الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس والخمسين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة التي نحن فيها منزلة الأدب، استنباطاً من قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾
قال ابن عباس: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً أي أدبوهم.
وقد ذكرت في مطلع الدرس قبل الماضي أن الإسلام عقائد، وعبادات، ومعاملات، وآداب، وأن الآداب بمثابة التاج الذي يُتَوِّج الإيمان، وقد حار أصحاب النبي عليهم رضوان الله من أدب النبي العالي، فسُئل من قِبَل السيدة عائشة: يا رسول الله! ما هذا الأدب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أدبني ربي فأحسن تأديبي، وقد ذكرت قبل درسين أن الأدب على أقسام ثلاث؛ أدباً مع الله، وأدباً مع رسول الله، وأدباً مع الخلق.
في الدرس الماضي بينت أن الأدب مع رسول الله يقتضي أن كل الآيات الكريمة التي وردت بحق النبي عليه الصلاة والسلام، وهي تُوَجِّه أصحابه الكرام إلى أن يكونوا معه في أعلى درجة من الأدب، إنما هي آيات مستمرة لا ينقطع حكمها بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فكما أنه لا ينبغي أن يعلو صوتك على صوته في حياته، لا ينبغي أن يعلو رأيك على سنته بعد مماته.
من أراد أن يكون في مأمن من عذاب الله فليطبق سنة النبي:
من أجمل الاستنباطات أن علماء التفسير قالوا في قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

قال علماء التفسير: طبعاً في حياة النبي، ما دام النبي عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم هم في بحبوحة من عذاب الله، في مأمن من عذاب الله، ولكن ما معنى هذه الآية بعد انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى؟ معنى هذه الآية ما دامت سنتك يا محمد في حياتهم، في بيوتهم، في تجارتهم، في كسب أموالهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في حِلّهم، في ترحالهم، في شدّتهم، في رخائهم، ما دامت سنتك مطبقةً في حياتهم ما كان الله ليعذبهم، فإن أردت أن تكون في مأمن من عذاب الله فطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
شيء آخر؛ ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي أنت حينما تندم، وحينما تستغفر، وحينما تُراجع نفسك، أنت في مأمن آخر من عذاب الله، أنت في مأمنين؛ في مأمن اتباع المنهج، وفي مأمن الندم على خرق المنهج، إن ندمت فأنت في مأمن، وإن سرت على الحق فأنت في مأمن، وحاجة الإنسان إلى الأمن حاجة كبيرة.
أيها الإخوة الكرام؛ ننتقل إلى القسم الثالث من منزلة الأدب ألا وهي الأدب مع الخلق، فالأدب مع الخلق معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكل مرتبة أدب، والمراتب فيها أدب خاص؛ فمع الوالدين أدب خاص، ومع الأب بالذات أدب متميز، مع العالِم أدب آخر، مع السلطان أدب يليق به، مع الأقران أدب يليق بهم، مع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه، مع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.
قالوا: لك آباء ثلاث؛ أب أنجبك، وأب زوجك، وأب دلك على الله، ولكل من هؤلاء الثلاثة أدب خاص يليق به، هذا مع الأشخاص فماذا مع الأحوال؟ لكل حال أدب، فللأكل آداب،

ما كان عليه الصلاة والسلام يأكل متكئاً، كان يجلس جلسة العبد، وللشرب أدب، كان عليه الصلاة والسلام يُبعد القَدَح عن فيه، وهذه السنة تتوافق مع أحدث نظرية في العدوى، زفير الإنسان قد يُعدي، فإذا تنفست في أثناء شرب الماء، أبعدت القدح عن فيك، فهذا من الأدب، ومصوا الماء مصاً ولا تعبوه عباً فإن الكباد من العب، وكان عليه الصلاة والسلام يشرب ثلاثاً، ويشرب جالساً، هذه كلها آداب للشرب، طبعاً نحن نتحدث بشكل إجمالي، وللركوب، والدخول، والخروج، والسفر، والإقامة، والنوم آداب، هناك نوم الملوك على ظهورهم، وهناك نوم الشياطين على بطونهم، وهناك نوم الأغنياء على شقهم الأيسر، لأنه أفرط في الطعام، وهناك نوم الأتقياء على شقهم الأيمن، كان عليه الصلاة والسلام ينام على شقه الأيمن، ويضع يده تحت خده الشريف، ويقرأ دعاء قبل أن ينام.
وللسكوت أدب؛ كان عليه الصلاة والسلام يُحسِن الاستماع، وتراه يُصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به، وهناك أدب للسكوت، والسكوت أدب، يسكت عن علم لا عن جهل، قال العلماء: أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره.
مشاهد من السنة تُلفت النظر:
الحقيقة أيها الإخوة؛ هناك في السنة مشاهد أو مواقف تلفت النظر، سيدنا العباس سُئل: أيكما أكبر أنت أم رسول الله؟ قال: هو أكبر مني ولكنني ولدت قبله، أرأيت إلى هذا الأدب؟
امرأة عثمان بن مظعون جاءت إلى السيدة عائشة بثياب مبتذلة، فسألتها: مالكِ هكذا؟ فقالت: إن زوجي صوّام قوّام، لا يلتفت إليّ إطلاقاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام أرسل في طلبه وعاتبه، وقال: يا عثمان، أليس لك بي أسوة؟ أنا أنام وأقوم، وأصوم وأُفطر، فيبدو أن سيدنا عثمان بن مظعون عاد إلى توجيهات النبي، والتفت إلى زوجته، فجاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى بيت السيدة عائشة بعد حين ورأتها عطرة نضِرة، فقالت لها السيدة عائشة: مالكِ وقد تغير حالك!؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس، كلام لطيف لا يجرح الحياء، والقرآن الكريم:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)﴾
أرأيت إلى هذه العبارة التي ينطوي تحتها كل ألوان الشذوذ؟ ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم، أية كلمة تثير الشهوة، تصف حجم عظامك، والعظم لا يثير الشهوة، بل إن بعض الشعراء له بيتان في الغزل، أي كان البيتان فيهما مأخذ عليه، قال:
إن سلمى خُلِقت من قصبٍ قصـب السكر لا عظم الجمـل
وإذا قـرّبـت منهـا بصـــلاً غلـب المسك على ريح البصل
عظم الجمل لا يتناسب مع الغزل، فكذلك النبي عليه الصلاة والسلام جاء بكلمة تُبعدك عن الإثارة كلياً، إن هذه الثياب تصف حجم عظامك.
لا أذكر كل المشاهد المفعمة بالأدب من أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله ولكن سيأتي معنا بعض الأمثلة.
شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور شعور الخزي والعار:
أحياناً هناك امرأة تعمل بفنّ ساقط، أساسه قلة الأدب، وقد تجدها غنية جداً، وهذا وصمة عار في حقّ المجتمع، أنا كنت في بلد عربي، وأشير إلى بناء في لبّ المدينة في القاهرة، قال: هذا البناء كل بيت فيه يزيد سعره عن ثلاثمئة مليون، تسكنه راقصة، التي تعمل بقلة الأدب تسكن هذا البيت، والذي يعمل في الأدب لا يجد قوت يومه، هذا مأخذ على مجتمع يعلو فيه المنحرف ويفتقر فيه المستقيم.
سْئلت امرأة تعمل في الفن في بلد غربي ولها شهرة واسعة: ما شعورك وأنت على خشبة المسرح؟ فقالت: شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور، إن الحبّ يجب أن يبقى بين الزوجين وفي غرف مُغلّقة، صادقة مع نفسها، شعور الخزي والعار.
قال: فانظر إلى الأدب مع الوالدين، كيف نجّا صاحبه من حبس الغار حينما أطبقت عليهم الصخرة؟
تأمل أحوال كل شقيّ ومغترّ ومدبر، كيف تجد قلة أدبه هي التي ساقته إلى الحرمان؟ موقف لا يتسم بالأدب قد يحرمك شيئاً كثيراً.
أدب الصحابي الجليل زيد الخير مع رسول الله عليه الصلاة والسلام:
أنا لا أنسى هذا الصحابي الجليل، سيدنا زيد الخيل، هكذا كان اسمه، لما التقى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ما اسمك؟ قال: أنا زيد الخيل، فقال عليه الصلاة والسلام: بل أنت زيد الخير، أُعجِب به النبي، قال له: يا زيد ما وُصِف لي رجل فرأيته إلا رأيته دون ما وُصِف إلا أنت يا زيد، أراد أن يُكرّمه، جاء من مكان بعيد، من نجد، بلاده في نجد، فدعاه إلى منزله، في منزل النبي عليه الصلاة والسلام قدّم إليه وسادةً ليتكئ عليها، فقال زيد رضي الله عنه، وهو حديث عهد بالإسلام، مضى على إسلامه أقل من ساعة، قال له: والله يا رسول الله! لا أتكئ بحضرتك، ما هذا الأدب؟ ومتى حصّله؟ والعياذ بالله! هناك من يجلس ويضع رجليه على الطاولة قبالةَ الزائر، هذا من سوء أدبهم مع زوّارهم.
مرة أنا أمشي في الطريق وجدت قدمين خارجتين من نافذة، فعلِمت أن صاحبها درس في بلاد الغرب، وهو جالس على كرسي، وقد وضع رجليه على النافذة قبالة من يمشي في الطريق، المؤمن كله أدب.
مخالفة شرعية في بيت مسلم:
الآن في بيوت كثيرة يرتدي الأب ثياباً متبذلة أمام بناته، قد يرتدي الثياب الداخلية فقط، قد ترتدي البنت ثياباً فاضحةً أمام أخيها، ولو درسنا موضوع العورة لا يجوز للأخت أن ترى من أختها ما فوق ركبتها إلى ما تحت ركبتها، وإنّ ما يتناهى إلى أسماع الناس من شذوذ ضمن الأسرة الواحدة سببه هذا التكشف، ما يتنامى إلى أسماعنا أحياناً من علاقات آثمة محرمة فاضحة بين أفراد الأسرة الواحدة، سببه هذا التكشف،

ومن قال لك إن محارمك يمكن أن ترى منهن كل شيء؟ من قال لك ذلك؟ النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن نستأذن على أمهاتنا:
(( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا. ))
والأب المؤمن يستأذن على ابنته غرفتها، يستأذن على أمه، موضوع الزوجة موضوع ثان، ما سوى الزوجة، الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، هذه محارم، لك أن تراها في ثياب الخدمة، لا أن تراها في ثياب متبذلة، ثياب الخدمة قميص مرتفع الصدر، والكم إلى ما تحت المرفق، والثوب إلى ما تحت الركبة، هذه ثياب الخدمة، ترى أمك بهذه الثياب، أختك بهذه الثياب، ابنتك بهذه الثياب، أما أن تقول: هذه أختي، وإذا أختك؟ لا ينبغي أن تراها إلا بثياب الخدمة، حتى إن بعض علماء التفسير حينما قالوا في قوله تعالى:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾
حتى المرأة التي سمح الشرع لك أن تراها ينبغي أن تراها في ثياب الخدمة، وحتى المرأة التي سمح الشرع لك أن تراها يجب أن تراها رؤيةً شمولية، دون أن تدقق في تفاصيل خطوط الجسم، المؤمن أديب لا يدقق في خطوط جسم امرأة من محارمه، يستأذن عليها في دخوله عليها، إذا نظر إليها ينظر نظرةً عامةً من دون تدقيق يثير الشبهات.
أدب الصّدّيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أدب سيدنا الصديق رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، لم يتقدم بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنحّى، تأخر قليلاً، ليبقى النبي في مقدمة الصفوف.
كنت مرةً في العمرة، وفي مُصلى النبي عليه الصلاة والسلام وُضِع كرسي مصحف، وعليه مصحف كبير، بحيث غطّى نصف القوس، محراب النبي الذي صلى فيه بأصحابه كهذا المحراب تقريباً نصف دائرة وامتداد، وُضِع كرسي مصحف في نصف الدائرة وعليه مصحف كبير، هكذا فهمت أنا، أنه لا ينبغي أن تصلي في مكان النبي تماماً، هذا مقام النبي يجب أن تصلي وراءه خطوةً، أنا كنت في هذا المكان جالساً، جاء رجل ضعيف الإحساس، فأزاح المصحف، وملأ القوس كله بجسمه وصلى، ما هذا الأدب يا رسول الله؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي.
سيدنا عمر رضي الله عنه حينما خطب بالمسلمين في أول خطبة تسلّم فيها الخلافة، وقف في الدرجة العليا، ثم نزل درجة، وقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر، وهناك تصرف حكيم جداً من سيدنا عثمان، سيدنا عثمان لم ينزل درجة، فعلها الفاروق، ولم يفعلها سيدنا عثمان، وكان حكيماً جداً، اتّضحت هذه الحكمة حين سُئل أحد خلفاء بني أمية أنه ِلمَ لمْ ينزل عثمان درجة كما فعل عمر؟ عمر نزل درجة، وقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر، فقال هذا المسؤول ويبدو أنه عالم، قال: لو فعلها لكنت أنت في قعر بئر، لو سيدنا عثمان نزل درجة، وسيدنا علي درجة، نحفر بئراً ويجلس الخطيب تحت في البئر، قال له: لو فعلها لكنت أنت في قعر بئر.
قال بعض السلف: الأدب بين الغلو والجفاء أي من تفسيرات الأدب مثلاً إضاعة الأدب بالجفاء كمن لم يُكمِل أعضاء الوضوء،

ولم يوفّ الصلاة آدابها التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قريب من مئة أدب، ما بين واجب ومستحب، يوجد بالصلاة مئة أدب، ما بين واجب ومستحب، فالجفاء أن تُهمل هذه الآداب، والغلو أن تقع في وسوسة في هذه الآداب، ترفع يديك، تقول: الله أكبر، لم تصح، أعدها، هذه وسوسة، فالجفاء أن تُقصِّر والوسوسة أن تبالغ والأدب بينهما.
رفْع الصوت بها أو الصمت الكامل، أي ترى درساً قائماً بمسجد، يأتي أخ يصلي باثنين بأعلى صوته، يُفسد على المتكلم الدرس كله؛ أين الملاحظة؟ أين الأدب؟ أين الذوق؟ مئات يستمعون إلى درس، صلِّ وأسمع الذي وراءك صوتك، أما أن ترفع الصوت إلى أعلى طبقة، وأن تُطيل في الصلاة، وأن تُفسد على المتكلم درسه، ليس هذا من الأدب إطلاقاً، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لفّ ثوبه، بربكم لو أن امرأة نائمة هل يوقظها صوت حفيف الثوب؟ أي ترى إنساناً يلبس ثوباً، له صوت أثناء السير، حفيف الثوب هل يوقظ امرأةً؟ من شدة أدبه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته لفّ ثوبه، أما الجفاة قومي واصنعي عشاء، وتكون قد نامت الآن، يقسو عليها في إيقاظها.
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لفّ ثوبه، كان يكنس داره، ويخصف نعله، ويرفو ثوبه، ويُصغي الإناء للهرة، وكان في مهنة أهله.
الدعاء مثلاً؛ إنسان تقول له: ادع لنا، ثلاثة أرباع الساعة، غير معقول، يمسك الدعاء ولا ينتهي، أو يدعو بكلمتين، كن معتدلاً، الأدب يبدو بين الإفراط والتفريط، بين الجفاء والغلو، هذا هو الأدب؛ في الصلاة، في الدعاء، في الذكر، في كل شيء.
أكبر الفتن من يدعو إلى الله ويُكلف إخوانه فوق المنهج الذي جاء به النبي:
كان عليه الصلاة والسلام أخف الناس صلاةً في تمام،
(( عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلاةً فِي تَمَامٍ. ))
أي مثلاً لو أطلت الصلاة أكثر من صلاة رسول لله لست أديباً مع رسول الله، أي أنت أشدّ خشوعاً منه؟ أنت أشدّ ورعاً منه؟ إنسان أراد أن يُحرم من مكان أبعد من الميقات، فقال له تابعي جليل: لا تفعل، قال: ولمَ لا أفعل وأنا في عبادة؟ قال: تُفتن، قال: كيف أفتن؟ قال: وهل من فتنة أكبر من أن ترى نفسك سبقت رسول الله؟ هذه أكبر فتنة، بالمناسبة أي إنسان يدعو إلى الله، ويُكلف إخوانه فوق المنهج الذي جاء به النبي فقد وقع في سوء الأدب مع رسول الله، هل أنت أشدّ ورعاً من رسول الله؟ تُكلّف الناس ما لا يطيقون؟ تُكلِّف الناس فوق المنهج القويم الذي جاء به سيد المرسلين؟
النبـــي عليه الصلاة والسلام لم يكن ليأمر بأمر ثم يُخالفه وقد صانه الله عن ذلك، كان يأمرهم بالتخفيف في الصلاة، حتى
(( سيدنا معاذ صلى وأطال فخرج أحد أصحاب رسول الله من صلاته مع هذا الصحابي، فاشتكى إلى النبي، فقال له عليه الصلاة والسلام: أفتان أنت يا معاذ؟))
كن متبعاً للسنة، هي أكمل شيء، إن السنة هي من وحي الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
(( عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَزْعَةُ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، قُلْتُ: إِنِّي لا أَسْأَلُكَ عَمَّا يَسْأَلُكَ هَؤُلاءِ عَنْهُ، قُلْتُ: أَسْأَلُكَ عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لَكَ فِي ذَاكَ مِنْ خَيْرٍ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: كَانَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى. ))
يكتبون على أبواب المساجد: الظهر بعد عشرين دقيقة، العصر بعد عشرين دقيقة، المغرب بعد خمس دقائق، الفجر بعد نصف ساعة مثلاً، هذا من السنة أيضاً، أما الذي يختصر العبادات فهذا من سوء الأدب مع رسول الله، قال: هو كمن أكل مضطراً في مخمصة، أكل ما يسدّ به رمقه فليته شَبِع، هو كجائع قدَّم له طعام لذيذ، أكل لقمة واحدة أو لقمتين، فماذا يغنيان عنه؟ قالوا: إن الصلاة غذاء الروح والقلب، فإنه بحاجة إلى غذائه مما يتنزل من رحمات ربه، كما أن الجسم بحاجة إلى الغذاء مما تُخرج الأرض من بقلها.
في حقوق الخلق قال: ينبغي ألا يُفرِّط في القيام بحقوقهم، وألا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله،

أحياناً الإنسان ينغمس في خدمة الخلق لدرجة أنه يُضيِّع في عمله حقوقه مع الله سبحانه وتعالى، وأحياناً يستغرق في عباداته حتى ينسى ما عليه من حقوق، ينسى أهله بلا طعام، يهمل أولاده في صلواته وأذكاره، أعطِّ كل ذي حقّ حقه، إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل.
عبادة الأدب أن تكون معتدلاً:
كنت أقول لكم دائماً أيها الإخوة: إن العبادة المطلقة أن تعبد الله فيما أقامك، وفي الظرف الذي وضعك، وفي الوقت الذي أظلّك، عبادة هوية ومكان وزمان، أقامك غنياً؟ أنفقْ المال، أقامك عالماً؟ علِّم العلم، أقامك قوياً؟ أنصف المظلوم، أقامك امرأةً؟ أحسني تبعل زوجِك وخدمة أولادك، أقامك طبيباً؟ اعتن بمرضاك، أقامك محامياً؟ لا تغش موكليك، أقامك تاجراً؟ كن صدوقاً، إن أطيب الكسب كسب التجار؛ الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يُخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا كان لهم لم يُعسِّروا، وإذا كان عليهم لم يُمطلوا، وإذا باعوا لم يُطروا، وإذا اشتروا لم يذموا.

أقامك تاجراً؟ طبق هذه الوصايا، أقامك صاحب حرفة، إنما أهلك الصنعة قول غد وبعد غد، أنجز وعدك في الوقت المناسب، أتقن عملك،
(( عن عائشة أم المؤمنين: إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ. ))
أقامك معلماً؟ علِّم طلابك بإخلاص، فيما أقامك، وفي الظرف الذي وضعك، عندك ضيف، أهملَ الضيف، لم يُؤمِّن له الطعام، جعله في مكان غير مريح، لا، عبادتك الأولى أن تعتني بالضيف، عندك مريض، عبادتك الأولى أن تخدم المريض، عندك ابن امتحانه غداً، عبادتك الأولى أن تعتني بابنك قبل الامتحان، هذه العبادة.
الآن وقت سَحَر، هذا وقت صلاة، وقت ذكر، وقت تلاوة قرآن، ليس وقت حسابات، وقت الفجر ليس وقت عمل، وقت ذكر، أي كل وقت له عبادة.
أحدهم جلس مع خطيبته حدثها عن الموت، ما كان حكيماً بهذا الحديث، حدِّثها عن المستقبل، حدِّثها عن عش الزوجية، عن البيت، بدأ بالموت، إذاً عبادة الأدب أن تكون معتدلاً، أن تكون وسطياً بين الغلو وبين الجفاء، بين الإفراط وبين التفريط.
الآن يوجد نوع ثالث، أدب الأحوال، الأدب أن تمنع الخوف من أن يحملك على اليأس، يوجد شيء مخيف، إذا حملك هذا الخوف على اليأس،

معنى ذلك أن توحيدك ضعيف، تصور أنت جندياً والده قائد الجيش، جاء عريف هدده، فبكى هذا الجندي، وارتعدت فرائصه من هذا التهديد، معنى هذا أنه لا يعرف قدر والده، فأحياناً يوجد شيء مخيف، أما هذا الشيء المخيف إذا حملك على أن تيأس من رحمة الله فأنت لست أديباً مع الله، كأنك تتهم الله أنه لا يفعل شيئاً، كأنك تتهم الله عز وجل أنه غير قدير على حفظك.
بصراحة أقول لكم كلمة اقبلوها مني: الله عز وجل هو المعبود، لا معبود سواه، لو سلمك إلى أحد من خلقه لا يستحق العبادة، لو أوكل مصيرك إلى أحد من خلقه، الله عز وجل:
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)﴾
إذا ورقة يعلمها كيف بالصاروخ؟
فقال: الأدب في الأحوال أن تمنع الخوف من أن يصل بك إلى اليأس، بالمقابل وأن تمنع الرجاء برحمة الله من أن يصل بك إلى أن تأمن عذاب الله، فالإنسان أحياناً بحالة الرخاء يتوسع، يتساهل، يطمع بعفو الله، برحمته، هذا سوء أدب مع الله، إذا كنت معافى، صحيحاً، دخلك جيد، بيتك منتظم، زوجتك، أولادك، لا يوجد عندك مشكلة، تهمل الصلوات، تهمل الأذكار، لا يوجد شيء تخاف منه، فهذا الأمن الذي نعمت به قادك إلى التساهل في العبادة، وإن جاءتك شدة من الله ينبغي ألا تقودك إلى اليأس من رحمته، يجب أن تمنع الخوف أن يأخذك إلى اليأس، وأن تمنع الرجاء أن يأخذك إلى الأمن، الأمن أي أن تتوسع في الحركة، أن تبتعد عن الورع.
الأديب مع الله لا يدع الخوف يُفضي به إلى حدّ يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله، فإن هذا الخوف مذموم، يوجد شخص كأنه متوهم أنه سينسحق، أنت مؤمن غالٍ على الله، أنت مؤمن لك عند الله حقوق، الله عز وجل أنشأ لك حقاً عليه،
(( عن معاذ رضي الله عنه: بيْنَا أنَا رَدِيفُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ إلَّا أخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقالَ: يا مُعَاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولَا يُشْرِكُوا به شيئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، فَقالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوهُ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ أنْ لا يُعَذِّبَهُمْ. ))
لا يعذبهم الله عز وجل، الإمام الشافعي استنبط استنباطاً رائعاً: إن الله لا يعذب أحبابه، قال تعالى:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
لو أن الله قَبِل دعواهم لما عذبهم، فإذا عذبهم كذبهم، أنتم لستم أحبابي، فأنا لا أريد إنساناً يخاف، لماذا؟ أنت مؤمن، والأمر بيد الله، والله عز وجل يُظهر آياته.
الخوف الذي ينتهي بك إلى اليأس إساءة أدب مع الله عز وجل:
أيها الإخوة؛ الخوف الذي ينتهي بك إلى اليأس إساءة أدب مع الله عز وجل، والرجاء الذي يُفضي بك إلى الأمن من عذاب الله أيضاً إساءة أدب مع الله عز وجل، بل حدّ الرجاء ما طيّب لك العبادة، وحملك على السير، فهو بمنزلة الرياح التي تُسيّر السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت عن حدها ألقتها في المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلتها إلى البغية، فالرجاء كالرياح في البحر إذا كانت معتدلة أوصلتها إلى بغيتها، إذا توقفت الرياح السفينة توقفت، إذا اشتدت أغرقتها، فالرجاء كالرياح في البحر تماماً إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.

الآن السرور، الإنسان أحياناً يُسرّ، ضبط السرور لا يقدر عليه إلا الأقوياء، أرباب العزائم، الذين لا تستفزهم السّرّاء فتغلب شكرهم، ولا تُضعفهم الضراء فتغلب صبرهم، شخص تأتيه مصيبة يتحطم، غلبته الضراء، أبعدته عن الصبر، وأحياناً يتألق، يأتيه مبلغ كبير مثلاً يُحقق هدفه، يتزوج، يتعين بوظيفة راقية جداً، بفرحه يختل توازنه فيبعده هذا عن الشكر، فالأدب مع الله ألا تحملك السراء إلى أن تبتعد عن الشكر، وألا تحملك الضراء إلى أن تبتعد عن الصبر.
كنت أقول مرةً: بلوغ القمة صعب جداً، ولكن الأصعب منه أن تبقى في القمة، وأنت في أعلى درجات القوة متواضع لله عز وجل، دخل مكة فاتحاً، دخلها مطأطئ الرأس، حتى كادت ذؤابة عِمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل، وطّن نفسك السراء ينبغي ألا تحملك على ترك الشكر، والضراء ينبغي ألا تحملك على ترك الصبر، في الرخاء شكور، وفي البلاء صبور،
(( عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا. ))
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
الله عز وجل يحب العبد الصابر، والله يوجد آية أيها الإخوة إذا قرأتها يقشعر جلدك:
﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾
إنسان تأتيه مصيبة يقول: يا رب لك الحمد، الحمد لله ثلاثاً؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها، إنسان تأتيه ميزة لا يختلّ توازنه؟! يبقى وقوراً؟ هادئاً؟ شكوراً؟ متواضعاً؟ فالبطولة لا أن تصل إلى القمة بل أن تبقى فيها، طريق القمة صعب جداً، ولكن طريق السقوط منها سهل جداً، الغرور؛ إياك أن تغتر، لذلك بين أيديكم هذا الدرس صحابة رسول الله، وفيهم رسول الله حينما قالوا: لن نغلب من قلة، عشرة آلاف مقاتل بعد أن فتحوا مكة لن نغلب من قلة:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
أختم الدرس بهذا القول، درس بليغ، أنت بين حالين؛ بين أن يتولاك الله وبين أن يتخلى عنك، إذا قلت: الله، تولاك، وإذا قلت: أنا، تخلى عنك، درس بدر ودرس حنين؛ درس بدر: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ مفتقرون إلى الله فنصركم، درس حنين أُعجبتم بقوتكم فتخلى عنكم، وهذا الدرس نحتاجه نحن كل يوم مئة مرة، تنجح أحياناً بعملك، تقول: أنا، سقطت، تنجح تقول: يا ربي لك الفضل.
سمعت عن طبيب، جزاه الله خيراً، من أنجح الجراحين، لا يجري عملية جراحية قبل أن يصلي أمام المريض ركعتين؛ يا رب وفقني، يا رب سدد خُطاي، ألهمني الصواب يا رب، فالإنسان بالافتقار، المؤمن الصادق إذا أقدم على عمل: اللهم إني تبرأت من حوالي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولي وعلمك وقوتك يا ذا القوة المتين.
درس بدر افتقرْ، يتولاك الله، درس حنين، إياك أن تعتدّ بنفسك فيتخلى الله عنك، ونحن في أمس الحاجة إلى هذين الدرسين، بهذا تنتهي منزلة الأدب، الأدب مع الله في الدرس قبل الماضي، والأدب مع رسول الله في الدرس الماضي، والأدب مع الخلق في هذا الدرس، والأدب تاج يتوّج به المؤمن، الإسلام عقائد، وعبادات، ومعاملات، وآداب، وقد سُئل النبي الكريم: ما هذا الأدب يا رسول الله؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي، ولم يُرَ ماداً رجليه قط عليه الصلاة والسلام من شدة أدبه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق