وضع داكن
27-04-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة فاطر - تفسير الآيات 3 - 8 ، وعد الله حق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الإنسان خُلق للابتلاء بشتى أنواعه:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة فاطر.

وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ ..هذه الآية تبين أشياء كثيرة، تبين أول ما تبين أن الإنسان خُلِق في الدنيا للابتلاء، الدنيا أساسها الابتلاء، والابتلاء هو الامتحان، فمن ظنها للجزاء فقد وقع في وَهْم كبير. 

أنت في الدنيا تُمتحن بالفقر، وتُمتحن بالغنى، تُمتحن بالصحة، وتمتحن بالقوة، تمتحن بالتعظيم والتبجيل، وتمتحن بالتكذيب، فكل حالة لها موقف كامل، فإذا كُذبت ماذا تفعل؟ هل تتخلى عن دعوتك أم تتابع الطريق، وتستوحي همة عالية من قوله تعالى:

﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾

[ سورة النمل ]

هل تستوحي من قوله تعالى؟

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾

[ سورة آل عمران ]

قلت لكم مرة: إن بعض المواد تفحص مقاومتها للشد عن طريق جهاز، فنقول: هذه المادة تَضعُف على وزن كذا، وهذه على وزن كذا، وهذا الإنسان لو جاءه التكذيب، لو جاءته المعارضة، لو جاءه من يكيد له، هل يتخلى عن دعوته؟ فالله سبحانه وتعالى يعلمنا من خلال تأديبه لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلت لكم من قبل إن الله ربّى محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكده قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، ثم ربّى الأمة العربية بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل من هذه الأمة وسطاء بينه وبين خلقه؟

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾

[ سورة الحج ]

 

تسلية الله للنبي عليه الصلاة والسلام:


كأن الله عز وجل يسلّي النبي عليه الصلاة والسلام، أو يخفف عنه، أو يواسيه، يقول: يا محمد ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ لست أول من كُذب، ولن تكون آخر مَن كُذب، هذه سنة الله في خلقه، من القديم وإلى يوم القيامة هناك صراع بين الحق والباطل، أهل الحق متمسكون بالحق، مدافعون عنه، وأهل الباطل يكيدون لأهل الحق، والمعركة سجال بينهم إلى يوم القيامة، ولأن الدنيا دار امتحان، فلو أصاب المؤمنين بعض المكروه، فهذا يرفعهم عند الله درجات عليّة، ولو حقق الكفار بعض النصر فهذا من باب الإمهال والاستدراج، كما يقول الله عز وجل:

﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)﴾

[ سورة آل عمران ]

فهذا إمداد ليس مرضياً عنه إطلاقاً، فما دامت الدنيا دار تكليف، وليست دار تشريف، مادامت الدنيا دار امتحان، ما دامت الدنيا دار ابتلاء، ما دامت الدنيا قصيرة ومحدودة، ولابد من أن تنتهي، فماذا يبقى؟ العمل، فكأن الله سبحانه وتعالى ربّى النبي عليه الصلاة والسلام، خفَّف عنه بعض آلامه، واساه، سلاه بهذه الآية: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وأنت أيها المؤمن إذا قرأت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قرأت سيرة أصحابه الكرام، ووجدت أن مِن أصحاب النبي مَن لاقى المتاعب، مَن تحمل الشدائد، مَن تجشم المشاق، مَن خسر الدنيا كلها لأنه آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء الذين هاجروا تركوا ديارهم، وأموالهم، وأولادهم، وجاؤوا إلى المدينة فقراء، ليس لهم عمل، وليس لهم دار، هكذا الدنيا. 

 

من استقام على أمر الله فالله تعالى يتولى شؤونه:


أنا أحبّ أن أطمئِن كل أخ مؤمن على أنه إذا استقام على أمر الله، فالله جلّا وعلا يتولى شؤونه، ويحفظه، ويرعاه، ويؤيده، وينصره، ولكن لا تنسوا أن هذا التطمين لا يعني أنك لن تمتحن، أنه لن تجرب، أنه لن توضع على المحك.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[ سورة العنكبوت ]

أي أنت صالحٌ جداً وأنت غني، فما هي حالتك إذا جاءك الفقر؟ أنت صالحٌ جداً وأنت صحيح، فما حالك إذا جاءك شبح مرض؟ هل تنسى ربك؟ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهرهُ الله أو أهلك دونه"، هذا شأن المؤمن، فلذلك هو تعليم للنبي، والنبي يعلّمنا.

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أنت عاهدت خالق الكون، عاهدته على الطاعة، يجب أن تطيعه في السراء، في الضراء، في إقبال الدنيا، في إِدبارها، في الصحة، في المرض، قبل الزواج، بعد الزواج، قبل العمل، بعد العمل، في شبابك، في كهولتك، في شيخوختك، وأنت مقيم، وأنت مسافر، الدنيا أقبلت، أو الدنيا أدبرت، رفعك الله، أو خفضك الله، هكذا: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ ..﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾


علاقة الآية التالية بقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور:


﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ ..لكن ما علاقة هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ هناك علاقة دقيقة جداً، أي أنت حينما تقوّي هذه الأصبع على هذه، أو هذه على هذه، الأمر بيدك في النهاية، في أية لحظة تعكس الآية، أنت فعلت كذا، قويت هؤلاء على هؤلاء، فإذا أردت تعكس الآية، تقوي هؤلاء على هؤلاء، أي نحن امتحناك، الله عز وجل يمتحن المؤمنين حينما يُضعفهم، ويمتحنهم حينما يُقويهم، يمتحنهم حينما يُعطيهم، ويمتحنهم حينما يحرمهم، يمتحنهم حينما يرفعهم، فإلى الله ترجع الأمور، الأمر كله لله.

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

لو رأيت زيداً قَوِي وعبيداً ضَعُف، هؤلاء رفعهم الله، هؤلاء خفضهم الله، يجب أن تعلم أَن رفعة هؤلاء لا في قواهم الذاتية، وأن خفض هؤلاء ليس في تقصير منهم، ولكن شاءت مشيئة الله أن يرفع هؤلاء ليبتليهم، وأن يخفض هؤلاء ليبتليهم، أن يعطي هؤلاء ليمتحنهم، وأن يمنع هؤلاء ليختبرهم.

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾

[  سورة المؤمنين  ]

حقيقة الدنيا أنها دار ابتلاء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى.

 

البطولة كمال الموقف عند المصائب:


أقول لكم الآن: ليست البطولة ألا تصاب بمكروه، ليست هذه بطولة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام سمّى هذا الذي دائماً يأتي واقفاً على قدميه، سماه عفريتاً نفريتاً، ليست البطولة ألا تصاب بمكروه، ولكن البطولة إذا جاءك المكروه أن تكون كاملاً في توحيدك، كاملاً في طاعتك، كاملاً في صبرك، كاملاً في تأديبك، فالبطولة لا أن تنجو من الابتلاء، ولكن البطولة أن تنجح في الابتلاء، ليست البطولة ألا تقدم الامتحان، ولكن البطولة أن تدخل الامتحان، وأن تنجح في الامتحان، فإذا جاءت مشكلة، جاءت مصيبة، لاح شبح قضية متعبة، يكرهها الإنسان، ورآها من الله عز وجل، رآها محض فضلٍ، رآها محض رحمةٍ، رآها محض عدلٍ، عدل ورحمة وفضل، إن رأيتها كذلك فقد نجحت، وإن شكرت الله عليها فقد تفوقت، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه، مَن هذا الذي يشكر الله على مصيبة ألمت به؟ إلا الذي يعرف أن الله عز وجل ساق له هذه المصيبة رحمةً به، وحرصاً عليه، وتقريباً له، ودفعاً إلى بابه، وترقية لجنابه، هكذا. 

إذاً ليست البطولة أن تنجوَ من الامتحان، ولكن البطولة أن تنجح في الامتحان، ليست البطولة ألا يصيبك مكروه، ولكن البطولة أن تكون كاملاً في تلقي هذا المكروه، أن تصبر.

﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾

[ سورة الأحقاف ]

لماذا اصبر؟ لو أن الأمر واضح كالشمس، جليّ كرابعة النهار لماذا اصبر؟ حينما يأمر الطبيب أن تأخذ دواءً مراً، وتعلم أنت علم اليقين أن هذا الدواء لصالحك، لماذا الصبر؟ ولكن حينما لا تعرف الحكمة، حينما يسوق الله لإنسان مؤمن شيئاً دون أن يكشف هذا المؤمن حكمة ذلك، هنا بالصبر، أليست لك أسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: "وأنا نبيٌ مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم" ، لعل الله يمتحنني بالحرمان، أو يمتحنني بالعطاء، لعل الامتحان في العطاء، أو في الحرمان، في الضيق أو في الرخاء. 

إذاً: حينما تنجح في مواجهة امتحان الله عز وجل، حينما تنجح في قبول المصيبة، وفي تفسيرها التفسير الصحيح، وفي رؤيتك أن هذه المصيبة محض فضل، ومحض عدل، ومحض رحمة، عندئذ نجحت في الامتحان، ولا تنسَ هذه المقولة أيها الأخ الكريم: "مَن لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر" ، الإنسان الذي لا يتعظ بالمصيبة هو المصيبة، هو مصيبة تتحرك، لأنه متلبد الحس، لأنه بعيد عن الفهم عن الله عز وجل.

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾

[ سورة الشورى ]

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة التغابن ]

إلى حكمتها، وإلى سببها.

 

بعد كل مصيبةٍ اتَّهم نفسَك:


لكنّي أنصح إخوتنا الكرام، أنك إذا جاءتك أنت مصيبة لا سمح الله فاتهم نفسك قدر ما تشاء، ولكن إياك أن تتخذ من هذه القاعدة وسيلة للطعن في المؤمنين، أقول هذا بشكل واضح جداً: إذا جاءك شيء تكرهه لا عليك أن تتهم نفسك، أن تبحث عن السبب، أن تبحث عن العلة، أن تقول: إنّ الله عز وجل أفعاله كلها حكيمة، يا رب أنت غني عن تعذيبي، لكنك حينما عذبتني لحكمة تريدها، ما هذه الحكمة يا رب؟ الله غني عن تعذيبنا، أما هناك حكمة لابد من معرفتها، لك أن تفعل هذا مع نفسك قدر ما تشاء، أما إياك، ثم إياك، ثم إياك أن تتخذ من هذه الحقيقة الثابتة في القرآن والسنة، أن تتخذها سبباً في الطعن على أخيك المؤمن، فلان أصابته مصيبة لابد أنه مذنب، هذا من سوء الأدب، ومن سوء التصرف، ومن السلوك الذي لا يُرضي الله عز وجل.

بعد كل مصيبةٍ اتَّهم نفسَك. 


الأمور كلها تُرجع إلى الله تعالى:


﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ ..أي يرفع هذا، ويخفض هذا، هو الرافع وهو الخافض، يُعز هذا ويذل هذا، هو المعز، وهو المذل: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ مقاليد الأمور بيده، القوة كلها بيده، خيوط القوى كلها بيده، فإذا رفع فَلِيمتحن، وإذا خفض فَلِيمتحن، علاقة جزئي الآية ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ أي حينما سمح الله لهم أن يكذبوك ابتلاهم بالتكذيب، ابتلاهم بأنهم كَذبوا وابتلاك بأنك قد كُذبت، ماذا يصنع المُكَذَّب؟ أيتخلى عن دعوته؟ حينما يسلط الله إنساناً على إنسان ابتلى المتسلط، وابتلى المسلط عليه.

 

وعدُ الله واقع لا محالة:


﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ..كلمة حق الأمر أي استقر، وثبت، فوعدُ الله عز وجل حق لا ريب فيه، واقع لا محالة، واقع لدرجة أن الله عز وجل يعبر عما يعد فيه بالزمن الماضي.

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾

[ سورة المائدة ]

هذا أمر لم يحدث بعد، ولكن لِتحقق الوقوع جاء بصيغة الماضي: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ النار حق، والجنة حق، والصراط حق، والميزان حق، ونشر الصحف حق، وعذاب القبر حق، والبرزخ حق، والجنة حق: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ، بمعنى أيّ وعد وعدَ الله به إنساناً يجب أن تؤمن أنه كأنه وقع، لشدة مصداقية وعد الله عز وجل، مصداقية وعد الله عز وجل تؤكد لك أن هذا الشيء قبل أن يقع كأنه وقع، وفي القرآن آية تشير إلى ذلك:

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) ﴾

[ سورة النحل ]

معناها لم يأتِ بعد، لا تستعجل قدوم الامتحان، معنى هذا أن الامتحان لم يأتِ بعد، فكيف يقول الله عز وجل: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ ؟ أي ما دام أنه أمرٌ قد وعد به فهو واقع لا محالة، وكأنه قد أتى:﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ .

 

علاقة القسم الأول من الآية بالقسم الثاني:


﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ لا بد من مغادرة الدنيا.

ما علاقة القسم الأول من هذه الآية بما بعده؟ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي هذه الحياة الدنيا لا بد من أن نغادرها، لا بد من أن نتركها، لا بد من أن ننصرف عنها، فإذاً: هذا الذي اغترّ بها، ورآها كل شيء، وعلق عليها الآمال، وباع من أجلها دينه وعرضه، وباع آخرته، وارتكب المعاصي والموبقات، وأكل المال الحرام، واعتدى على الناس، وبنى مجده على أنقاضهم، وبنى عزه على ذلهم، وبنى غناه على فقرهم، وبنى حياته على موتهم، من أجل دنيا محدودة، قال عليه الصلاة والسلام يعاتب الأنصار كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: 

(( قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ ، فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقْنَا. ))

[ أحمد في مسنده  ]

فالدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ.

الله 


الموت حقٌّ آتٍ لا محالة:


﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ .. كأن الله عز وجل يشير في هذه الكلمة إلى أنه لا بد من أن تغادرها، فعـش ما شئت 

فإنك ميت، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، اعمل ما شئت فإنك مجزِيّ به.

 كل ابن أنثى وإن طالت سلامته           يوماً على آله حدباء محمول 

فإذا حملت إلى القبـور جنــــازة           فاعلم بأنـــك بعدهـا محـمولُ

[ كعب بن زهير ]

* * *

كل مخلوقٍ يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.

والليل مهمـا طال فلا بد من طـلوع الفجر     والعمر مهما طال فلا بد من نزول الـقبر

[ سعود المطير البهلال ]

* * *

أنا أسأل الطلاب أحياناً، طلاب المدارس أو الجامعات، شهر أيلول أول العام الدراسي أقول لكم: أين وقت الامتحان؟ بعيد، فيأتي أيلول، ويأتي تشرين الأول والثاني، وكانون الأول والثاني، ما بين غمضة عين وانتباهتها جاء حزيران، بقي خمسة أيام، يمضي اليوم الأول والثاني، لا بد من أن يستيقظ الطالب في أحد الأيام على أن هذا اليوم هو يوم الامتحان، أنت تنتظره قبل تسعة أشهر، وتقول: بعيد، هذا البعيد جاء، دخلنا في الصيف، نحن في أول الصيف، ما هو إلا زمن يسير حتى يأتي الشتاء، ثم يأتي الصيف، ثم يأتي الشتاء، ولا بد من مواجهة الموت في النهاية، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا. 

كنت البارحة مع رجل أعرفه جيداً، وتسلم مناصب رفيعة، ذهب ليوصِلَ ابنته إلى المدرسة، في طريق العودة قال: أشكو من صدري، مالت عنقه، وسلم روحه، المغادرة تمت في ثانية، كل هذه الدنيا التي حصّلها خسرها في ثانية واحدة، ماذا في القبر؟ القبر صندوق العمل. 

البطولة أيها الإخوة أن تعمل عملاً يصحبك إلى القبر، المقياس الدقيق أن أيّ عمل تنتهي نتائجه عند القبر فلا قيمة له، هو مِن الدنيا، أي شيء لا يصحبك بعد الموت هو من الدنيا، وأي شيء يصحبك بعد الموت من الآخرة، قد تفعل شيئاً في الدنيا للآخرة، فالذي يبقى عند القبر من الدنيا، الذي يبقى في البيت من الدنيا، أما الذي يدخل معك القبر فهو من الآخرة، يا قييس! إن لك قريناً تُدْفن معه وهو حي، ويُدفن معك وأنت ميت، إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك. 

أنا أقول: بُطولة، لأن الإنسان يتخيلها أحياناً بجمع المال، يتخيلها بالقوة، يتخيلها بالسيطرة، يتخيلها بالبيت الفخم، يتخيلها بالزوجة التي تروق له، يتخيلها بأولاد نجباء، يتخيلها بالرحلات، يتخيلها بالحفلات، يتخيلها بإنفاق المال، يتخيلها بكسب المال الوفير، يتخيلها في العزة والسلطان، هكذا يتوهم الإنسان الدنيا، ولكن الدنيا زائلة، أقول: البطولة: 

ليس من يقطع طرقاً بطلاً                       إنما من يتقي الله البطل

[ ابن الوردي ]

* * *

أقول لك: يا أخي هذا بطل في الجري، هذا بطل في اللعبة الفلانية، هذا بطل في رفع الأثقال، إذا قلت: البطولة من هذا النوع فلا يوجد ميزة للإنسان إلا وفي غير الإنسان ما يسبقه بها، أي هذا الذي يفتخر بحاسة شمه هناك حيوان أترفع عن ذكر اسمه تفوق حاسة شمه الإنسان بمليون مرة، الذي يفتخر بحدة بصره، النسر يرى ثمانية أضعاف ما يراه الإنسان، أي ما من صفة يمكن أن تُعدَّ بطولة في الإنسان إلا وفي الحيوان ما يسبقه بها، إذاً: بطولة الإنسان في معرفة الله، خلقتُ لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عمّا افترضته عليك.

 

العاقل اللبيب يرى الشيء بتجربته قبل وقوعه:


﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ هذا الذي قال: وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وكأني بأهل النار يتصايحون، قال: عرفت فالزم.

مَثَلاً: ترى طالباً يمضي وقته بلا دراسة، مع أصدقاء السوء في سهرات لا طائل منها، في القيل والقال، في لعب النرد، أنت كإنسان عاقل حكيم، عندك خبرة في الحياة، ترى مستقبل هذا الشاب تعيساً، الآن يرتدي ثياباً أنيقة، لكنّك تعلم أنه إذا لم يبنِ مستقبله بنفسه، إن لم يهتم بتحصيل شيءٍ يعينه على مواجهة الحياة، ربما رأيته في مستقبل حياته في عمل لا يُرضي، وفي فقر مدقع، وفي زاوية مهملة في الحياة، فصاحب الخبرة والتجربة يرى الشيء قبل أن يكون، يرى ما ينبغي أن يكون قبل أن يكون، هذه يسميها الناس: الرؤية المستقبلية، ترى المرابي مصيره الدمار، يرابي وتنمو أمواله، ويزداد إنفاقه، وتعلو مكانته، ويغير بيته، ويغير مركبته، وينتقل من بلد إلى بلد، وهو يقول: أنتم الأغبياء، أنا الذي جمعت هذا المال من طريق حرام، لكنني تفوقت عليكم، ما هو إلا وقت يسير حتى تأتي ضربة الله القاصمة، فالمؤمن يرى النتيجة، يرى وعدَ الله حقاً، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ واسعة جداً، إذا وُعد المرابي بتدمير ماله فوعد الله حق، وإذا وُعد الشاب المؤمن الصالح المستقيم بحياة طيبة فوعد الله حق، وإذا وعدت المرأة المؤمنة بزوج صالح فوعد الله حق، وإذا وعد الرجل الفاسق الفاجر بزواج تعيس فوعد الله حق، أيّ وعد وعده الله عز وجل فهو حق، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ لا بد من أن يقع، زوال الكون أهون على الله من ألا يقع، فلا بد من أن يقع، ولذلك البطل هو الذي يصدق كلام الله عز وجل. 

أذكرَ قصة رجل قرأ: "بَشَّرْ الزاني بالفقر ولو بعد حين" ، جاءه خاطب لابنته، وكان في مستوى من الغنى يفوق حدّ التصور، فرفض أن يزوجه ابنته، قال له: لماذا؟ قال له: أنت في النهاية فقير، يعلم أنه منحرف الأخلاق، قال: كيف ذلك؟ قال: هكذا أنا أصدق النبي عليه الصلاة والسلام، فبدأ يسخر، ويضحك من هذا الوعد، ولم تمضِ أعوام عدة حتى هبط دخله، وذهب ماله، ولم يمت إلا ماداً يده للناس، بَشّرْ الزاني بالفقر ولو بعد حين، بشر القاتل بالقتل، المرابي بدمار ماله، مَن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، البطولة أن تقرأ هذه الوعود الإلهية في القرآن، أو الوعود النبوية في السنة.  

الأمانةُ غنىً، فوعدَ النبي الأمينَ بالغنى، وعد المنافق بالصغار، وعد الصادق بالعز، وعد المصلي ببركة الوقت، ابحث عن وعود الله عز وجل في القرآن والسنة، وكن كسيدنا سعد بن أبي وقاص، حينما قال: << وما سمعت حديثاً من رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا علمت أنه حق من الله تعالى >>

 

العاقل يكشف في القرآن والسنة قوانين معاملة الله للعباد:


مثلاً: زواج توافرت له كل أسباب النجاح، شاب وسيم، صاحب معمل، بيته فخم، دخله كبير، صحته جيدة، تزوج فتاة في مستواه، هذا الزواج بمقاييس الأرض توافرت له كل أسباب النجاح، إن لم يبنَ على طاعة الله، تولّى الشيطان التفريق بين الزوجين، على الرغم من كل وسائل النجاح لهذا الزواج كثيراً ما ينتهي بالطلاق، وبالخصومة، وبالشقاق، وبالملاعنة، وبالضرب، وبالشتم، لأن الشيطان يتولّى التفريق بين الزوجين، إذا بُنِيَ زواج على طاعة الله عز وجل قد يفتقر هذا الزواج إلى كل أسباب نجاح الزواج، لا بيت، ولا دخل، ولا عمل، ومع ذلك إذا جاءت رحمة الله، وشملت هذين الزوجين بالعناية، نما هذا الزواج، وازداد الوئام بين الزوجين، هناك قوانين يجب أن تضع يدك عليها، هذه بطولة أيضاً، أن تكشف القوانين التي يعامل الله بها عباده، إنسان ترفّع عن المال الحرام يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن الله سبحانه وتعالى لابد من أن يكرمه بمال حلال قريباً أو بعيداً، وكلما سمعت قصة تؤكد هذه الحقيقة تقول: يا رب لك الحمد، هذه عدالتك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. 

 

اعرف الحقيقة وأنت شابٌّ:


إذاً: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ وعد الله حق في مغادرة الدنيا، لابد من أن نغادرها، قال: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ..لا ينبغي أن تروها بحجم أكبر من حجمها، أن تظن المال كل شيء، لا، هو شيء، في وقت من الأوقات تراه شيئاً، وعند مغادرة الدنيا تراه لا شيء.

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾

[ سورة الفجر ]

رجل كان عنده ملاهٍ، ودور قمار، مطاعم فخمة، وهو على فراش الموت، بلغت ثروته قريباً من ألف مليون، حينما أيقن بمغادرة الدنيا، وأيقن بأن مصيره ليس كما ينبغي، طلب أحد أهل العلم، وقال له: ماذا أفعل؟ سامحه الله، قال له: والله لو أنفقت هذا المال كله لا تنجو من عذاب الله، كله محصّل بطريق غير مشروع، من قمار، من ملاهٍ، من حفلات لا ترضي الله عز وجل، استيقظ بعد فوات الأوان: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ حينما كان شاباً يطرب لهذا المبلغ الضخم، يُسكره هذا الربح الوفير، فلما شارف على دخول القبر، الآن عرف الحقيقة، فلذلك اعرف الحقيقة قبل فوات الأوان، قبل أن تقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ اعرف الحقيقة وأنت شاب، من أجل أن تُشكِّل حياتك وفق الأسس الصحيحة، اعرف الله وأنت شاب، حتى تختار حرفة شريفة، وحتى تختار زوجة صالحة، وحتى تربي أولادك تربية صالحة: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أن تغتر بالدنيا، أيْ أنْ تراها بحجم أكبر من حجمها. 

مثلاً: رأى شخصٌ عُلبةً في الطريق، علبة أنيقة جداً، وقد لفت بورق فخم، وعليها شريط حريري، يا ترى ساعة؟ ترى سوار؟ يا ترى مطيف؟ يا ترى لؤلؤ؟ ذهب به الخيال إلى أن في هذه العلبة شيئاً ثميناً، فلما فتح هذه العلبة وجد فيها كُناسة محل تجاري، فقال: وا أسفاه، أدرك الحقيقة المرة، وكذلك الدنيا، نُعلق عليها الآمال، وقد يأتي ملك الموت قبل أن نَسكن هذا البيت، وقبل أن نتزوج، وقبل أن نسافر، وقبل أن نقطف ثمار أتعابنا، إنسان فتح دار سينما، وجمع أموالاً طائلة، كان ابن أخته أحد طلابي، قال لي: حضرت نزع خالي، صار يبكي ويقول: أنا حصلت الملايين لأنفقها في خريف عمري، وأستمتع بها، هذا المرض قد عاجلني، ولم يسمح لي أن أستمتع بهذا المال الذي حصلتُهُ  من هذه الدار، وصار يبكي، فلذلك: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ إذا كسبت المال من حلال لا شيء عليك، وأنفقته في حلال لا شيء عليك، أنا أقول: هذا الذي يضحي بآخرته من أجل دنياه، هذا الذي يضحي بالحياة الأبدية من أجل سنوات معدودة، هذا الذي يبيع دينه، بعرض من الدنيا قليل. 

خطر في بالي من أيام إذا كان هناك شخص- وهذا مثلٌ افتراضيٌ - معه خمسة ملايين دولار، وشعر ببرد شديد، فأشعلها ناراً، وتدفأ بها، أيكون رابحاً بهذا العمل؟ يقول لك: يا أخي والله تدفأت، خمسة ملايين تساوي 250 مليون ليرة، تأخذ أفخر بيت، أفخر مركبة، أفخر مزرعة، أفخر عمل، تدفأت بهم خمس دقائق، هذا الذي اشترى بآيات الله ثمنا قليلاً.

﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)﴾

[ سورة التوبة ]

باع دينه وآخرته بعرض من الدنيا قليل، باع هذه الحياة الأبدية بسنوات معدودة، مشحونة بالتعاسة والشقاء: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ .

 

الغرور هو الشيطان:


 أما القسم الثاني: ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ ..العلماء قالوا: هو الشيطان، لأنه يعدكم بالفقر، يوقع بينكم العداوة والبغضاء، يعدكم ويمنيكم. 

﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)﴾

[ سورة النساء ]

الشيطان يوسوس، والمَلك يُلهم، فإذا استمعت إلى وسوسة الشيطان فقد خسرت كل شيء، لأن مهمته أن يُضِلك عن سبيل الله،  يوجد آية:

﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)﴾

[ سورة الكهف ]

هذا الذي رفض أن يسجد لأبيكم تكريماً لكم تَتّخذونه ولياً؟ تتخذونه هادياً لكم إلى جهنم؟ ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ آية دقيقة جداً، إذاً الغَرور هو الشيطان.

 

كيف نغتر بالله عز وجل؟


يطالعنا سؤال الآن، يمكن أن نغتر بالدنيا، فنراها بحجم أكبر من حجمها الحقيقي، فكيف نغتر بالله عز وجل؟ هل يعقل أن الله أقلّ مما تظن؟ مستحيل، الدنيا ممكن، الدنيا هي أقلّ مما تظن، لكن كيف تغتر بالله عز وجل؟ العلماء قالوا: تغتر بالله إذا طمعت في رحمته، ولم تستجب لأمره، إذا طلبت الجنة بلا عمل، إذا أقمت على معصية، ورجوت الله أن يعفو عنك، إذا أكلت المال الحرام وقلت: أنا تبت إلى الله يا رب، رُدّ المال لأصحابه، أن تغتر بالله أن تطمع بعفوه من دون أن تتوب، أن تطمع بجنته من دون أن تستعد لها، أن تطمع بعطائه من دون أن تدفع ثمنه، هذا هو اغترار بالله عز وجل. 

هل من الممكن أن تدخل إلى بائع سجاد، وتطلب منه أفخر سجادة عنده، وثمنها أربعون أو خمسون ألفاً وتدفع له عشر ليرات ثمناً لها؟! ماذا يفعل بك بعد أن أتعبته ساعة أو ساعتين؟ فهذا الذي يطلب الجنة بركعتين وليرتين وهو مقيم على معاصي الله عز وجل، هذا مغتر بالله عز وجل، هذا هو الاغترار بالله عز وجل؛ أن تظن أن هذا القاضي العادل يرتشي، أن تظن أن هذا الأستاذ العظيم يعطيك الأسئلة مقابل مبلغ من المال، هذا اغترار به، لن يفعل هذا أبداً:

﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)﴾

[ سورة النحل ]

 

الشيطان أول عدوٍّ للإنسان:


﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ ..الله عز وجل ينبئنا، ويؤكد لنا، ويبين لنا أن الشيطان لنا عدو، عدو لدود، يتمنى دمارنا، يتمنى ضلالنا، يتمنى شقاءنا، يتمنى انحرافنا، يتمنى أن نقع في المعاصي، يتمنى أن تكون الخلافات في البيت، كلكم يعلم أن الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم، قال الشيطان لإخوانه: أصبتم المبيت، نحن اليوم نائمون هنا، وإذا جلس إلى الطعام، ولم يسمّ الله قال: أصبتم العشاء، فإذا دخل ولم يسلم، وجلس إلى الطعام ولم يسمّ، يقول الشيطان لإخوانه: أصبتم المبيت والعشاء، تجد بعض البيوت فيها شياطين، خصومات، على مشاحنات، على صياح، على كيد، على كلمات قاسية، في هذا البيت شيطان يعمل، لذلك الغيبة تَفصم العرى، تفتت الصلات، من الشيطان، النميمة من الشيطان، الاستعلاء من الشيطان، السخرية من الشيطان، البذاءة من الشيطان، المزاح الرخيص من الشيطان: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ ..أي هذا الذي يستجيب لوساوس الشيطان كأنه يستجيب إلى عذاب النار، يستجيب إلى دماره، في الدنيا الذي يرتاد دور القمار، ويبيع بيته، ومركبته، ومحله التجاري، ويغدو فقيراً خلال أيام، حينما توجه لهذه الدار توجه إلى الدمار، حينما توجه إلى هذه الدار توجه إلى الفقر، حينما توجه إلى هذه الدار توجه إلى الإفلاس، فالذي يستجيب لدعوة الشيطان ولوسوسته، الإنسان أحياناً يشعر بالصراع، قد يسمع أو قد يشعر أن هناك مَن يقول له: افعل، خذها، لا أحد يراك، وهناك مَن يقول له: لا تفعل إياك أن تعصي الله، الإلهام الطيب من المَلَك، والوسوسة من الشيطان، والإنسان بين إلهام ملَك ووسوسة شيطان، فإياك أن تستجيب للشيطان، استجب للملك. 

 

الله العظيم يقول عن عذابه: إنه شديد:


﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ .. شديد، من يقول: شديد؟ الله سبحانه وتعالى، العظيم يقول: شديد، إذا قال لك طفل: سأضربك ضرباً شديداً، طفل عمره سَنَتَان، كم تكون ضربته؟ بحسب قوته، فكلمة شديد تنسب إلى القائل دائماً، إذا قال لك: أنا معي مال كثير، وكان شاباً ليس له دخل، كثير أي معه مئة ليرة، بحسب عدم دخله، أما إذا قال لك الغني: أنا معي مال كثير فالكلام ينسب لقائله دائماً، فإذا قال الله عز وجل: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ ،  حدثني أخ طبيب يعالج مريضاً مصاباً بمرضين؛ مرض في معدته، ومرض في قلبه، كل أدوية القلب تؤذي المعدة، وكل أدوية المعدة تؤذي القلب، وقف الأطباء حيارى، عذاب شديد. 

 

العذاب الشديد أنواع كثيرة في الدنيا:


أحياناً تأتي مصيبة، والإنسان يكرس كل طاقاته لمواجهتها، يقول لك: حاصرتها، لكن ربنا عز وجل حينما يقرر أن يصيب الإنسان بعذاب شديد يبتليه بالفقر، وبالمرض، ليس معه ثمن الدواء، وقد يبتليه بالشقاق الزوجي مع مرضه وفقره، هو وزوجته في خصام شديد، وقد يبتليه بمشكلة خارج بيته، وقد يبتليه بعدة مصائب في آن واحد، فالإنسان أحياناً ربما استطاع أن يواجه مصيبة واحدة أو مصيبتين، ولكن إذا أراد الله عز وجل أن يصيبه بعذاب شديد تأتيه الأمور من كل جانب، تستحكم حلقاتها.


  للمؤمن مغفرة من ربه وعطاء كبير:


﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ..المغفرة شفاء، والأجر الكبير هو العطاء، شفاء وعطاء، تخلية وتحلية، تطهير وإكرام، عفوٌ وبلوغُ المرام ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ والكبير يقول لك: الأجر كبير، الآن إذا قال لك: فلان سيهديك هدية، من فلان؟ فلان صديقك، من أصحاب الدخل المحدود، معنى هذا أن هديته رمزية، إذا كان الإنسان كريماً وغنياً، سيهديك هدية، تقيسها لغناه وكرمه، فإذا قال الله عز وجل: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ خالق الكون الكبير المتعالي يقول لك: الأجر كبير، لذلك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: 

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))

[ صحيح البخاري ]

 

مصيبة المصائب أن تفعل السيئات وأنت تعتقد أنك تفعل الصالحات:


أما الشيء الذي يُعدُّ مصيبة المصائب فهو قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ ..أي أن يفعل الإنسان المعصية، هذه معصية، هذا شيء مؤلم جداً، لكن فرق كبير بين من يعصي الله، ويعلم أنه يعصيه، وبين من يعصي الله، ويعلم أنه على صواب، وأن هذا هو عين الذكاء، وأن هذا هو عين الفلاح، وأن هذا هو عين التفوق، يعصي الإله، ويرى نفسه مصيباً في هذه المعصية، هذه مصيبة المصائب، أن تفعل السيئات، وأنت تعتقد أنك تفعل الصالحات، أن تأكل المال الحرام، وتَعُد هذا ذكاء وشطارة منك، أن توقع بين الناس وتعد هذا حيلة محكمة بيدك، أن تبني مجدك على أنقاض الناس وتَعُد نفسك أذكاهم جميعاً، أن تستغل الناس لمآربك الشخصية وتعد هذا تفوقاً منك، أي أن ترى الشر خيراً، وأن ترى الخير شراً، أن ترى الحق باطلاً، وأن ترى الباطل حقاً، أن ترى الإساءة إحساناً، وأن ترى الإحسان إساءة، أن ترى الضعف أن تكون أخلاقياً، وأن ترى الأخلاق ضعفاً في الإنسان، أن ترى أن القوي المعتدي هو الذكي، الذي يستحق الاحترام، هذه المصيبة ؛ المصيبة أن تفعل السيئات وأنت لا تدري، تقول: ماذا فعلت؟ 

 

الإيجاز القرآني: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا كمن كان عمله صالحاً:


لذلك: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ ..كمن كان عمله صالحاً، وابتغى به وجه الله عز وجل، هل يستويان؟ أي:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية  ]

مستحيل.

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

مستحيل. 

 

الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري:


إذاً: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ ..الإضلال هنا إذا عُزي إلى الله عز وجل كما تعلمون سابقاً هو إضلال جزائي، مبنيٌّ على ضلال اختياري، كما لو أن رئاسة جامعة رأت طالباً لم يدفع القسط، ولم يداوم، ولم يشترِ الكتب، ولم يتعرف إلى أيّ مدرس، كل هذه الأفعال الإرادية تعني أنه لا يريد أن يلتحق بهذه الجامعة، فصدر قرار بفصله وترقين قيده، فهذا القرار الذي صدر بفصله وترقين قيده هو قرار جزائي، أساسه موقف اختياري من الطالب، واضح تماماً؟ قرار رئاسة الجامعة هو قرار جزائي، جزاء عدم التحاقه بالجامعة، وعدم قراءته للكتب، وعدم تقديمه للامتحان، جزاء تقصيره الاختياري، فكلما عُزي الإضلال إلى الله عز وجل فهو إضلال جزائي مبني على ضلال اختياري: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ ..

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور