وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 076 - منزلة التعظيم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة التعظيم :


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيَّاك نعبد وإياك نستعين، والدرسُ اليوم أو المنزلةُ اليوم: منزلةُ التعظيم.

 

تمهيد :


بادئَ ذي بَدء: كيف أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)  ﴾

[ سورة الأحزاب  ]

الأمر يتعلَّق بالذكر الكثير لا بمطلق الذكر, لأن المنافقين يذكرون الله، قال تعالى:

(وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ 

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142) ﴾

[ سورة النساء ]

فالمؤمن الصادق يذكر الله ذكراً كثيراً، الأمر هنا متعلِّق بالذكر الكثير، قياساً على هذه الآية:

﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)  ﴾

[ سورة الحاقة ]

آمن بالله:

﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)  ﴾

[ سورة الزمر  ]

إبليس قال:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (81)  ﴾

[ سورة ص  ]

آمن به رباً، وآمن به عزيزاً، وآمن به خالقاً، وآمن بالآخرة:

﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) ﴾

[ سورة الأعراف  ]

ولكن ما آمن بالله العظيم، يبدو أنَّ إيمانك بالله العظيم يحملك على طاعته، فكل إيمانٍ لا يحملك على طاعة الله, معنى هذا: أنه إيمانٌ لا ينفعك ولا يجدي، إن لم تعمل وَفْقَ ما تعلَم فلا قيمة لعلمك، العلم ما عُمِلَ به, فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى ، فإذا قال الله عز وجل: ( إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ) ضعف إيمانه بالعَظمة الإلهيَّة حملته على المعصية . 

فهناك آلاف الحالات: 

موظَّف يخالف تعليمات المدير, وهو يعلم أنه موجود، ويعلم أن هذه التعليمات تعليماتُه، ويعلم أنه يخالفها، يبدو لسببٍ أو لآخر أن هذا المدير غير محترم في نظره، وإذا سأله هو يسأله أيضاً، إذا حاسبه يحاسبه أيضاً, لأنه لم يَرَه عظيماً، فأجاز لنفسه أن يخالفَ تعليماته مثلاً, فيبدو أن الإيمان بالله العظيم لا بدَّ من أن يحملك على طاعة الله. 

الآن يوجد لدينا استنباط معاكس: 

لو أن الإنسان ضعفت همَّته في طاعة الله، أو انتهك حُرُمات الله، أو قصَّر فيما أمره الله به، معنى ذلك: أن إيمانه باللـه العظيم أقل مما ينبغي، ضعف إيمانه حمله على المعصية.

هذه المنزلة -منزلة التَعظيم- التي هي إحدى مدارج السالكين، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين, هذه المَنزلة تابعةٌ للمعرفة، تعظِّمُه بقدر معرفتك به، ولو جدلاً عرفته كما عرفه صدِّيقٌ, لعظَّمته كما عظَّمه صِدِّيق, التعظيم مُتعلِّق بالمعرفة . 

أذكر لكم بعض الأمثلة:

لو أننا دعونا أكبر جرَّاح قلب في العالَم إلى زيارة بَلدنا، وخرج لفيفٌ من كبار أطبَّاء بلدنا لاستقباله، في المطار يوجد ألوف الأشخاص, هذا الذي وصل إلى بلدنا إنسان قد يرتدي ثياباً بسيطة، قد يراه بضعُ مئاتٍ من الناس في أرض المطار ولا يعرفون من هو، أما هذا الذي جاء لاستقباله، ويعرف حجمه العلمي، ويعرف سُمعته العالية، ويعرف براعته في إجراء العمليات الجراحيَّة, يستقبله, ويسلِّم عليه سلاماً حاراً مُفْعَماً بالتعظيم.

كنت مرَّة في مسجد أُصلي المغرب، وكان يصلي في المسجد, رجل قصير القامة, مُنحني الظهر، يرتدي ثوباً أبيض، بسيط المظهر، أقبلت عليه, وسلَّمت عليه سلاماً, فيه مُنتهى التكريم، صديقٌ لي كان معي, قال لي: من هذا الذي أقبلت عليه هكذا؟ قلت: هذا كان عميد كُلِّيتنا، وهو من أعلم علماء بلدنا في النحو والصرف, كنت تلميذه، وكان عميد كُليتنا، وأعرف مؤلَّفاته، أعرف باعه الطويل في اللغة العربيَّة وفي علومها، أقبلت عليه -دون أن أشعر- بسلامٍ مُفْعَمٍ بالتعظيم، فأنت تعظِّم بني البشر بقدر ما تعرفهم.

أهل الدنيا لو التقوا بإنسان حجمه المالي خمسة آلاف مليون مثلاً, يكادون ينحنون أمامه، الذين يحبون المال يعظِّمون أهل المال، هذا بل جتس معه مئة مليار دولار، هذا أكبر غَني في العالم، هو صاحب شركة ميكروسوفت للكمبيوتر, إنسان يحب المال، يلتقي ببل جتس, يكاد يركع أمامه تعظيماً له، المؤمن يعظِّم الله عزَّ وجل.

 

من علامة المؤمن: 


أنه يعظم الله، وأنه يعظِّم رسله وأنبياءه, ويعظِّم المؤمنين، ويوالي كلَّ ما يتَّصل بأهل الإيمان، ولا يملأ عينه إلا أهل الحق، ولا يتأثَّرُ إلا بأهل الحق، ولا يعبأُ بإنسان يعصي الله. 

التقيت مرَّة إنساناً يحمل شهادتي دكتوراه، وشهادتين في حقلين متباعدين؛ واحدة في الفيزياء، والثانية في التربية, قال لي دون أن يشعُر: أنا لا أصلي, سقط من عيني, فهذا الذي خلقك من ترابٍ، ثم من نطفةٍ، ثم سوَّاك رجلاً, ألا ينبغي أن تعبده؟ ألا ينبغي أن تخضع له؟ ألا ينبغي أن تُقِرَّ بنعمه عليك؟ فالمؤمن يعظِّم أهل الإيمان, أما أهل الكفر والعصيان لا يعبأُ بهم، ولا يُلقي لهم بالاً. 


من سير العلماء الصالحين :


يروى أن أحد العلماء الكبار كان في الحَرَم المَكِّي، فجاء أحد الخلفاء قال له: سلني حاجتك؟ هذا رأس مجتمع . 

قال له: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله, أنا في هذا المكان لا أسأل إلا الله .

فلما التقاه خارج البيت الحرام قال له: سلني حاجتك؟.

قال: والله ما سألتها من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟! فلما أصرَّ عليه.

قال: حاجتي أن تُدخلني الجنة.

قال له: هذه ليست بملكي.

فقال له: إذاً ليس لي عندك حاجة.

يروى أن أبا جعفر المنصور التقى أبا حنيفة بن النعمان ، قال له: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا؟ أيْ تعالَ زرنا.

قال له: ولِمَ أتغشَّاكُم وليس لي عندكم شيئاً أخافكم عليه؟ وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء؟ إنك إن أكرمتني فتنتني، وإن أبعدتني أزريتني, ليس لي مصلحة .

 

تعظيم الله عز وجل .


ذكرت أن أهل الدنيا يعظِّمون الأغنياء، أما المؤمن الصادق قد يُعَظِّم إنساناً فقيراً جداً، في أدنى درجة اجتماعية, ولكن لأنه مؤمن ومستقيم يحتفل به.

سيدنا الصديق من أرقى أرومات قُريش، فلما اشترى بلالاً من سيِّده، قال له سيده:  والله لو دفعت به درهماً لبعتكه.

قال له: والله إن طلبت مني مئة ألفٍ لأعطيتكها, وضع يده تحت إبط بلال, وقال: هذا أخي حقاً. 

وأنتم يجب أن تعظَّموا أهل الدين؛ المؤمنون، المستقيمون, الأطْهار، الأَعفَّة، أما إنسان تارك صلاة، إنسان تارك السُنة، إنسان يتحرَّك وفق شهوته، هذا إنسان مسموحٌ لك أن تعامله معاملةً محدودة, مسموحٌ لك أن تقيم معه علاقات عَمل فقط، أما العلاقات الحميمة لا تكون إلا مع المؤمنين الصادقين.

فعلى قَدْرِ المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القَلب: 

أعرف الناس بالله عزَّ وجل أشدّهم له تعظيماً وإجلالاً.

وقد ذمَّ الله تعالى من لمْ يعظِّمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صِفته، وأقوالهم تدور على هذا فقال تعالى:

﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) ﴾

[ سورة نوح  ]

قال ابن عبَّاس ومجاهد: ما لكم لا ترجون لله عظمةً؟. 

وقال سـعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمةٍ؟. 

وقال بعضهم: ما لكم لا تخافون الله حقَّ الخوفِ منهُ؟. 

وقال بعض العلمـاء: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يُثيبكم على توقيركم إيَّاه خيراً؟.

قال بعض العلماء: روحُ العبادة الإجلال والمحبَّة، فإذا تخلَّى أحدُهما عن الآخر فسدت. 

 

تعريف العبادة :


فكما أقول لكم دائماً: العبادة غاية الخضوع مع غاية الحُب، إجلال ومحبَّة، إجلال بلا محبة العبادة فاسدة، محبة بلا إجلال كذب والعبادة فاسدة. 

روح العبادة الإجلال والمحبة, فإذا تخلَّى أحدهما عن الآخر فسدت، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المُعَظَّم, فذلك حقيقة الحمد, والله سبحانه وتعالى أعلم, إجلال ومحبة وثناء.

لو دخلنا في تفاصيل هذا الموضوع .  

أول التعظيم: تعظيم الأمر والنهي. 

ليس الوليٌ الذي يمشي على وجه الماء، وليس الوليُّ الذي يطيرُ في الهواء، ولكن الوليَّ كل الولي: الذي تجده عند الحلال والحرام, أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.

إذاً: أول أنواع التعظيم: تعظيم الأمر والنهي، ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: ألا يشوبَهُما تَرَخُّصٌ جافٍ، أو تشددٌ غالٍ، فهناك وضع وسطي، وضع معتدل، وضع سليم، وضع قياسي، فإذا تساهلت هذا التساهل, يعني أنك لا تعظِّم الله عزَّ وجل، وإذا غالَيْت معنى ذلك: أنك لا تعظِّم الله عزَّ وجل، فالغلوُّ يُقابل التفريط، أو العبادة الحقة بين الإفراط والتفريط.

قال: هناك أمران يُنافيان تعظيم الأمر والنَهي، أحدُهما التَرَخُّص الذي يَجْفو بصاحبه عن كمال الامتثال، أيْ يُصلي كنَقر الديك، يصوم ويغتاب، يصوم ويطلق بصره في الحرام، يحجُّ بيت الله الحرام وهو ساهٍ ولاهٍ، ولا يعنيه إقباله على الله بقدر ما يعنيه أداء المَناسك فقط.  

تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب :

حدثني أخ، قال لي: أصلي العصر يوم عرفة بجدَّة, ما هذا الكلام؟ أركب سيارتي من جدة إلى مكة, الطريق خالٍ, لا يوجد فيه إنسان, أدخل الكعبة, أطوف سبعةَ أشواط في أقلَّ من ربع ساعة، لا يوجد أحد فالناس كلهم في عرفات، ثم أتَّجه نحو عرفات وأوقف سيارَتي في أوَّل عرفات، فإذا غابت الشمس عدت أدراجي إلى منى والطريق فارغ، لأنني أول سيارة ، قال لي: أصلي المغرب والعشاء في مزدلفة -جمع- ثم أتجه إلى منى، وأرجم الجمرات أول إنسان، وأنزل وأطوف البيت طواف الإفاضة في الليل، وأوكِّل برجم الجمار في الأيام التالية، وأعود إلى بلدي .

قلت له: هذا حج، ثماني ساعات فقط, قلت له: هذا الحج يُشبه من دُعي إلى طعام نفيس، والمضيف واضع سجل زيارات، فجاء ووضع -م - أيْ موجود، ووقع، ورجع, ولكن لم يأكل شيئاً، سجَّل حضور, ولكنه لم ينتفع بالدعوة .

فالعبادة إذا تساهلنا بها, فهذا من عدم تعظيم الله عزَّ وجل، قال تعالى:

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)  ﴾

[ سورة الحج  ]

تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب. 

إذا شدَّدنا على الناس ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

امرأة جاءتها الدورة قبل طواف الإفاضة, والمسؤول صاحب مَذهب متعصِّب، قال لها: عليكِ بدنة، بركت كالبدنة, امرأة لم تستطع أن تطوف طواف الإفاضة بسبب الدورة، فعند بعض المذاهب عليها بدنة, أيْ مئة ألف ليرة، وهي لا تملك شيئاً منها، شدَّد، لا يوجد عندي غير هذا الحل, ألا يوجد مذهب ثانٍ؟ أبداً.

كذلك التشدُّد: تكليف الناس ما لا يستطيعون، وحملهم على ما لا يستطيعون، والتضييق -تضيق المسار- إلى درجة ممر إجباري ضيِّق, هذا ليس من شأن الدين العظيم، طبعاً عند السادة الشافعية: تغدو أميرة الحج، ينتظرُها فوجها، وعند المالكية: تطوف البيت ولا شيء عليها، فإذا كانت موسرة نقول لها: عليكِ بدنة، انفعي الفقراء، وإن كانت مقيمةً، إن كان لها قريب مقيم في جدَّة أو في مكة, نقول لها: اجلسي عند ابنكِ وانتظري سبعة أيام، وطوفي وعودي إلى بلدكِ، هذا عند السادة الشافعيَّة، وإن كانت مُلْحَقَةً بفوجٍ وفقيرةً، وليس لها أحدٌ في هذه البلاد, نقول لها: طوفي البيت ولا شيء عليكِ على مذهب الإمام مالك، ولولا مالك لكان الدين هالك. 

هذه توسعة، لا تضيِّق، هناك من يضيق إلى درجة الاختناق, فالمتشدِّد يقابل المتساهل، وكلاهما لا يعظِّمان أمر الله عزَّ وجل.  

آتي بمثل قريب: 

كنا بالخدمة الإلزاميَّة، ففي نظام بالطعام، إذا كان هناك أمر معين, صدر أثناء الطعام: يجب أن تقف عن الطعام، طالب ضابط يصب شاي، فإذا سمع أمر التوقُّف, لا يغيِّر يده ولا شعرة، هذا الإبريق يفرغه في الكأس, وينساب الشاي، ينفِّذ الأمر، قال الآمر: اسكت, فانتهى، مرة فرَّغ إبريق بأكمله على الطاولة، إنه ينفذ الأمر، أليس هذا مستهزئاً بالآمر؟ تثبيت, يدَّك بصب الـشاي في كأس، حتى يفرغ الإبريق كله، وأنت تنفِّذ التعليمات بدقَّة، قال لك: اسكت، انتهى الأمر، هذا استهزاء، فالمغالي كالمفرِّط، فالذي يبالغ كأن يقول لك: بسورة الفاتحة أربع عشرة شدَّة، إذا نقصوا واحد فكل صلواتك باطلة, هذه مغالاة -غلوّ-, فإذا شخص من غير العرب, وعنده لكنة في كلامه، وعنده حال مع الله رائع جداً, ولكن ضبطه غير صحيح، فهل هذا ذهب لجهنم؟!. 

من علامة تعظيم أمر الله :

ذات مرَّة كنَّا في درس من دروس جامع النابلسي، دخل رجل -توفي رحمه الله- بأعلى صوت, والجامع مُمْتَلئ عن آخره, وقال: كل واحد ليس على رأسه طاقيَّة فصلاته باطلة, قلت: بهذه البساطة؟ فالذي يُغالي كالذي يفرِّط.

من علامة تعظيم أمر الله: ألا تغالي وألا تفرِّط ، كان عليه الصلاة والسلام أخفَّ الناسِ صلاةً في تمام.

حدَّثني أخ ذات مرة كان في تعزية، قال لي: بعد ما انتهى القرآن, دعا الشيخ خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ثلث ساعة، خمس وعشرون دقيقة، قال لي: غفلت، متعب, فنمت، استيقظت, قال له: أين وصل؟ أيعقل أن يكون الدعاء ساعة مثلاً؟! هذا غلو، عندما تحمِّل الناس فوق طاقتهم يملون الدين. 

أخ قال لي: لماذا لا يكون درسنا ما بين المغرب والعشاء بالضبط؟ قلت له: في الصيف بين المغرب والعشاء ساعة ونصف بالضبط, فهل أنت تتحمَّل درس مدَّته ساعة ونصف؟! أول ربع ساعة نشيط، ثاني ربع ساعة متحمِّس، ثالث ربع ساعة تضجر، الرابعة يجوز أن تسب المتكلم -مثلاً-, المفروض أن تجلس إلى الدرس, وأنت تشتهي سماع الدرس, وأن ينتهي الدرس وأنت تشتهي متابعة الدرس، أنا درسي خمسون دقيقة, وأحياناً أربعون دقيقة، أنا هكذا قناعتي، فخلال تعليم ثلاثين سنة, وجدت أن الإنسان طاقة استماعه خمسين دقيقة, أعلى شيء وأربعين أفضل, فأجعله يأتي بشوق، وينتهي الدرس, وهو بشوق أفضل.

بالمناسبة: مرة في العمرة وفي المسجد النبوي، أنا أحب أن أحضر دروس علم, وأنا في العمرةِ أو الحج، وهناك في المدينة المنورة, رجل أحترمه جداً, له درس فقه، ودرسه عميق، فأنا حريص على حضور درسه، فذات مرة حضرت الدرس, فإذ بي أتعب تعباً شديد جداً، وطال الوقت بشكل غير معقول، قلت: سبحان الله! يجب على كل الدعاة حضور درس علم لغيرهم، كي يعرفوا قيمة الوقت, فالمتكلِّم لا يشعر بالوقت, ولا يتعب، ولا يعطش، ولا يشعر بالحر ولا بالبرد لأنه في نشاط.

أقل لك مثلاً أوضح: حينما كنت طالباً في الجامعة، كيف تمضي الساعات الثلاث في الامتحان؟ كانت تمضي كلمح البصر، ثلاث ساعات، من شدة الاهتمام والتفاعل مع الأسئلة والورقة تمضي بسرعة, وبعد هذا علَّمت في الجامعة حوالي خمس وعشرين سنة، قل لي: ما هو أصعب شيء في الجامعة؟ المراقبة، نجلس، يمضى وقت طويل، ثلاث دقائق مضت، أعوذ بالله، فأقلب الساعة بالعكس، اصبر اصبر ثلاث ساعات تمضي وكأنها دهر، الوقت نسبي يثقل ويَخِف، هكذا قال الشاعر:

إن يَطُل بعـدك ليلي فلـكم     بِتُّ أشكو قصر الليل معك

الشاعر مع المحبوب لا يشعر بطول الليل, ويعاني من طوله بعد الفراق.

فالمتكلِّم لا يتعب، ولا يشعر بالحر، ولا بالقَر، ولا بالجوع، ولا بالشبع، ولا بالعطش، ولا بالرّي، ولا بالوقت، من الذي يشعر بثقل؟ المستمع.

فكان عليه الصلاة والسلام يتخوَّل أصحابه في الموعظة، وأنا أفضِّل أن أُنتقد بقصر الدرس عن أن أنتقد لطول الدرس، وأرجو الله أن أكون على صواب.

نقطة هامة :

إذاً: التعظيم بين الإفراط والتفريط، فالترخُّص كما هذا الذي حج في ثماني ساعات، فالترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، والغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي. 

هناك إنسـان يبقى في الحمَّام أربع ساعات، هذا عنده داء الوسوسة، في إنسان يقضي حاجة بساعة أحياناً .

وما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإما إلى إفراطٍ وغلو  .

أبداً، كل أمر إلهي الشيطان له نَزْغَتان: إما إلى إفراطٍ وغلو, أو إلى تفريطٍ وإضاعة .

ودين الله وسطٌ بين الجافي والغالي؛ كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسطُ بين الطرفين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيعٌ له، فالغالي فيه مضيعٌ له، هذا بتقصيره عن الحد, وهذا بتجاوزه الحد.

هناك كثير من الفتاوى فيها تشدُّد غير معقول، فكلمة خطأً قالها الزوج طلَّقوا له زوجته.

أعرف أُناساً إذا لبس نعل زوجته تطلق امرأته، لماذا؟. 

قال: لعن الله المتشبهين بالرجال مِن النساء.

والمتشـبه ملعون، والملعون كافر، والكافر تطلق زوجته، ما هذا الكلام؟ هذا غلو غلوٌ أو تفريط، هذا من عدم تعظيم الآمر.

 

أنواع الغلو :


أما الغلو، قال الله تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)  ﴾

[ سورة المائدة ]

الغلو نوعان:  

1- نوعٌ يخرِجه عن كونه مطيعاً .

كمن زاد في الصلاة ركعةً، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكِبار، أو سعى بين الصفا والمروة عشراً، أو نحو ذلك عمداً، ففي زيادة تقلب الطاعة معصيةً, وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, ولَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح والنسائي في سننه ]

وكل إنسان يزيدُ على منهج رسول الله، فإنه يفعل مزاودةً رخيصة، أنا أسميها مزاودة لا أسميها ورع، لست أورع من النبي، وليس منهجك أقوم من النبي، ومنهج النبي -عليه الصلاة والسلام- كافٍ كي ترقى به إلى أعلى عليين.

أحد الناس أراد أن يُحرم قَبل الميقات، نهي عن ذلك, فقال: كيف تنهاني وأنا في عبادة؟ فقال له المنتقد: وهل من فتنةٍ أشد من أن ترى نفسك سبقت رسول الله؟!. 

الآن يوجد أشخاص -هكذا بلغني-, يمنعون الزوجَ من رؤْية أم زوجته، هكذا أورع، هذا غلو، الله سمح لك أن ترى أم زَوْجتك، هناك أُناس يمنعون زوجاتهم من المُعالجة عند الأطبَّاء, أحياناً يكون مرض ما فيه اختصاص إلا عند طبيب، لا توجد امرأة . 

2- غلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار.

قال: وهناك غلوٌ يخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله, هذا فوق طاقة الإنسان.

الصحابة ما صلوا من الليل إلا ثماني ركعات فقط، طوال الليل ألا ينام أبداً؟ غير معقول هذا الكلام، لو حمل نفسه على قيام الليل كله, هذا الشيء لا بدَّ من أن ينقطع ولا يستمر، إذاً : 

هناك غلوٌ يخاف معه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كلِّه، وصيام الدهر جميعاً, بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد, -خمسة آلاف مرة أذكر الله عزَّ وجل، مئتا مرة تحتاج إلى ربع ساعة, الخمس مئة تحتاج ربع ساعة، قد يكون خمس أو ست ساعات ، أو أنفق مالك كله.

هذا غلو أيضاً، المال قِوام الحياة، عندك زوجة وأولاد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ, وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ, فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا, وَأَبْشِرُوا, وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدَّلْجَةِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والنسائي في سننه ]

  أيْ ارتاح، فإذا الإنسان أقال في رمضان، أقال ظهراً, فالقيلولة كانت له عوناً على قيام الليل، الإنسان ينام، وينام بعد الظهر، ويرتاح ويصلي، لكي يكون نشيطاً. 


رسالة إلى المعتمرين والحجاج :


أنا أنصح إخواننا المعتمرين والحجَّاج: إذا وصلت إلى بيت الله الحرام, إياك أن تدخل بيت الله الحرام مباشـرةً, لماذا؟ أنت منهك من السفر، الطائرة عدة ساعات، وعلى الحدود، وفي المطار ساعتين أو ثلاثة، والتفويج ساعتان، أنت منهك، فالجسم له حق, فإذا دخلت مباشرةً, قد لا تجد نفسك هذا الإقبال، وهذا التألُّق، فتصاب بنكسة، فاذهب إلى البيت وارتح ساعاتٍ طويلة، واغتسل وادخل بيت الله الحرام نشيطاً، كي يكون النشاط عوناً لك على الاتصال بالله عزَّ وجل.

وقد قال صلى الله عليه وسلَّم: 

(( لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ, فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُد ))

[ أخرجه البخاري في الصحيح, وأبو داود والنسائي في سننه ]

( لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ) أي مادام نشيطاً ( فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ ) يرتاح ، وفي صحيح مسلم: عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- أنه قال: 

(( هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً ))

[ أخرجه مسلم ، وأبو داود ]

وهم المتشددون؛ أيْ أنَّ النبي قال: من كانت ناقته حرون فلا يذهب معنا ، هناك إنسان من الصحابة خالف، وذهب مع النبي في الجهاد بناقة حرون، فوقع من على ظهرها ودُقَّت عنقه, فلم يصل الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي صحيح البخاري: عن النبي صلى الله عليه وسلَّم : 

(( عليكم من الأعمال ما تطيقون, فو الله لا يمل الله حتى تملوا ))

فترة ربع ساعة, كل يوم اقرأ خمس صفحات قرآن، لو ألزمت نفسـك بجزء قد لا تستطيع، لديك وقت وطاقة اقرأ جزءاً، أما الحد الأدنى خَمس صفحات، اعمل لنفسك برنامجاً معقولاً تستطيع أن تفعله كل يوم، إذا لزمت درس علمٍ حافظ عليه.

(( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم, ومالك في الموطأ ]

 وفي حديثٍ آخر: عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : 

(( إن هذا الدين متين, فأوغل فيه برفق، ولا تبغِضَّن إلى نفسـك عبادة الله ))

 وقال بعض العلماء أشد أنواع التعظيم: تعظيم الحَق سبحانه وتعالى, وهو ألا يجعل دونه سبباً، ولا يرى عليه حقاً.

 

من تعظيم الله عز وجل :


 1- أن تعتقد أنه ليس بينك وبينه حجاب, وليس بينك وبينه واسطة :

 إذا قلت: يا رب, قال لك الله: لبيك يا عبدي, يا رب تبت إليك, يقول لك: يا عبدي وأنا قد قبلت.

من البِدَع مثلاً: أن نُكّلِّف إنساناً يعمل لنا استخارة، استخر أنت، ليس بينك وبين الله حجاب, أنت استخر الله في هذا الأمر، الاستخارة بالنيابة لم ترد عن رسول الله أبداً, النبي علَّمنا أن نستخير الله نحن مباشرةً.

فلا يوصل إلى الله إلا الله، ولا يقرِّب إليه سواه، ولا يُدني إليه غيره، ولا يتوصَّل إلى رضاه إلا به، فما دل على الله إلا الله, ولا هدى إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، فإنه سبحانه هو الذي جعل السبب سبباً, فالسبب وسببيَّته وإيصاله كله خلقه وفعله  .

لا يوجد إلا الله عزَّ وجل، أما إنسان له شيخ، عالم جليل، مرشد حكيم, هذا مُسَرِّع، وأقوى دليل، قال:

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) ﴾

[ سورة الفرقان ]

هذا رفيق من أعلى مستوى: ( اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) الشيخ والمرشد هذا يعينك بعلمه أو بحاله، أما أن يكون هو الوسيط الوحيد، لا، ليس بينك وبين الله حجابٌ أبداً.

والشيء الثاني في تعظيم الله عزَّ وجل: 

2- ألا ترى لأحدٍ من الخلق لا لك ولا لغيرك حقاً على الله، بل الحق لله على خلقه.

إذا أحد من الناس وجد بيتاً، هو إنسان غني, وجد بيتاً بثلاثمئة مليون، أربعمئة متر, له إطلالة جميلة، فيه كل وسائل الراحة، فدفع المبلغ عداً ونقداً، وسجله بالدوائر الرسمية، لو أنه التقى مع صاحب البيت الأول, هل يرى لصاحب البيت عليه فضلاً؟ لا، أخذ حقَّه الكامل، وقد يكون دفع أغلى من ثمنه, يقول له: ليس لك فضل، أخذت حقَّك كاملاً.

بيت ثمنه ثلاثون مليوناً، قدَّمه لك صاحبه, وقال لك: ادفع فقط ثمن المفتاح، أنا معي مفتاح واحد, خذه وانسخ منه نسخة, واسكن في البيت، لو التقيت مع صاحب البيت بعد يومين ، كيف تسلِّم عليه؟.

حينما تعتقد أنك دخلت الجنة بعملك فأنت لا تعرف الله، أنت دخلت الجنة بسبب لا بثمن، أنت لم تدفع ثمنها بل دفعت سببها، كل عملك الصالح في الدنيا هو سبب لدخول الدنيا، كل العمل الصالح؛ من صلاةٍ, وصيامٍ، وحَجٍ، وزكاةٍ، وغض بصرٍ، وتحري حلالٍ، وخدمة الخلق, كل هذا العمل يساوي ثمن مفتاح الجنة، فأنت دخلتها بسبب لا دخلتها بثمن، فالجنة مَحْضُ فضلٍ، والنار محض عَدلٍ، فأنت حينما ترى أن لك حقاً عند الله، أنت بهذا لا تعرف الله ولا تعظِّمه، ليس لك عنده شيء:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) ﴾

[ سورة الإنسان  ]

 خلقك ولم تكُ شيئاً هو من كرمه وفضله, أنشأ لك حقاً عليه, إذا عبدته حقَّ العبادة . 

قال وأما حقوق العبيد على الله عزَّ وجل: 

من إثابته لمُطيعهم, وتوبته على تائبهم، وإجابته لسائلهم، فتلك حقوقٌ أحقَّها الله سبحانه على نفسه بحكم وَعْدِهِ وإحسانه، لا أنها حقوقٌ أحقّوها هم عليه. 

أنت وجدت إنساناً ليس لك عنده شيء أبداً, قال لك: أنا سأعطيك بيتاً, إذا أنت قلت له: أين البيت؟ -بنبرة قاسية-, سيقول لك: أي بيت هذا؟ هل لك عندي شيء؟ يجب أن تطلب منه البيت بلطف, لأنك ليس لك عنده شيء أبداً، فإذا توهم الإنسان أن له حقاً على الله، هذا فيه جهل كبير، وهذا من عدم تعظيم الله عزَّ وجل، أنت عبدُ إحسان، أنت خُلقت للجنة برحمة الله عزَّ وجل، والجنة مَحْضُ فضلٍ.

تعظيمُ الله عزَّ وجل من مدارج السالكين، في منازل إياك نعْبد وإياك نستعين، والتعظيم مقترن بالمعرفة. 

أنا التقيت مرة مع إنسـان لا أعـرفه أبداً, -وبيننا عمل علمي-, فقلت له: إذا احتجت لشيء باللغة العربيَّة فأنا مختص, قال لي: أنا معي اختصاص عربي كذلك، وبعد هذا ظهر لي أنه خطَّاط كذلك، ورسَّام, وشاعر, ومخرج للمَقالات، فأنا كلَّما ذكر صفة لي وأراني الأدلَّة والخطوط، والقصائد الشعرية، والاختصاص، كلَّما قدَّم لي ميزة من ميزاته كبر بنظري.

أحياناً: إنسان لا تعرفه فإذا جلست معه عرفته، فأنت تعظِّم الناس بقدر معرفتك بهم ، وقد لا تعظِّمهم بقدر جهلك بحقِّهم.

على كلٍ؛ تعظيم الله عزَّ وجل مقترنٌ بالمعرفة، فمن عرف الله عظَّمه، والتعظيم من أكبر ثمراته طاعة الله عزَّ وجل، وأيُّ عبدٍ لا يطيع الله, التشخيص المرضي لهذه الحالة: أن تعظيمه لله ضعيف، لأن تعظيمه لله ضعيف حمله على معصيته, ويستوي المُفْرِط والمُفَرِّط، والمُبالغ والمُقصِّر.

أنت بالمبالغة تكرِّه الناس بدين الله, مثلاً: 

ورد أن الكحول نجسة، فالكحول خمر، فإذا أحد عطَّرك عطراً كحولياً -استعمال خارجي-, هناك من يَخْرُج من جلده نجس، فهل هو كالغائط؟ لا، مجمع الفِقه أقرَّ أن هذه نجاسة مخفَّفة حُكْمِيَّة، وتذهب بطيرانها، طبعاً الأولى ألا تتعطَّر قبل الصلاة بعطر كحولي، أما لو أحد عطَّرك وهذا اسـتعمال خارجي وليس داخلي ونجاسةٌ حكميةٌ معفوٌ عنها، ومؤتمر الفقه الإسلامي الذي عُقد في جدة أقرَّها. 

إنسان يكرِّه الناس، يكون إيمانه ضعيفاً، أو حديث عهد بالإسلام إذا معه زجاجة عطر، فيقول له أحدهم: هذه نجسة, هذه مبالغة، أنت ورع لا تستعملها، أما إذا عطَّرك لا توجد مشكلة الآن، فهناك أمامه مراحل طويلة جداً قبل أن يصل إلى هذا الحُكم الشرعي، هناك من يُشَدد, يبالغ.

يدخل إلى بيت يجد فيه صورة، صاحب البيت في الأصل لا يصلي، فيقول له منكراً: حرام, كلِّم إنساناً عرف الله عزَّ وجل وبقي عليه الفروع، أما هو أصول الدين مهزولة عنده، فإذا خاطبته بفروع الدين أنكر عليك أشد الإنكار, قال تعالى:

﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ﴾

[ سورة النحل ]

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور