وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة ابراهيم - تفسير الآيات 35 – 46 الدعاء هو العبادة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

الدعاء أصل العبادة :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ المَقْطَعُ الأخير من سورة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مؤلف من مجموعة أدعيةٍ لهذا النبي العظيم ، أبي الأنبياء .

وقبل الحديث عن مضامين هذه الأدعية لابدَّ من وقفةٍ سريعة في موضوع الدعاء  ، فالدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( عن أنس بن مالك :  الدُّعاءُ مخُّ العبادةِ . ))

[ ضعيف الترمذي : حكم المحدث :ضعيف ]

الصحيح : الدعاء هو العبادة .

صحيح

أي أن أبرز ما في العبادة الدعاء ، أصل العبادة الدعاء ، جوهر العبادة الدعاء ، والدعاء صلاة ، والصلاة دعاء ، إذا دعوت الله عزَّ وجل من كل جوارحك فأنت تصلي بنوعٍ من أنواع الصلاة ، وإذا صلَّيت صلاةً صحيحة فأنت تدعو ..

﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)﴾

[ سورة غافر ]

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾

[ سورة البقرة  ]

إذا آمن العباد بربِّهم ، واستجابوا له بطاعته ، ثم سألوه فلابدَّ من أن يجيبهم ، إلا إن كانت الإجابة ليست في صالحهم ، عندئذٍ يدَّخِرُ الله لهم ثواباً في الآخرة ..﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾   إلى الدعاء الصحيح .

إن الله عزَّ وجل يحب الملحِّين بالدعاء ، إن الله عزَّ وجل يحب من العبد أن يسأله شسع نعله إذا انقطع ، من لا يدعني أغضب عليه ، فالدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام : (( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ )) والدعاء صلاة ، والصلاة دعاء ، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك ، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله .

عن معاذ بن جبل :

(( لا يَنفَعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ ، ولَكِنَّ الدُّعاءَ يَرُدُّ . ))

[ ابن حجر العسقلاني  :المطالب العالية : حكم المحدث : فيه المليكي ضعيف ، ومكحول لم يسمع من معاذ رضي الله عنه ]

مهما كنت ذكياً ، مهما أخذت الاحتياطات المشددة ..(( ولا ينفع حذرٌ من قدر ، ولكن ينفع الدعاء مما نزل ومما لم ينزل)) .

سؤالٌ دقيق أعرضه عليكم : الأب الرحيم إذا رأى ابنه بحاجةٍ ماسة إلى شيء ، هل ينتظر الأب من ابنه أن يدعوه أم أنه يلبي حاجته قبل الدعاء ؟ الله سبحانه وتعالى رحيم ، وسميعٌ وبصير ، ويعلم السر وأخفى ، فلماذا يدعونا أن ندعوه ؟ من هنا يستنبط أن قضاء الحاجة ليست هي هدف الدعاء ، ولكن هدف الدعاء هو انعقاد الصِلَةِ مع الله عزّ وجل ، قد يجعلك الله سبحانه وتعالى مفتقراً إلى الحاجة من أجل أن تدعوه ، فإذا دعوته ، واتصلت به ، وسعدت بقربه ، لبَّى حاجتك ، فقد جعل الله الحاجة وسيلةً لاتصالك ، الأصل في الدعاء ليس قضاء الحاجة ولكن الاتصال بالله عزَّ وجل ، لذلك : (( ولا ينفع حذرٌ من قدر  ، ولكن ينفع الدعاء مما نزل ومما لم ينزل  ، فادعوا الله عباد الرحمن ))   فالدعاء مخ العبادة .


نعمة الأمن لا يعرفها إلا من فقدها 


نحن مع هذا النبي العظيم أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم ..﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾ .. نعمة الأمن لا يعرفها إلا من فقدها .

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

الأمن نعمةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها ، ولا يعرفها إلا من فقدها ، والأصحُّ لا يعرفها إلا من فقدها .

﴿ الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾

[  سورة قريش  ]

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

نعمة الأمن هي عدم توقُّع المصيبة ، تعريف الأمن : عدم توقع المصيبة ، توقُّع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها ، أنت من خوف المرض في مرض ، أنت من خوف الفقر في فقر ، نعمة الأمن لا يعرفها إلا المؤمن ، إن الله يُعْطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، فأنزل على رسوله السكينة ، السكينة أيضاً هي الأمن ، الشعور بالطمأنينة .

 لو أن الإنسان عاش حياةً خاليةً من المصائب ، لكن هذه الحياة لا تطاق إن كانت مفعمةً بالقلق ، ينبغي أن تكون السلامة مُرافقةً للأمن ، والأمن من عطاءات الله الثمينة للمؤمن ، ولكن المؤمن إذا ظَلَمَ قَيْد أنْمُلة يفقد هذه النعمة الكبيرة ، ألا وهي نعمة الأمن ، ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ .. هل تريد قانوناً للأمن : إيَّاك أن تظلم تشعر بالأمن ، فإذا ظلمت الناس ، فإذا ظلمت من هم دونك ، فإذا ظلمت زوجتك ، فإذا ظلمت زبائنك ، نَزَعَ الله عزَّ وجل من قلبك الأمن ، يصبح الفؤاد فارغاً ، يصبح قلقاً ، يخاف من كل شيء ، يتوهم الخوف .

 

التوحيد نعمة الدنيا والآخرة : 


﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ .. هذا دعاءٌ آخر ، نعمة التوحيد ، يخاف هذا النبي العظيم الشرك بالله إذا عبد الأصنام كائنةً من كانت ، الأصنام القديمة تلك التماثيل التي يعكف القُدامى على عبادتها ، والمال صَنم القرن العشرين ، والشهوة صنم ، وكل شيءٍ تعبده من دون الله صنم ، حتى أن الله عزَّ وجل يقول : 

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) ﴾

[ سورة الجاثية  ]

هذا الذي يتبع هوى نفسه يعبد الهوى ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة رضي الله عنه :

(( تعِس عبدُ الدينارِ  ، تعِس عبدُ الدرهمِ  ، تعس عبدُ الخميصةِ  ، تعس عبدُ الخميلةِ  ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ . ))

[ أخرجه البخاري ]

أي جهةٍ تعبدها من دون الله كائنةً من كانت ، شيئاً مادياً أو معنوياً أو شهوةً خفية ، حب الظهور صنم يعبد من دون الله ، حب المال صنم ، حب العلو في الأرض صنم ، الشهوة صنم ، الهوى صنم . 

﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ .. لك إلهٌ واحد لا إله إلا هو ، هو الحقيقة الكبرى في الكون ولا حقيقة سواه ، هذا النبي العظيم يُبدي افتقاره إلى الله عزَّ وجل ، إذا افتقرت إلى الله عزَّ وجل فأنت أغنى الأغنياء ، وإن استغنيت عن الله عزَّ وجل فأنت أفقر الفقراء ..

ومالي سوى فقري إليك وسيلةٌ      فبالافتقار إليك فقري أدفع

ومالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ      فإذا رَدَدتَّ فأي باب أقرع

***

 افتقر إلى الله عزَّ وجل يجعلك الله عزَّ وجل أغنى الأغنياء ، استغنِ عن الله يجعلك الله أفقر الفقراء ، من اتكل على نفسه أوكله الله إليها ليعَرِّفَهُ قدرها ، فهذا النبي الكريم يرجو الله عزَّ وجل أن يجنِّبه عبادة الأصنام ، لأن فيها شقاءً كبيراً ، لأن فيها شقاء الدنيا والآخرة ، الإنسان لا يشقى إلا إذا عبد غير الله ، لأن غير الله لا يملك له شيئاً ، لا نفعاً ، ولا ضراً ، ولا حياةً ، ولا موتاً ، ولا نشوراً ، ولا تجلياً ، ولا إسعاداً ، إطلاقاً . 

﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)  ﴾

[  سورة لقمان  ]

أشد أنواع الظلم أن تشرك بالله عزَّ وجل ، فالأمن نعمة الدنيا ، والتوحيد نعمة الدنيا والآخرة . 


  من غرق في الهوى فهو ضالّ مضلّ :


﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)رَبِّ إِنَّهُنَّ ﴾ .. هذه الأصنام .. ﴿ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ ﴾ .. يحسب الإنسان أن المال كل شيء ، يفني حياته في جمع الدرهم والدينار ، ثم يكتشف في آخر الحياة ، وفي خريف العمر ، وبعد فوات الأوان أن المال ليس كل شيء ، إنما هو شيء ، وهناك أشياء كثيرة أثمن منه ، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، وليس بالمال وحده يحيا الإنسان ، إذا تجلَّى الله على قلبه كان أسعد الناس ، وإذا حرمه نعمة التجلِّي كان أشقى الناس . 

﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ ﴾ أي هؤلاء الناس المتهافتون على الدنيا ، على شهواتها ، على زينتها ، على بهرجها ، على نسائها ، على أماكن العلو فيها ، هؤلاء الناس الغارقون في الهوى إنهم ضالون مضلون . 

 

الفرق بين العفو والتكفير والغفران :


﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي ﴾ .. من تبعني ووحَّدَكَ فهو مني ، ومن عصاني وأشرك بك فإنك غفورٌ رحيم تغفر له ، كيف ؟ المغفرة شفاء النفس من الذنب ، والتكفير أن تنسى السيِّئة ، والعفو أن يعفو عنك الذي اقترفت بحقه الذنب ، فرقٌ دقيق بين العفو ، والتكفير ، والغُفران ، كل سيئةٍ لها أثرٌ في النفس ، أثر داخلي ، هذا الأثر هو الحجاب بينك وبين الله ، إذا غفر الله لك هذه السيئة ، أو هذا الذنب أي محا عنك هذا الأثر ، وأما السيئة هذا العمل الذي يسوءك ، قد يرزقك الله عملاً صالحاً تنسى به هذه السيئة ، هذا هو التكفير ، من عمل سيِّئَةً كيف يكفِّرها الله عنه ؟ يرزقه عملاً صالحاً يجعله ينسى هذه السيئة .. كمن شتم إنساناً ، ثم رآه في اليوم التالي قد غرق في نهرٍ ، وهو يستغيث فألقى بنفسه وأنقذه ، إنقاذه من الموت المُحقق ينسي هذا الإنسان شتيمة الأمس ، هذا هو التكفير ، أن يهبك الله عملاً صالحاً تنسى به العمل السيئ ، كفر عنهم سيئاتهم ، أما السيئة نفسها فلها أثر داخلي في النفس ، المغفرة حينما يأتي نور الله عزَّ وجل ، ويشفي هذه النفس من هذا الأثر السيئ الذي يُقِضُّ مضاجع الإنسان ، أما العفو فهو أن يعفو عنك الذي ارتكبت الإثم بحقها ، أما الشيء الأخير وهو الخطيئة فهو سلوكٌ أخطأ الطريق إلى السعادة ، طريق السعادة من هنا أخطأت الطريق ، وسرت باتجاهٍ آخر ، فالخطيئة شيء ، والذنب شيء ، والسيئة شيء ، والمعصية شيء ، السيئة تُكَفَّر ، والذنب يُغْفَر ، والسيئة يُعْفَى عنها ، والخطيئة تُصَحَّح . 

 

العلاقة المقدسة بين الآباء والأبناء أقرَّها الله سبحانه وتعالى :


﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ ، ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ ﴾ هذه العلاقة التي قَدَّسها الله عزَّ وجل ، يقول الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات الكريمة :

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)  ﴾

[  سورة البقرة  ]

كم للأب من مكانة عند الله عزَّ وجل ؟! كأن الله عزَّ وجل يريد منا أن نذكره كما نذكر آباءنا ، إذاً العلاقة المقدسة بين الآباء والأبناء أقرَّها الله سبحانه وتعالى ، من علامات قيام الساعة أن يَعُقَّ الرجل أباه ويَبَرَّ صديقه ، مع صديقه ملاك ومع أبيه شَرِس ، من كان مع أبيه شرساً ومع أصدقائه ملاكاً فهذه علامة من علامات قيام الساعة ، يكون الولد غيظاً ، والمطر قيظاً ، ويفيض اللئام فيضاً ، ويغيضُ الكرام غَيْضَاً . 

 

كل إنسان منسوب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ما دام تقياً :


﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ ..

﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)﴾

[  سورة هود  ]

ابنه ﴿ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ هذه علاقات النسب الدينية ، أنت منسوبٌ إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ما دُمت تقياً ، فإن لم تكن كذلك :

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ  ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا  ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

((  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

هذه العلاقة الواضحة في الإسلام ، سيدنا عمر رضي الله عن عمر قال : يا سعد ! لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له.. الطاعة وحدها تدنيك ، والمعصية تبعدك ، وقد سُئِلَ الجنيد رضي الله عنه : مَن ولي الله ، أهو الذي يطير في الهواء أم الذي يمشي على وجه الماء ؟ قال : أن تجده عند الحلال والحرام ، الولاية هي الالتزام .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)  ﴾

[ سورة الأنفال ]

الأصل العمل . ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ ..

أنا جَدُّ كل تقي ولو كان عبداً حبشياً.

(فمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ..

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

 

باب التوبة مفتوح دائماً على مصراعيه :


﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ ..فتح هذا النبي الكريم باب التوبة ..﴿ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾   .

(( أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم . ))

[ ضعفه السيوطي في الجامع الصغير ، وكذا المناوي في فيض القدير ]

وقد قيل: (إذا رجع العبد العاصي إلى الله عزَّ وجل نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئِّوا فلاناً فقد اصطلح مع الله) .

(( عن أنس بن مالك  قال اللهُ تعالى : يا ابنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا ابنَ آدمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ  ولا أُبالِي  يا ابنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً . ))

[  صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي  ]

﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ وتخلقوا أيها الإخوة الأكارم بهذا الخلق النبيل ، إن رأيت إنساناً في معصية فلا تيئس منه ، كن حليماً ، تأكد أنه إذا رجع إلى الله عزَّ وجل أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، إذا رجع العبد إلى الله عزَّ وجل عفا الله عنه ، عفا الله عما سلف ، الإسلام يهدم ما كان قبله . 

 

الحكمة من جعل مكة المكرمة واد غير ذي زرع :


﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ .. مكة المكرمة وادٍ غير ذي زرع ، لا نبات فيها ، ولا أنهار ، ولا شلاَّلات ، ولا غابات ، ولا جبال خضراء ، ولا وديان ، ولا سهول خصبة. ﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ .. يا رب ما حكمة ذلك ؟  لو أن هذه البلد الطيب ، لو أنك جعلت مكة المكرمة بلاداً جميلة ؛ جبال خضراء ، وديان سحيقة ، بُحَيْرات ، أنهار ، شلاَّلات ، لأمّها الناس جميعاً ، كي يعرف السائح من الحاج . 

 

أثمن ما في حياة الإنسان إقامة الصلاة والاتصال بالله :


﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ .. الشيء الوحيد هناك الاتصال بالله عزَّ وجل ، هذا الذي تتمناه يُعيق الصلة ، يحجزَكَ عن الصلة .

 إذاً: المبالغة في زخرفة المساجد ليس مستحباً ، لأن الزخرفة الكثيرة والرائعة قد تصرف المصلي عن صلاته . 

﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ هذا البيت بيتك ، وهذا الحَرم حرمك ، وهذه الأرض أرضك ﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ إذاً : أثمن ما في حياة الإنسان أن يقيم الصلاة ، أن يتصل بالله عزَّ وجل ، لذلك البلد الحرام أحب البلاد إلى الله عزَّ وجل ، لأن العباد في هذا البلد يُقيمون الصلاة ، فإذا ذهب الحاج إلى هناك وكان تائباً ، مستقيماً ، مُخْلصاً ، وأقام الصلاة ، وقال : لبيك اللهم لبَّيك ، تجلى الله على قلبه فأذاقه حلاوة الإيمان ، أذاقه حلاوة القُرْب ، أذاقه حلاوة المعرفة ، يعود الحاج من هذه الأمكنة الحارة الجرداء ، لا نبات فيها ، ولا ماء ، وقد أفعم صدره سعادةً ، ما هو السر ؟ ﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ من ذاق عرف ، ﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾   حكمةٌ بالغة ، أي هذه الأماكن لا يرتادها إلا المؤمنون ، لا يبتغيها إلا المخلصون ، لا يرجوها إلا الذين يرجون رحمة الله عزَّ وجل . 

 

أنواع الفواكه التي تُجْبَى في مكة استجابة الله عزَّ وجل لدعاء أبينا إبراهيم :


﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ ﴾ .. أي ثمرات الأرض كلها تأتيهم ، دعوة أبينا إبراهيم استجاب الله  لها إلى نهاية الدوران . ﴿ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ ﴾ ما من حاجٍ إلا ويذكر لك أنه رأى فاكهةً لم يرها في حياته ، أنواع الفواكه التي تُجْبَى إلى هذه البلد استجابة الله عزَّ وجل لدعاء أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .  


من عرف أن الله مطلعٌ على قلبه طهر علانيته وسره :


﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ .. نفس الإنسان صفحةٌ مكشوفةٌ أمام الله عزَّ وجل ، أيَّةُ حركةٍ ، أية سكنةٍ ، أي خاطرٍ ، أي تفكيرٍ ، أي هدفٍ ، أي طموح ، أي صراعٍ ، أي مناقشةٍ ، أي رغبةٍ ، أي نية مكشوفةٌ لله عزَّ وجل . ﴿ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ قل ما شئت ، هذا الذي تقوله يَعْلَمُهُ الناس ، ولكن الذي لا تقوله يعلمه الله عزَّ وجل ، من عرف أن الله عزَّ وجل مُطَّلِعٌ عليه طَهَّر سره كما يطهر علانيته ، من عرف أن الله مطلعٌ على قلبه طهر علانيته وفق الشرع وطهر سره وفق الحقيقة ، هناك الشريعة وهناك الحقيقة ، الشريعة تُعْنَى بتطهير الجوارح والاستقامة على شرع الله ، والحقيقة تعنى بتطهير النفس من الشوائب ومما سوى الله عزَّ وجل ، أوجه تفسيرٍ قاله المفسرون في قوله تعالى :

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

اللغو كل ما سوى الله ..

ألا كل شيءٍ ماخلا الله باطل             وكل نعيمٍ لا محالة زائل

[ لبيد بن ربيعة  ]

دقات قلب المرء قائلةٌ له                إن الحياة دقائقٌ وثواني

[ أحمد شوقي ]

دقائق ، يمكن أن تُحصى دقائق الإنسان ، من عاش ستين عاماً يمكن أن تحصى دقائقه وثوانيه ، إذاً كل دقةٍ يدق بها قلبك مضت من حياتك ، ما مضى فات ، والمؤمَّل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها . 

﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ هناك أشخاصٌ لهم موقفٌ حقيقي ولهم موقفٌ مُعْلَن ، العبرة بالموقف الحقيقي والله يعرفه . 

 

الله تعالى لا يخفى عليه شيء وبيده كل شيء :


﴿ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ .. أصغر شيءٍ في الكون يُسَمَّى شيئاً ، وهذه من للتبعيض ﴿ مِنْ شَيْءٍ ﴾ أي ساق النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء لا تخفى على الله ، ليست النملة ، لا ، ساق النملة ، ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾  ، هذا الذي لا يخفى عليه شيء ، ولا من شيء ، وبيده كل شيء ، وإليه مصير كل شيء ، وهو أول كل شيء ، ألا تعبده ؟ ألا تتعرف إليه ؟ ألا تخشاه ؟ ألا تطيعه ؟ 

 

حكمة الدعاء أن تعرف أن الله معك :


﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ ﴾. .على الكِبَرِ ، أي في حق الله عزَّ وجل الله على كل شيءٍ قدير ، الأسباب أيها الإخوة في علم التوحيد لا تصنع النتائج ، إنما قدرة الله عزَّ وجل ومشيئته تصنع النتائج ، والأسباب ما هي إلا أشياء رافقت حصول النتائج ، لذلك يمكن أن يهبك الله على الكبر غلاماً ، ويمكن أن يشفى المريض من مرضٍ عضال ، كل شيءٍ على الله هين ، هو على الله هين ، ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ .

 أيها الإخوة الأكارم ؛ ما من مؤمن صادق إلا وله مع الله خِبْرةٌ في هذا الموضوع ، يدعوه من كل جوارحه ، يسأله فيستجيب الله له ليعرّفه أنه استمع إلى دعائه ، وأجابه ، وهو بيده كل شيء ، هذه هي حكمة الدعاء أن تعرف أن الله معك ، حاضرٌ ، ناظرٌ ، سميعٌ ، قريبٌ ، مجيبٌ ، وحينما يستجيب لك من أجل أن تحبه ، من أجل أن تثق به ، من أجل أن تكون معه ، من أجل أن تخافه وحده ولا تخف من دونه أحداً . 

 

الافتقار إلى الله والتواضع له :


﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(39)رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ﴾ .. هؤلاء الأنبياء العظام على علو قدرهم متواضعون ، ماذا قال سيدنا يوسف ؟

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

[ سورة يوسف  ]

سيدنا إبراهيم : ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ﴾ يقع الإنسان أحياناً بذنب خطير جداً ، هو ذنبٌ ، وليس بذنب ، إنه العُجْبُ . 

(( رُبَّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً   خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ))

[ أحمد بن عطاء الله السكندري  ]

لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر .. ما الذي يا رب هو أكبر من الذنب ؟ العجب .. فالأنبياء لمعرفتهم بعظمة الله عزَّ وجل ورؤيتهم الصحيحة متواضعون ، مفتقرون ، موحِّدون ، ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ ألا تقرأ في الفاتحة كل يوم :

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)  ﴾

[ سورة الفاتحة  ]

استعن على عبادة الله بالله ، استعن على طاعة الله بالله ، استعذ من معصية الله بالله ، لا ملجأ منك إلا إليك ، كن له مفتقراً . 

 

الله تعالى مطلع على كل شيء وسيحاسب كل إنسان على عمله :


﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ(40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾ .. لو أن إنساناً ظلم زوجته وهو في أوج قوته ، وفي أوج بأسه ، ونشاطه ، وغناه ، يظن لجهله أن الله عزَّ وجل غير مطَّلع عليه أو لن يحاسبه ، هذا هو الحمق بعينه ، ولكن الحبل مُرخى له ، فإذا آن الأوان شُد الحبل فكان في قبضة الرب ، عندئذٍ أذاقه العذاب ضعفاً ، والذل أضعافاً ، والفقر أضعافاً ، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ أحياناً الإنسان لضعف ثقته بالله عزَّ وجل ، لضعف يقينه ، لضعف توحيده يظن أن الأمور هكذا ، لا حساب .

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) ﴾

[  سورة المؤمنون  ]

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)  ﴾

[ سورة القيامة  ]

مستحيل ، جامعةٌ ضخمة ، أبنيةٌ شاهقة ، قاعات للمحاضرات ، مكتبةٌ ضخمة ، حدائق ، ملاعب ، ولا امتحان ؟! هكذا ، أي إنسان دخل لهذه الجامعة يمنح شهادتها أم لابدَّ من امتحان ؟ والإنسان هكذا ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ أيعامل المحسن كالمسيء ؟ والبخيل كالكريم ؟ والشجاع كالجبان ؟ واللئيم كالحليم ؟ ومن كان في طاعة الله كمن كان في معصية الله ؟ من أمضى الليل متهجداً كمن أمضاه على طاولةً حمراء أو خضراء ؟ هذا كهذا ؟

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) ﴾  

[ سورة الجاثية ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ يروى أن رجلاً كان مع امرأته يأكلان دجاجاً ، طرق الباب طارق قال لزوجته : افتحي الباب ، فتحت فإذا بالباب سائل ، يقول : من مال الله ، همَّت أن تعطيه من هذا الدجاج ، نهرها زوجها وشتمها وطرده ، كبراً ، وعتواً ، وظلماً ، واستعلاء ، ما هي إلا أشهرٌ وسنوات حتى دَبَّ الخصام بينهما وطلَّقها ، وانتظرت في بيتها عدة أشهر إلى أن خطبها خاطب ، وتزوَّج بها ، وكان غنياً ولطيفاً وحليماً ، وكانا يجلسان على مائدة ، وطرق الباب طارق ، فقال لها زوجها الجديد : افتحي الباب ، فتحت وعادت مُضطربة ، فقال : ما بك ؟ قالت : لا شيء ؛ سائل يسأل ، قال : ما بك ؟ قالت : أتدري من السائل ؟ إنه زوجي الأول ، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ قال : أتدرين من أنا ؟ أنا السائل الأول .

أحياناً الزوج يستعلي ، ويُطَلِّق لأتفه سبب ، أحمق ، لو يعلم أن الله سبحانه وتعالى سوف يقتص لهذه المرأة المظلومة ، وسوف يذله ، وسوف يفقره ، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ قف على هذا أنت ، الظلم ظلمات يوم القيامة ، اظلم من شئت ، لو أن الإنسان آذى حيواناً ظُلماً وعدواناً ، قد يفقد بصره ، قد يُدهس تحت سيارةٍ فيُنَكِّلُ الله به ، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ .. حدثني صديق لي توفيت أمه ، ورآها في المنام بحالةٍ سيئة ، قَلِقَ من أجلها ، رآها خلال ثمانية أعوام بحالةٍ لا ترضي ، مُقَطِّبَة الجبين ، مزعوجة ، كأنها تحترق ، إلى أن رآها في المنام بحالةٍ طيبة ، فقال : يا أُمَّاه ما فعل الله بكِ ؟ قالت : كوب الحليب يا ولدي ، هو يعرف هذه القصة ، كان له أخ من أبيه ، كانت تسقي ابنها من زوجها كوب حليب وابن زوجها نصف كوب حليب وتضيفه ماءً ، هذا ظلم ، ابنها يجب أن يشرب كوب حليبٍ بأكمله ، ابن زوجها نصف كوب ، والباقي ماء ، ثمانية أعوام كانت تعذَّب في البرزخ إلى أن غفر الله لها ، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾  كم من امرأةٍ تظلم زوجة ابنها ؟!  تظلمها ، تُحَمِّلُها ما لا تطيق ، تقسو عليها ، وكم من زوجٍ يظلم زوجته ؟! وكم من امرأةٍ تظلم زوجها ؟! وكم من أخٍ يظلم أخاه ؟! وكم من بائعٍ يظلم المشتري إذا كان صغيراً أو مسترسلاً أي (غشيم) ؟!

 

الموقف العصيب الذي يشهده العاصي يوم القيامة :


﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِينَ -  أي مسرعين - مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ .. فؤاده هواء أي فارغ من شدة الخوف ، وبصره مُسَمَّرٌ في الأرض من شدة خجله وخوفه . 

﴿ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ ﴾ .. هذا الموقف العصيب ، هذا الموقف الذي يقفه الإنسان يوم القيامة .. ﴿ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ ﴾ .. وها أنتم أيها الإخوة الأكارم تُدْعَوْنَ إلى الله عزَّ وجل ، تدعون إلى الله ورسوله واتباع سنته ، فإن لم تفعلوا قلتم هذا القول يوم القيامة : ﴿ رَبَّنَا أَخِّرْنَا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾ .. كأن الكافر سبحان الله ! يظن أنه مُخَلَّدٌ في الدنيا لا يزول عنها ، يعتني ببيته إلى درجة كأنه سيعيش فيه ألف عام ، يقول لك : هذا موّاتي ، يعتني بحاجاته كأنه لن يفارق الدنيا ، ﴿ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾ كنتم تقسمون أنكم في الأرض ، ولن تزولوا عنها ، هكذا قلتم ، وها أنتم أولاء تركتم دنياكم ، وتركتم ما خلَّفتم وراء ظهوركم ، تركتم البيت ، والزوجة ، والمال ، والمركبة ، والمتجر ، والمكانة ، والأولاد ، وهذه الليالي التي كنتم تمضونها في معصية الله ، كل هذا تركتموه وراءكم ظهرياً ، ﴿ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44)وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ﴾ .. بدل أن نتعظ نقول : هذا مُدَرَّج روماني ، ماذا يعني ذلك ؟ وهذه آثار التدمريين ، ماذا يعني ذلك ؟ هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم فدمَّرهم الله ألم تتعظوا بهم ؟ الأنباط ، مدائن صالح ، قوم عاد ، قوم ثمود ، الأهرامات ، هذه الآثار تركت لحكمةٍ بالغة من أجل أن نتعظ بمن قبلنا. 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43)وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44)وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ(45)وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(47)يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48)وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(49)سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ(50)لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(51)هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(52)﴾

هذه الآيات أواخر السور دائماً فيها تلخيصٌ دقيقٌ للسورة كلها ، أرجو الله عزَّ وجل أن يمكننا في الدرس القادم من شرح هذه الآيات بالتفصيل .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور