وضع داكن
16-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 099 - علة وجود الإنسان عبادة الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا و زدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تمهيد:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس التاسع والتسعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ولأن هذه الدروس التي فضل الله بها علينا على وشك الانتهاء، فلا بد من أن نتجه إلى تلخيص هذه المعاني المستفادة: 

من أن الإنسان مخلوق لعبادة الله عز وجل .

بل إن عبادة الله علة وجوده .

ويمكن للقلب أن يمتلئ طمأنينة, حينما يستمع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل سيدنا معاذ بن جبل :

(( عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنتُ رِدْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له : عُفَير ، فقال : يا معاذ ، هل تدري ما حقُّ الله على العباد ، وما حقُّ العباد على الله ؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحقُّ العباد على الله : أن لا يعذِّب من لا يشرك به شيئاً ، فقلتُ : يا رسول الله : أفلا أبشِّرُ الناس ، قال : لا تبشِّرْهم فيتَّكِلُوا ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

الآن السؤال المعاكس: الذي يمــلأ القلوب طمأنينة (( وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذلِكَ أَنْ لاَيُعَذِّبَهُمْ )) حينما تعبد الله عز وجل، أنشأ الله لك حقاً عليه ألا يعذبك، من منا يحب أن يُعذب؟ من منا يحب أن يفتقر؟ من منا يحب أن يمرض؟ من منا يحب أن يخاف؟ حينما تعبد الله، أنت تحت مظلة الله عز وجل، أنت في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، أنت في رعايته وعنايته وتوفيقه وحفظه.

 بل إن قول الله عز وجل مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)  ﴾

[ سورة الطور ]

تنسحب عليك بطريقة أو بأخرى هذه الآية بقدر إيمانك وإخلاصك.

والإنسان كما تعلمون خُلق هلوعاً، خلق شديد الخوف، وهذا ضعف في  أصل خلقه ، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

[  سورة المعارج ]

ما دمت متصلاً بالله، فأنت بعيد عن الجزع، بعيد عن الهلع: ( إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)) وانحرف المسلمون حينما عبدوا الله وفق أمزجتهم، ووفق اجتهاداتهم، ووفق بدع ما أنزل الله بها من سلطان، الله جل جلاله لا يعبد إلا وفق ما شرع، فأية عبادة مبتدعة، لم ترد لا في القرآن الكريم، ولا في سنة النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، فهذه عبادة لا يقبلها الله عز وجل. 

بل إن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى سئل عن العمل الصالح الذي يرضاه الله عز وجل، في قوله تعالى: 

﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) ﴾

[ سورة النمل ]

سئل عن العمل الصالح الذي يرضي الله عز وجل، قال: ما كان خالصاً وصواباً، وشرح هذا فقال: خالصاً ما ابتُغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة. 

فهذا مقياس دقيق: النية الطيبة وموافقة السنة، كلاهما شرط لازم غير كاف، لا يكفي أن تكون النية حسنة، ولا يكفي أن تطبق السنة من دون نية، فلا بد من نية حسنة مع تقيد بالسنة حتى يُقبل العمل، حتى تكون العبادة منجاة للإنسان من عذاب الله.

لعل النجاة في أن تُقايس، أو أن تقارن، أو أن توازن، بين ما لك وما عليك، ما عليك من أخطاء، وما لك من ميزات، أو أن توازن بين ما قدمت، وبين ما قدمه الله لك من نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد. 

الإنسان حينما يغفل عن سر وجوده، عن غاية وجوده، يتيه في الأرض، وكلمة ضياع ، وتيه، وحيرة، وسوداوية، وانقباض، وكآبة، هذه كلها من صفات الشاردين عن الله عز وجل ، أنت حينما تتعرف إلى الله، تتعرف إلى منهجه، توقع حركتك اليومية وفق منهج الله، فإنه من المستحيل أن تكون شقياً، قال تعالى: 

﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4)﴾

[ سورة مريم  ]

يعني: ما من مخلوق يدعو الله عز وجل، يشقى بهذا الدعاء: ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4))

 

محاسبة النفس لها ثلاث خصائص :


قالوا: الإنسان حينما يحاسب نفسه، يحتاج إلى خصائص ثلاث: 

1- يحتاج إلى نور الحكمة .

2- ويحتاج إلى سوء الظن بالنفس .

3- ويحتاج إلى تمييز النعمة من الفتنة.

 فكم من فتنة توهمها الإنسان نعمة وهي فتنة؟ معنى فتنة بالضبط: يعني شيء تُمتحن به، فإما أن تنجح، وإما أن ترسب، قال تعالى: 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[ سورة العنكبوت ]

لا بد من أن تُفتن، وإياكـم أن تفهموا من كلمة الفتنة المعنى السلبي: مجرد امتحان، فقد تنجح, وقد تتفوق، وقد تعلو عند الله عز وجل، أما لا بد من امتحان، لذلك الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- سئل: أندع الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تُمكن قبل أن تبتلى. 

إن صح التعبير: هناك مرحلة التأديب، وهناك مرحلة الابتلاء، وهناك مرحلة التمكين ، وهذه المراحل الثلاث؛ إما أن تتمايز، وإما أن تتداخل، فلا بد أن تُميز بين النعمة وبين الفتنة ، قد يأتي المال وفيراً ويكون فتنة وليس نعمة، فيحملك على المعصية، والكبر، والإسراف، والتبذير، وتحقير الناس لأنهم فقراء، هذا المال ليس نعمة بل هو فتنة, كل حظ من حظوظ الدنيا، هو في الوقت نفسه نعمة وفتنة، نعمة إذا حملك على طاعة الله، وفتنة إذا حملك على معصية الله، إذاً حظوظ سلم نرقى به أو دركات نهوي بها، فكل حظ أوتيته لا يكون نعمة إلا إذا وُظف في طاعة الله, وأي حظ أوتيته يعد نقمة إذا كان مسخراً في معصية الله، والحظوظ تعلمونها؛ طلاقة اللسان حظ, والوسامة حظ، والغنى حظ، والقوة حظ، والصحة حظ، ووقت الفراغ حظ، هذه الحظوظ إذا وُظِّفت في الحق كانت نعمة وأية نعمة، أما إذا وُظِّفت في الباطل كانت نقمة وأية نقمة، فلا بد من التمييز بين النعمة والفتنة. 


الفرق بين النعمة وبين الفتنة .


أعجبني قول أحد العلماء! قال: هناك خيط رفيع جداً بين الخشوع وبين الطرب.

أحياناً الإنسان يستمع إلى القرآن الكريم من قارئ شجي الصوت، حسن الأداء فيطرب، وهو يظن نفسه خاشعاً, هناك خشوع وهناك طرب، يخشى أن لا نميز بين الخشوع وبين الطرب، الخشوع له صفات، أما الطرب له صفات، فحينما يعلو الصوت، وحينما تتجاوب مع نغم شجي في تلاوة القرآن، وحينما تضطرب فهذا طرب وليس خشوعاً، كذلك قد يتوهم الإنسان أن هذه نعمة، وهي في الحقيقة فتنة.

يعني أي حظ جرك إلى معصية، جرك إلى تساهل، جرك إلى تقصير، جرك إلى عزوف عن طلب العلم، جرك إلى إيثار الدنيا على الآخرة، هذه فتنة وليست نعمة، وشتان بين النعمة والفتنة، فمن أجل أن تُحاسب نفسك حساباً عسيراً، لا بد من أن تمتلك القدرة على التمييز بين الفتنة وبين النعمة، أشخاص لا يرون لأنفسهم خطيئة، يقدسون ذواتهم، ويرفضون أي نقص فيها، يرفضون أي انتقاد لتصرفاتهم, هؤلاء يعبدون ذواتهم من دون الله، لن تستطيع أن تُحاسب نفسك حساباً دقيقاً إلا إذا تمكنت من أن تسيء الظن بنفسك. 

عود نفسك أن تُحسن الظن بالآخرين، وبشكل أخص بالمؤمنين، عود نفسك أن تلتمس لهم عذراً, عود نفسك أن ترى الوجه الإيجابي، عود نفسك أن تُحسن الظن بهم، وعود نفسك أيضا أن تُسيء الظن بنفسك، ألا تُحابيها، ألا تُجاملها، ألا تمتدحها، ألا تُسوغ خطأها، لذلك الصالحون شديدو المحاسبة لأنفسهم، سَيِّئُو الظن بها، إذا أضل الله إنساناً أسبغ على نفسه مديحا لا نهاية له، كأنه لا يخطئ، كأن كل أفعاله جيدة، أما المؤمن الصادق عمله الطيب يتهمه، لعل نيتي لا ترضي الله، لعلي بهذا العمل فرحت بمدح الناس لي، فالمؤمن الصادق  أعماله الخالصة يشك فيها، بينما المنافق أعماله السيئة يمتدحها، هذا معنى قول أحد التابعين: 

التقيت أربعين صحابياً، ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً.

يتقلب المؤمن في اليوم الواحد في أربعين حالاً، بينما المنافق يستقر في الحال الواحد أربعين سنة, يحسن الظن في نفسه، ويسبغ على نفسه كل صفات العظمة، وينتقد الناس جميعاً ، وهو ليس كذلك، إذاً لا بد من تمييز النعمة من الفتنة، ولا بد من سوء الظن بالنفس:

فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها      إن الطعام يقوي شهوة النهم

يروى أن سيدنا عمر كان يخطب بالمؤمنين في أيام خلافته -يعني فجأة قطع الخطبة، وقال كلاماً لا معنى له، قال كلاماً لا ينسجم مع موضوع الخطبة-, قال: يا بن الخطاب، كنت راعياً ترعى الغنم على دريهمات لأهل مكة، وتابع الخطبة، فلما انتهت الخطبة، سأله بعض أصحابه: لماذا قلت هذا الكلام؟ وما علاقته بالخطبة؟ فقال سيدنا عمر: جاءتني نفسي، وقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد، -يعني أنت قمة المجتمع، هو فعلاً خليفة المسلمين، كل الناس دونه خليفتهم، هو أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين، قال عنه النبي:

(( لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ))

[ أخرجه أحمد والترمذي والحاكم من طريق مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  ]

سماه المؤرخـون عملاق الإسلام، أتت آيات كثيرة موافقة لاجتهاده، حتى سميت هذه القضايا بالموافقات، كان النبي يحبه حباً جماً، فلما قالت له نفسه: ليس بينك وبين الله أحد, أعجبته نفسه، وأراد أن يعرفها قدرها وهو على المنبر, قال: يا بن الخطاب كنت ترعى الغنم على قراريط لأهل مكة.

من أنت؟.

وفي بعض الروايات، يقول لنفسه: كنت عميراً, فأصبحت عمراً، فأصبحت أمير المؤمنين.

 

لا تتساهل مع نفسك :


لا تتساهل مع نفسك، حاسبها حساباً عسيراً، لا تحابها، أسيء الظن بها، وعلى العكس افعل مع أخوانك المؤمنين، أحسن الظن بهم، التمس لهم المعاذير.

 أناس إذا أصابتهم مصيبة، قال: هذه ترقية، أما إذا أصابت غيرهم مصيبة، قال: هذا عقاب، يتهم أخواه بالتقصير، ويمتدح نفسه، ويصف كل مصائبها على أنها ابتلاء، تحتاج أن تُوازن بين الفتنة والنعمة، وأن تُسيء الظن بنفسك، وتُحسن الظن بغيرك, وأن تمتلك نور الحكمة, كما قال الله تعالى: 

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾

[ سورة البقرة ]

من أوتي الحكمة عاش سعيداً ومات حميداً.

من أوتي الحكمة: كان أسعد الناس في الدنيا, وأنجاهم من عذاب الله في الآخرة.

بل إن الحكمة هي نور الله، فحينما تفتقد الحكمة, فمعنى ذلك: أن القلب مغلف بشيء لا يرضي الله عز وجل، أما إذا كان القلب مفتوحاً:

 فالحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها أخذها.

الذي يُحاسب نفسه حساباً عسيراً، لا بد من أن يعرف الأمر التكليفي والأمر التكويني ، الأمر التكليفي: يعني افعل ولا تفعل، كيف تُقيِّم نفسك، ولا تعرف المقياس الذي ينبغي أن تقيس به نفسك؟ الشريعة ميزان، وقد قال بعض علماء التفسير في قوله تعالى:

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)  ﴾

[ سورة الرحمن ]

الله أعطانا ميزاناً، هو ميزان العقل، وهناك ميزان الفطرة، أما العقل قد يضل، والفطرة قد تنطمس، أما الميزان الذي لا يضل ولا ينطمس هو الشرع، لذلك قالوا: 

الحسن ما حسَّنه الشرع, والقبيح ما قبَّحه الشرع.

الشرع ميزان الموازين، ميزان مركزي، ميزان تُوزن به الموازين، تماماً كما لو أعطيت طالباً مسألة في الرياضيات، وكتبت له رقماً في نهاية المسألة، قلت له: هذا الرقم هو جواب حل المسألة، فإن حللت المسألة في ساعات طويلة، ووصلت إلى هذا الجواب، فحلك صحيح، وإن انتهيت إلى حل آخر، فحلك غير صحيح، فأنت فكر، وحلل، وادرس، إن وجدت تفكيرك ينتهي بك إلى طاعة الله، فالتفكير سليم، والعقل صريح، أما إذا انتهى تفكيرك وعقلك إلى شيء آخر لا يُرضي الله، فالتفكير غير سليم.

يعني: إذا قال إنسان: معي مبلغ من المال، لا أستطيع أن أدعه مجمداً هكذا، أخاف أن يفقد قيمته مع التضخم النقدي، فلا بد من استثماره في جهة آمنة، وليس هناك من جهة أشد أمناً من البنوك، هكذا فكر.

 نقول له: إذا انتهى بك التفكير، وانتهت بك المحاكمة, إلى أن تستثمر مالك في مؤسسة ربوية، وقد قال الله عز وجل: 

﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾

[ سورة البقرة ]

نقول له: تفكيرك غير صحيح.

 إنسان آخر قال لك: المرأة نصف المجتمع، إن وُجدت في مجتمع الرجال يتجملون، يضبطون كلامهم، يُحسّنون ألفاظهم، فكأنها عنصر ضابط، عنصر مهدِّئ، يعني لا بد من الاختلاط، نقول له: تفكيرك غير سليم، لأن هذا التفكير انتهى بك إلى شيء حرمه الله عز وجل، تماماً كأن تُعطى مسألة رياضيات، ومعها رقم، فإذا انتهى بك الحل إلى هذا الرقم فالحل صحيح، إذا انتهى بك الحل إلى رقم آخر، فالحل غير صحيح، هذا معنى قوله تعالى: ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) أعطاك ميـزان العقل، وأعطـاك ميزان الفطرة، ولعـل الفطرة تنطمس، ولعل العقل يضل, أعطاك ميزاناً لا يُخطئ إنه الشرع، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه الشرع، فأنت في مجال محاسبة نفسك، لأنه ليس له.

 

لا بد من معرفة دقائق الشرع حتى تكون هذه الدقائق ميزاناً لك في محاسبة النفس :


أحدهم يتحرك حركة عشوائية، يتحرك بنزوات، يتحرك بشهوات, يتحرك بمصالح، لا شرع يضبطه، ولا معلومات تقيده، كيف يُحاسب نفسه إن لم يملك الميزان؟ الميزان هو الشرع، إذاً: ما دمنا في محاسبة النفس، ومحاسبة النفس تمهيد لطاعة الله عز وجل، لا بد من أن تعرف منهاج الله، كي تجعل من هذا المنهاج ميزاناً لأعمالك.

 بالفقه فروع دقيقة جداً، منها آداب الطعام، فإنسان مثلاً دُعي إلى طعام، وأناس كثيرون يأكلون معه، هو انتهى، يبتعد عن المائدة, ويجلس في مكان بعيد، أو يغسل يديه، وهو يرى أنه يقوم بألطف عمل، أنت لما ابتعدت عن المائدة أحرجت الآخرين، فالسنة تقتضي أن تبقى معهم، أن تبقى في مكانك حتى ينتهي الحاضرون، وجودك على المائدة عمل لطيف، فهناك دقائق في الشرع دقيقة جداً، كيف تُحاسب نفسك إن لم تعرف هذه الدقائق؟ لذلك لا بد من معرفة دقائق الشرع حتى تكون هذه الدقائق ميزاناً لك في محاسبة النفس.

 

التوحيد هو نهاية العلم :


شيء آخر: حينما تعرف أن الأمر التكويني بيد الله عز وجل, الآلام التي تُحطم النفس قد لا تأتيك، ذلك أن الإنسان إذا وحد الله عز وجل ارتاحت نفسه، فهذا الذي وقع أراده الله، وهذا الذي أراده الله وقع، وهذه الإرادة متعلقة بالحكمة المطلقة، وهذه الحكمة متعلقة بالخير المطلق.

لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان, حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

التوحيد هو الدين، التوحيد هو العلم، التوحيد هو نهاية العلم:

 وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.

 التوحيد أن لا ترى مع الله أحداً، أن لا ترى فاعلاً إلا الله، ألا ترى رازقاً إلا الله، ألا ترى معِزاً إلا الله، ألا ترى مذلاً إلا الله، ألا ترى معطياً إلا الله، ألا ترى مانعاً إلا الله، ألا ترى رافعاً إلا الله، ألا ترى خافضاً إلا الله، علاقتك مع واحد، فإن أرضيته فقد بلغت المنى:

فليتك تحـلو والحياة مريرة                 وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر                 وبيني وبـين العالمين خراب

 

المؤمن تعتريه أحوال بعضها مسعد وبعضها مزعج, ما الذي يحكم على هذا الحال؛ أهو صواب أم خطأ؟ :


وما دمنا في محاسبة النفس, فهناك موضوع الحال، المؤمن تعتريه أحوال، بعض هذه الأحوال مسعد، وبعض هذه الأحوال مزعج، أحياناً: يشعر بالانشراح والتألق والسرور والتفاؤل، ويظهر هذا في حركاته، وفي لمعان عينيه، وفي تورد خده، وأحياناً ينقبض، هذا الحال, هناك من يتعلق به, ويراه كل شيء، هناك من يراه حكماً حاسماً, الحال مسعد لكن العلم حاكم عليه، مثلاً:

رجل فقير جداً جداً، أعطيته ورقة مالية بمئة ألف أو بمليون، وقلت له: هذه لك، هذه الورقة قد تكون مزورة، هو لا يعلم أنها مزورة، يشعر بسعادة وطمأنينة وثقة وامتلاء، صار معه مبلغ ضخم، أليس هذا الحال وهماً؟ إذاً: ما كل حال صحيح، هناك حال رحماني، وهناك حال شيطاني، من الذي يحكم على هذا الحال؛ أهو صواب أم خطأ؟ هو القرآن والسنة، إذا أنت أديت طاعة وتألقت بها، فهذا الحال رحماني, إذا أنفقت مالك في سبيل الله, وشعرت بتألق بعد إنفاق هذا المال، فهذا الحال رحماني، أما إذا استطعت أن تقترف إثماً, وأن تُمتع نفسك إلى حين، وفرحت بهذا الإثم، فهذا حال شيطاني، فالفرح مطلقاً، والتألق مطلقاً، والشعور بالامتلاء ، هذا يحتاج إلى علم ليكون حكماً على الحال، مع أن الحال سمي حالاً لأنه يحول لا يستقر.

 

إليك هذا الشاهد على الحال الرحماني :


لكن خير شاهد على هذا على الحال الرحماني: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جاءه الصديق مع سيدنا حنظلة، وكان حنظلة في الطريق يبكي، مرَّ به الصديق، قال له: ((يا حنظلة ما لك تبكي؟ قال: نافق حنظلة، قال: ولمَ يا أخي، قال: نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين، فإذا عافسنا الأهل ننسى)) , -هذا شيء يقع في حياتنا، نكون بالجامع مع أخواننا، في جلسة روحانية، يقول لك: أنا مسرور جداً، أما إذا ذهب إلى البيت، وواجه بعض الصعوبات، هذا الحال الرحماني يضيع منه-.

 سيدنا الصديق -لشدة كماله وتواضعه- قال لحنظلة: أنا كذلك يا أخي، انطلق بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاءا النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: نحن معاشر الأنبياء, تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولزارتكم في بيوتكم . 

هذا ما يعبر عنه بالشفافية.

كان عليه الصلاة والسلام يقول: أعرف حجراً بمكة، كان يسلم عليَّ وأسلم عليه. 

دخل إلى بستان, فرأى فيه ناقة، فلما رأته الناقة ذرفت عيناها، فجاءها النبي -عليه الصلاة والسلام-, ومسح لها دِفريها، وقال: من صاحب هذه الناقة؟ قالوا: فتى من الأنصار، قال: ائتوني به، فلما جاءه قال: يا هذا! ألا تتق الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنها شكت إليَّ أنك تُجيعها وتُدئبها. 

هناك تواصل.

كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يخطب على شجرة، ثم نُصب له منبر، حنت إليه الشجرة, فكان يضع يده عليها في أثناء الخطبة تكريماً لها.

هذا مقام الأنبياء، لكن المؤمن على شيء من هذه الأحوال، فهناك انسجام مع الطبيعة والكون.

 

الخلاصة :


كل حال صحبه تأثير في نصرة دين الله عز وجل والدعوة إليه فهو منّة وإلا فهو حجّة، وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة وإلا فهي حجة، وكل مال اقترن به اشتغال بما يرضي الله عز وجل فهو منة وإلا فهو حجة، وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة, اتصل به خضوع لله عز وجل ذل وانكسار, ومعرفة بعيب النفس والعمل فهو منة وإلا فهو حجة, العلم حكم على الحال، إن الله عز وجل لا يعبد إلا وفق شرعه، وأية إضافة على الدين بدعة، وأي حذف من الدين بدعة:

﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) ﴾

[ سورة المائدة  ]

لا بد من أجل أن تعبد الله: من أن تعرف الأمر التكليفي والأمر التكويني، ولا بد من أن تُفرق بين الفتنة والنعمة، ولا بد من أن تسيء الظن بنفسك، ولا بد من حكمة تكشف بها الحق من الباطل، ثم إن الحال والعمل، الحال والعلم متكاملان، فالعلم حكم على الحال، وليس الحال حكماً على العلم، وأرجو الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يُلهمنا تطبيق ما تعلمناه.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور