق, وفي النِفاق, وفي الإثم, وفي العدوان, وفي الفحشاء, وفي المُنكر, لكنَّ أعظم هذه المعاصي, قال تعالى:

﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 169]

 فنحنُ نبحثُ عن عِلمٍ صافٍ، عن عِلمٍ مُقيدٍ بالكتابِ والسُنّة، عن علم نقيٍ من كُل شائبة، عن عِلمٍ عليهِ أدلّةٍ وبراهين قطعيّة.
 يقولُ بعضُهم: كُلُّ من يقولُ: إنَّ هذا العِلمَ عِلمٌ لَدُنّي, لِما لا يُعلمُ أنهُ من عِندِ الله, ولا قامَ عليهِ برهانٌ من الله, أنهُ من عِندِهِ, هوَ كاذِبٌ مُفترٍ على الله، وهذا العِلم كسرابٍ بقيعةٍ يحسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءهُ لم يجدهُ شيئاً ووجدَ اللهَ عِندَهُ فوفّاهُ حِسابَه واللهُ سريع الحِساب.
 الملخص إذاً: أتمنى على كُل أخ كريم أن يُراجِع معلوماتِه, ويُراجع أفكارهُ, ويُراجع معتقداتِهِ, ويُراجع تصوراتِهِ, ويُراجع مفاهيمهِ, ويُراجع مخزونهُ العقائدي, عملية جرد, وأن يعرِضَ كُلَّ فِكرةٍ على الكِتابِ والسُنّة، أن لا يقبل إلا بالدليل, وأن لا يرفض إلا بالدليل، وكُلُ علمٍ يفتقرُ إلى الدليل فليسَ بعِلمِ وهوَ خَطِر، والإنسان أحياناً قد يكونُ ضحيّةَ فِكرةٍ خاطئة.
 إذا أوهَمَكَ أحدهم أننا نحنُ أُمة محمد مرحومة, الحمد لله يا ربي إذ جعلتنا مُسلمين، والنبي لن يدخُلَ الجنّةَ إلا إذا أدخلَ أُمَتَهُ قبلَهُ, ولو كانوا عُصاةَ, والله شيء عال, والحمدُ لله, هذه العقيدة الزائغة قد تدفعُ سعادتكَ الأبديّةَ ثمناً لها.
 قُلتُ لكم في درس البارحة: شخص شاهدتُهُ بعيني, شخص أعتقد أنهُ إذا نزع أسنانَهُ كُلَها, يُعفى من الخِدمة الإلزاميّة، مر على أول طبيب فرفض, والثاني كذلك, قالَ لي: مررت بعشرةِ أطباء كُلُهم رفضوا, شاب في الثالثة والعشرين من عُمرِهِ, في طبيب بجلستين قَلَعَ لهُ أسنانَهُ كُلها، ذهب إلى الفحص, فقالوا لهُ: أنتَ مُتهرّب من الخِدمة, وخدم خمس سنوات, وبقي بِلا أسنان، ضحية فِكرة خاطئة أليسَ كذلك؟ طبعاً هذا مَثَل صارخ وقلَّ ما يحدث، لكن إنسان يُضّحي بسعادتِهِ الأبدية, يُضّحي بالأبد من أجل فِكرة خاطئة, سَمِعها من إنسان, ليسَ متأكد مِنها.
 إنَّ هذا العِلمَ دين, فانظروا عمن تأخذونَ دينَكم، دينكَ دينَك إنهُ لحمُكَ ودَمُك.
 أخي هذه تجوز؟ والله ليسَ فيها شيء، ساعة عموم بلوى, وساعة لا تُدقق كثير, الله غفور رحيم، وساعة يا أخي ماذا نعمل؟ فإذا لم يَعُد هُناك شيء في الدين، يا ترى اللهُ يقبل مِنّا هذا الكلام؟ اللهُ جلَّ وعلا هل يقبل مِنّا هذا يوم القيامة؟ أينَ قولُهُ تعالى:

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة الحجر الآية: 92-93]

 أيام يقول لي واحد: هذه فيها فتوى، أقول لهُ: ماشي الحال, لكن الله يجمعُكَ مع المُفتي يوم القيامة, الذي أفتى لكَ هذه الفتوى طبعاً, مثلاً: مع دوائر الدولة شيء منَعَتهُ الدولة, فقالَ لكَ واحد: لا تسأل, ضعها في رقبَتي, واعمَلها، ففعلَها فأحضروه، فُلان قالَ لي، أينَ هوَ؟ أحضِرهُ لي, من قالَ لكَ هذا؟ أنتَ لا ترضى بهِ مع إنسان, أترضى بهِ مع الواحد الديّان؟ مستحيل.
 هذا هوَ العِلمُ الصافي، عِلمٌ مُدعّمٌ بالكِتابِ والسُنّة، لا تقبل شياً دون آية قُرآنية أو دون حديث صحيح، وإيّاكَ أن ترفُضَ شيئاً دون آية قُرآينة أو دون حديث صحيح.

مفهوم الهمة:

 الآن: الهِمّة، دائماً عندنا قناعات وعنّدنا أهداف، ما الذي يرفعُنا إلى مستوى أهدافِنا؟ لكَ أن تُسميّ هذه الهِمّة أو العزيمة أو الإرادة صِفة نفسية تُعينُكَ على أن تصِلَ إلى هَدَفِك.
 يعني يقول لكَ واحد: نحن والله نعرف كُلَّ شيء, لكن لسنا مُطبّقين شيئاً، معناها يفتقر إلى ماذا؟ إلى الإرادة القوية, فهذهِ الهِمّةُ العليّا أو الهِمّةُ الصافيّة، قال: أعلى هذه الهِمم: هيَ هِمةٌ اتصلت بالحقِّ سُبحانه طَلَباً وقصداً, وأوصلت الخلقَ إليهِ دعوةً ونُصحاً, وهذه الهِمةُ هِمّةُ الرُسُلِ وأتباعهم.
 يعني: أعلى هِمّة أن تَصِلَ إلى اللهِ طلباً وقصداً, وأن توصِلَ الخلقَ إليهِ دعوةً ونُصحاً، وصلتَ إلى الله وسعيتَ إلى إيصالِ الخلقِ إليه، قال: هذه هِمّةُ الأنبياءِ والمُرسلين وأتباعِهم الصادقين.
 نقول نحنُ أحياناً: اللهمَ صلِ على سيدنا مُحمدٍ, وعلى آلِ سيدِنا مُحمدٍ, وعلى أصحابِهِ الطيبينَ الطاهرين, الهُداة المَهديين, أُمناءِ دعوتهِ, وقادةِ ألويتهِ, وعلى العُلماء العاملين, ومن اتبعهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، معناها: لا بُدَّ أن تكونَ عالِماً عاملاً وليّاً.
 قال: إذا أردتَ أن تعرِفَ مراتِبِ هذه الهِمم, فانظر إلى هِمّةَ ربيعةَ بن كعبِ الأسلميّ رضيَ اللهُ عنهُ، هوَ خَدَمَ النبيَ أياماً عِدّة، بعدَ أيامٍ عِدّة, قال لهُ النبي عليه الصلاة والسلام:

((يا ربيعة سلّني حاجَتَك, فقالَ: أمهلني يا رسولَ الله, فلمّا أمهلَهُ, ثمَّ سألَهُ عن حاجتِهِ, قالَ: سلّني أسألُكَ مُرافقتَكَ في الجنة، قالَ: من علّمَكَ هذا؟ قالَ: واللهِ ما علمّنيه أحد.
هُناكَ أشخاصٌ سألوا النبيَ مالاً, أو سألوا النبيَ زوجةً، في إنسان تنتهي آمالُهُ بالزواج، تنتهي آمالهُ بعمل، تنتهي آمالُهُ بِدخل، لكن في إنسان آمالُهُ لا تنتهي إلاّ بالجنّة، لا تنتهي إلاّ بمرافقةِ النبي صلى الله عليه وسلم-, فقالَ: أسألُكَ مرافقتَكَ في الجنة, وكانَ غيرَهُ يسألَهُ ما يملأُ بطنَهُ ويُواري جِلدَهُ))

 سيدنا ابراهيم, ما هذه الهِمّة؟ قال تعالى:

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾

[سورة البقرة الآية: 124]

 أتمَهُنّ, قال تعالى:

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 73]

 الهِمّة العليّة ترفَعُكَ عِندَ اللهِ عزّ وجل، يعني موضوع ذبح ابنهِ, شيء فوقَ طاقة البشر:

﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾

[سورة الصافات الآية: 102]

 الأمر: أنهُ قُم وصلِّ, وغُض بَصَرَك, وأنفق من مالِك, كُل الأوامر معقولة, لكن هذا النبي العظيم, الذي هوَ عِندَ اللهِ خليل, يُقال عنهُ: خليلُ الرحمن، ما صارَ بهذهِ المرتبة, إلا لأنهُ نفّذَ أمرَ اللهِ عزّ وجل الذي لا يُعقل أن يكونَ أمراً, ومع ذلك نفذّهُ, لكنَّ اللهَ سُبحانهُ وتعالى فداهُ بِذِبحٍ عظيم.
 النبيُ عليه الصلاة والسلام حينما عُرِضت عليه مفاتيحُ كنوزِ الأرض فأباها، يا مُحمـد أتُحِبُ أن تكونَ نبياً ملِكاً أم نبياً عبداً؟ قالَ:

((بل نبياً عبداً, أجوعُ يوماً فأذكُرُهُ, وأشبعُ يوماً فأشكُرُهُ))

الخلاصة.

 نحنُ نُريد عِلماً صافياً، نقياً من كُلِّ شائبة، ونُريد هِمّة عليّة، إخلاص لله عزّ وجل، صُدق في طلب الحق، عدم التبعثر والتشتت، ونُريد في الأخير حالاً صافياً، فالحال ثَمَرِة العِلم الصحيح والعمل الصحيح، الثمرة الطبيعية للعلم الصافي: الهِمّة الصافيّة, الحال الصافي.
 المُلخّص: أنهُ إذا استطعت أن تَصِلَ إلى عِلمٍ صافٍ, من كُلِّ شائبة، من كُلِّ خُرافة، من كُلِّ زيغ، من كُلِّ خطأ، من كُلِّ ظن، إذا قيّدتَ كُلَّ معلوماتِكَ وأفكارِكَ وعقيدَتَكَ وتصوراتِكَ بالكتاب والسُنّة الصحيحة، هذا العِلم الصحيح الصافي, يبعثُ فيكَ هِمّةً عالية, والهِمّةُ العالية تقودُكَ إلى استقامةٍ وعملٍ صالح, يأتي التاج وهوَ حالٌ صافٍ، هذا الحال الطيب الذي يَشُعُّ على الآخرين, هذا الحال نتيجة: عمل صالح, واستقامة, وهِمّة عالية, وعِلم صافٍ.
 فالصفاء إلى أن تكونَ من هؤلاءِ الذينَ اصطفاهم اللهُ عزّ وجل:

﴿وَإِنَّهمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور