وضع داكن
02-12-2024
Logo
الدرس : 9 - سورة النجم - تفسير الآيات 50-62 قصة قوم عاد وثمود
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

إهلاك الله قوم ثمود إهلاك استئصال:


 أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والأخير من سورة النجم ومع الآية الخمسين، وهي قوله تعالى:

﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)﴾

[ سورة النجم ]

هناك إهلاك استئصال، وهناك إهلاك ضعف، ﴿وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى﴾، أهلكها إهلاك استئصال، لم يبقِ منهم أحداً.

 

قوم نوح وطغيانهم الكبير:


﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)﴾

[ سورة النجم ]

أي كانوا أشدَّ ظلماً وأشدَّ طغياناً، لأن نبيهم الكريم نوحاً عليه السلام لبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، ومن خلال هذه المدَّة الطويلة لم يهتدوا ولم يرجعوا.

 

إهلاك الله قوم لوط بأن جعل عالي الأرض سافلها:


﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ﴾ أي قوم لوطٍ، ﴿أَهْوَى﴾ جعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارةً فجعلتهم هلكى.

﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)﴾

[ سورة النجم ]

 

الموعظة أساس تذكير الله الإنسان بمصير الأقوام السابقة:


ماذا نستفيد من تعداد هؤلاء الأقوام وكيف أهلكهم الله عزَّ وجل؟ لاشكَّ أن العلماء يتحدَّثون عن شيءٍ اسمه: الاستقراء، أتينا بمعدن وسخَّنَّاه فتمدَّد، أتينا بمعدنٍ آخر وسخنَّاه فتمدَّد، أتينا بمعدنٍ ثالث سخَّناه فتمدَّد، بعد عدَّة تجارب نستقرئ ونقول: المعادن كلها تتمدَّد بالحرارة، هذا قانون، فلمَّا ربنا عزَّ وجل ذكر كيف: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)﴾ أقوامٌ كثيرون أهلكهم الله عزَّ وجل، ما المقصود؟ ونحن إن خرجنا عن منهج الله، وإن عصينا، وإن شردنا، وإن تفلَّتنا لابدَّ من أن يصيبنا ما أصاب هؤلاء لأنه قانون، ألم أقل لكم قبل قليل: استقراء، ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)﴾ .

 

كل إنسان ينحرف عن سواء السبيل يستحقّ الهلاك:


أحد نشاطات العقل هو الاستقراء، حادثة، ثانية، ثالثة، رابعة، خامسة، سادسة، سابعة، ثامنة، يستنبط قاسماً مشتركاً بين كل هذه الحوادث، هذا القاسم المشترك هو القانون، بعدئذٍ نعمِّم، نستقرئ ثم نعمَّم، الحديد تمدَّد بالحرارة، والذهب تمدَّد بالحرارة، والفضة تمددت بالحرارة، والنحاس تمدد بالحرارة، إذاً كلُّ المعادن تتمدَّد بالحرارة، فإذا فهمنا هذه الآية بطريقة الاستقراء نستنبط منها قانوناً هو أن كل قومٍ انحرفوا عن سواء السبيل استحقّوا الهلاك، فإذا أردنا أن نسحب هذا القانون على حياتنا نجد أن كل منحرفٍ على مستوى فردي وعلى مستوى جماعي هالك.

 

ظلم الإنسان لأخيه يتناقض مع عدالة الله عز وجل:


أقول لكم هذا الكلام، والكلام دقيقٌ جداً: الإنسان إذا انحرف إن في كسبه للمال، أو في إنفاقه للمال، إن في معاملته لمن حوله؛ لأقرب الناس إليه، لمن هم أدنى منه، لمن هم تحت إمرته، إذا انحرف في معاملتهم، ظلمهم، بغى عليهم، طغى عليهم وهو أقوى منهم قدرةً ومالاً، والأمور سارت على ما يرام إلى ما شاء الله، هذه الحوادث تتناقض مع وجود الله، تتناقض مع عدالته، تتناقض مع تربيته:

﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)﴾

[ سورة الشعراء ]

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)﴾

[ سورة الشعراء ]

 

معالجة الله للإنسان تكون بأربعة أساليب:

 

1 ـ الدعوة البيانية :

الإنسان لا يُترك من دون معالجة، لا يُترك من دون تنبيه، وقد ذكرت لكم سابقاً أن هناك أساليب أربع يطبِّقها اللهُ جلَّ جلاله على عباده.

أول أسلوب: الدعوة البيانية، كلام، أنتم الآن وأنا معكم نتلقَّى دعوة بيانية من كتاب الله عزَّ وجل؛ تحضر درس علمٍ، خطبة جمعةٍ، تقرأ القرآن، تستمع إلى شريط، تقرأ كتاباً، هذه دعوةٌ بيانية، وأكمل حالةٍ في الدعوة البيانية أن تستجيب لها، أن تأتمر بما أُمِرت، وأن تنتهي عما نُهيت، وأن تفعل ما ينبغي أن تفعل، وأن تدع ما لا ينبغي أن تفعل، الاستجابة للدعوة البيانية هي أكمل حالةٍ معها، لذلك قال الله عزَّ وجل ودققوا في هذه الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

 

إجابة الإنسان لله وللرسول ثمنها الحياة الطيبة:


الله سبحانه وتعالى وعدنا بحياةٍ إذا استجبنا لأمره، ولا يُعقَل أن يكون أي منهجٍ أرضي يحقق حياةً أكمل من الحياة التي وعدنا الله بها، لا يُعقَل، هل يُعقَل أن منهجاً أرضياً ؛ طريقةً في الحياة، مبدأً وضعياً، أسلوباً في المعيشة، ينقلك إلى حياةٍ بكل جوانبها أكمل من الحياة التي وعدنا الله بها؟ خالق الكون يقول: يا عبادي لمجرَّد أن تستجيبوا لي ولرسولي فأنا أعدكم بحياةٍ طيّبة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ لما فيه حياة أجسامكم، وحياة قلوبكم، وحياة نفوسكم، وحياة مجتمعكم.

لذلك أيها الأخوة، حينما يقرأ الإنسانُ كلامَ الله عزَّ وجل يجب أن يعلم ماذا يقرأ، إنه يقرأ كلام خالق الكون، إنه يقرأ كلاماً قانونٌ في كلّ حركاته وسكناته، يقول الله لنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ المؤمن يحيا حياةً طيّبة، والكافر يحيا لكن حياته ليست طيّبة.

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[ سورة طه ]

 

أسعد الناس من انصاع لأمر الله سبحانه:


أيها الأخوة الكرام؛ الله سبحانه وتعالى أورد هذه القصص كي نستفيد، هناك دعوةٌ بيانية، كمال الاستجابة لها أن تستجيب لها مؤتمِراً بما أُمرت، منتهياً عما نُهيت، وهؤلاء هم أسعد الناس، أسعد الناس الذين إن استمعوا إلى كلمة الحق بادروا إلى الانصياع لها، لذلك:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

هذا أمر الله على العين والرأس، هذه سنَّة رسول الله على العين والرأس، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾

2 ـ مرحلة التأديب:

لو أن إنساناً لم يستجب، يا أخي لا نستطيع، نسأل اللهَ أنْ يغفر لنا ويرحمنا، هذا كلام بعض المسلمين، ماذا سيكون؟ ستكون المرحلة الثانية؛ مرحلة التأديب، تضييق، شدَّة نفسية، مادّية، اجتماعية، خوف، حزن، نقصٌ في المال، نقصٌ في الأولاد، علاقات عملٍ سيئة، حياةٌ زوجيةٌ مزعجة، علاقةٌ مع الأولاد لا ترضي، أي الله عزَّ وجل هو الخبير وهو الحكيم، وهو الذي يعلم كيف يُعَالَج هذا العبد، فحينما لا تجدي الدعوة البيانية، أو حينما لا يستجيب المرء للدعوة البيانية يأتي التأديب التربوي، ماذا ينبغي أن نفعل إذا جاء التأديب التربوي؟ ينبغي أن نتضرَّع إلى الله تائبين، منيبين، عائدين: إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فقد اصطلح مع الله، إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه والملائكة وبِقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، فالإنسان إذا كان في طور الدعوة البيانية، إذا كان جالساً في مسجدٍ يستمع إلى درس علمٍ، وفي هذا الدرس أمرٌ ونهي، وحلالٌ وحرامٌ، وحقٌّ وباطل، هذا هو الحق فاتّبعه، وذاك هو الباطل فاجتنبه، أنت في طور الدعوة البيانية، وأكمل شيءٍ في هذا الطور أن تستجيب، فإن استجبت لك الحياة الطيبة، لك الحياة التي لا تعلو عليها حياة، لك الطمأنينة التي لا تعلو فوقها طمأنينة، لك الِبشر الذي لا يعلو فوقه بِشر، لك السعادة التي لا تعلوها سعادة، هكذا. 

3 ـ الإكرام الاستدراجي:

لم يوفَّق الإنسان إلى أن يستجيب للدعوة البيانية دخل في طور التأديب، الآن عند الأطبَّاء يقول لك بعضهم: هذا المرض يُشفى بالأدوية الخارجية، بحبوب، بحُقَن، أحياناً يقول لك الطبيب: لابدَّ من عمليةٍ جراحية، هذا التأديب التربوي، فإذا دخل الإنسان مع الله طور التأديب التربوي عليه أن يتضرَّع، وأن يلجأ، وأن يتوب، وأن يُقلِع، وأن يستقيم على أمر الله، إن فعل ذلك فقد فعل أكمل شيءٍ في هذه الحالة، لم يستجب، ولم يتضرَّع، ولم يتُب، ولم ينْصَع إلى أمر الله، الله عزَّ وجل ينقله إلى طورٍ ثالث هو الإكرام الاستدراجي.

يعطيه الدنيا كما يريد، هذا الضيق يزيحه عنه، هذه الشدَّة يكشفها عنه، هذا الخوف يزيله من قلبه، ما هو أكمل رد فعلٍ على طور الإكرام الاستدراجي؟ أن تشكره. 

4 ـ القصم:

إن لم تجدِ الدعوة البيانية استجابةً، وإن لم يجدِ التأديب التربوي تضرُّعاً، وإن لم ينفع الإكرام الاستدراجي شكراً عندئذٍ يأتي القصم:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]


السعيد من طبق منهج الله عز وجل:


لذلك أيها الأخوة؛ مَن هو السعيد؟ هو الذي يتمتَّع بصحَّته، وبقوته، وبشبابه، وبأهله، ويُدْعى إلى الله، عليه أن يستجيب، العبرة لا بكثرة الحاضرين، العبرة بالمطبِّقين، لأن واحداً كألف وألفٌ كأف، واحد مطبِّق، ملتزم، يقول: أين الله؟ هو أفضل عند الله من ألف مستمعٍ لا يطبِّق، لماذا كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله سبعين ألفاً وتمكَّنوا أن يفتحوا العالم شرقاً وغرباً؟ ولماذا المسلمون اليوم يزيدون عن مليار ومئتي مليون وليست كلمتهم هي العُليا؟ لأن مطبِّقاً واحداً أفضل عند الله من ألف مستمع، ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط، من لم يكن له ورعٌ يصدّه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله.

 

الموعظة من ذكر الأقوام السابقة:


فيا أيها الأخوة؛

﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى(55)﴾

[ سورة النجم ]

الآلاء أي النِعم، هذه دروس وُضِعت بين أيدينا، هذه وقائع ينبغي أن نستقرئ منها، هذه أخبار ينبغي أن نتَّعظ بها، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ إذاً كيف أننا في الفيزياء نأتي بتجربة وثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة ثم نستنبط القانون ونعمِّم نقول: كل المعادن تتمدَّد بالحرارة، كذلك قوم عادٍ أهلكهم الله، وقوم ثمودٍ أهلكهم الله، وقوم نوحٍ أهلكهم الله، وقوم لوطٍ أهلكهم الله، فإذا فعلنا فعلهم، وشردنا عن منهج الله كان لنا مثل مصيرهم.

 

لابدّ من عقاب ينتظر الإنسان إذا انحرف عن منهج الله:


ذكرت اليوم في خطبة الجمعة أنه بعد خمس سنين يمكن أن يكون عدد المصابين بمرض الإيدز مئة وعشرين مليوناً، وأن من المفارقات التي تلفت النظر أن البعوضة لمجرَّد أن تلدغ إنساناً مصاباً بمرض الطاعون مثلاً وتأتي إلى إنسانٍ سليم فتلدغه ينتقل المرض من المريض إلى السليم، أما في هذا المرض -طاعون العصر-فالبعوضة لو غرست خرطومها في دم إنسانٍ مصابٍ بالإيدز ثم انتقلت إلى سليمٍ، واختلط الدمان لا يعدى الثاني بالأول، لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون هذا المرض عقاباً للمنحرفين فقط، هذا المرض لا يصيب إلا المنحرفين لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾

[ سورة الروم ]

إذاً هؤلاء الأقوام ضلّوا وانحرفوا فأهلكهم الله عزَّ وجل، ونحن على المستوى الفردي أو الجماعي إذ انحرفنا وضللنا لابدَّ من عقابٍ ينتظرنا. 

 

تأديب الله في الدنيا نعمةٌ لأن هذا عذابٌ أدنى من عذاب الآخرة:


هذا العقاب نعمة، لماذا؟ لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[ سورة السجدة ]

لأن المفارقة: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى(55)﴾ أي تأديب الله في الدنيا نعمة لأن هذا عذابٌ أدنى ربَّما كان أقلَّ من العذاب الأكبر، إلا إذا جاء التأديب إهلاكاً عندئذٍ هو عقابٌ وليس تأديباً.

 

الكون والعقل والفطرة أشياء تدل على الله:


﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)﴾

[ سورة النجم ]

تتمارى أي تجادل:

﴿ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)﴾

[ سورة النجم ]

 من هو النذير؟ قال بعض العلماء: "النبي صلى الله عليه وسلَّم هو النذير" .

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾

[ سورة الأحزاب ]

فالنبي نذير، هو الكون وحده يدل على الله، وعقلك أداةٌ لمعرفة الله، وفطرتك وحدها تدلُّك على خطئك، بإمكانك من خلال عقلك أن تعرف الله، ومن خلال عقلك أن تتعرَّف إلى كلامه، وأنه كلامه، ومن خلال عقلك تصل إلى أن هذا الذي جاء بهذا الكلام هو نبيّه، وفطرتك تدلُّك على خطئك، ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء والمرسلين، لماذا؟ ليكون هؤلاء الرجال العِظام الذين هم قِمَمُ البشرية في معرفة الله، ومحبَّته، والإقبال عليه، ليكونوا منذرين للأمم والشعوب.

 

هَذَا نَذِيرٌ: اختلف العلماء في كلمة نذير فمنهم من قال هو:

 

1 ـ النبي الكريم:

﴿هَذَا نَذِيرٌ﴾ النبي جاء نذيراً، ﴿مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ كيف أن كل قومٍ أهلكهم الله عزَّ وجل، وقبل أن يُهلكهم أرسل إليهم نبياً ورسولاً لينذرهم وليحذِّرهم؟ كذلك النبي عليه الصلاة والسلام هو النذير، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46)﴾

2 ـ القرآن الكريم:

وبعض العلماء قالوا: "النذير هو القرآن الكريم لأن فيه صوراً لمصير الإنسان في الجنَّة أو النار" ونحن في الدنيا وقبل أن ينقضي الأجل، وقبل أن يُختَم العمل أرانا الله عزَّ وجل من خلال كتابه الكريم مصير المؤمن في الجنَّة، ومصير الكافر في النار، وأصحاب النبي رضوان الله تعالى عليهم أُلهِموا في بصيرتهم رؤيةً صادقة، النبي خاطب أحد أصحابه قال: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: يا رسول الله أصبحت مؤمناً والحمد لله، فقال عليه الصلاة والسلام: إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: يا رسول الله أصبحت وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وكأني بأهل النار يتصايحون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم إني لك ناصح أمين.

كان أصحاب النبي يرون الحقائق، تفتَّحت بصائرهم، ألم يقل عليٌّ رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه: "والله لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً؟"

ويقول صحابيٌّ جليل: "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي" لشدَّة التفوّق والسير إلى الله عزَّ وجل. 

3 ـ سنّ الأربعين:

النذير هو النبي عليه الصلاة والسلام، وهو القرآن الكريم، وفي رأي الإمام القرطبي النذير أيضاً هو سنُّ الأربعين، هذا سنُّ النُضْج: من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شرَّه فليتجهَّز إلى النار، من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، من دخل الأربعين أغلب الظن أن ما بقي له من عمره أقلُّ مما مضى، كما قيل: مُعْتَرَكُ المنايا بين الستين والسبعين، فإذا بلغ الأربعين معنى ذلك أن الذي بقي أقلّ من الذي مضى، كيف مضى الذي مضى؟ كلمح البصر، إذاً ما بقي يمضي أيضاً كلمح البصر، نحن مع بعضنا، في السبعينات حينما يأتي عام الثمانين دخلنا في الثمانين، واحد وثمانون، اثنان وثمانون، ثم دخلنا في التسعين، الآن نقول: سنة ألفين، والأيام تمضي، هكذا، لذلك الوقت من خصائصه سرعة انقضائه، وأن ما مضى منه لا يعود، وأنت بين أيامٍ ثلاث؛ ما مضى فات، والمؤمَّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، إذاً سنّ الأربعين نذير. 

إلى متى أنت باللذَّات مشغولُ               وأنت عن كلِّ ما قدَّمت مسؤوّل 

[ البوصيري ]

* * *

تعصي الإله وأنت تُظهِر حبَّه              هذا لعمرِي في المقال شنيـــــعُ

لو كان حبُّك صادقاً لأطعتـــه               إنّ المحــــــبَّ لمن يحبُّ يطيع

[ الشافعي ]

* * *

 النذير سنّ الأربعين، أي بَعْد الأربعين لا يصلي؟ أعوذ بالله، بَعْدَ الأربعين يمضي وقته في لعب النرد حتى الساعة الثانية فجراً؟ أعوذ بالله، ماذا ينتظر؟ بَعدَ الأربعين يُطلِق بصره في الحرام؟ معاذ الله، بَعدَ الأربعين يسهر وراء المُلْهيات حتى آذان الفجر وهو يقوم الليل في قنوات المجاري؟ بَعدَ الأربعين؟ فالأربعون نذير . 

4 ـ سنّ الستين:

وقال بعض العلماء: "الستَّون هو النذير"

5 ـ الشيب:

قال بعضهم: "الشيب هو النذير" عبدي كبرت سنّك، وانحنى ظهرك، وضعُف بصرُك، وشاب شعرك، فاستحْيِ مني فأنا أستحي منك.

 

العاقل من يستعد للقاء ربه وهو على أفضل حال:


أيها الأخوة؛ كان من الممكن أن يبقى الإنسان شاباً إلى حين وفاته، ويُقصَم قصماً، لماذا يضعُفُ بصره فيضع نظارات؟ ولماذا تضعف همَّته؟ ولماذا يشيب شعره؟ ولماذا يشعر بأعراض لم تكن من قبل؟ يقول لك: مناقير في الركب، أسيد أوريك في الدم، لا يوجد إنسان إلا ويعاني من علَّتين أو ثلاث، هذه العلل لحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعلها الله تنبيهاتٍ لطيفة، أن يا عبدي لقد اقترب اللقاء فهل أنت مستعدٌّ له؟ اقترب اللقاء.

أحياناً بعض القرى التي فيها مولِّدات كهربائية، هذا المولِّد يتوقف الساعة الثانية عشرة ليلاً، قبل عشر دقائق تُطْفأ الكهرباء لثانيتين فقط، إشعاراً أنه بقي عشر دقائق لإطفاء الأنوار فاستعد، لذلك الشيب، وضعف البصر، وضعف السمع أحياناً، وأعراض المفاصل، بعض أمراض الدم، وهنُ القِوى، شيب الشعر، هذه كلها إشاراتٌ لطيفةٌ لطيفة أن يا عبدي قد اقترب اللقاء فهل أنت مستعدٌّ له؟ والعاقل والذكي والمتفوق هو الذي يستعدُّ لهذا اللقاء من أول حياته. 


  على الإنسان ألا ينسى لحظة اللقاء مع الله عز وجل:


قلت لكم مرَّاتٍ عديدة: إن طالباً نال الدرجة الأولى على القطر في الثانوية العامة، سُئل مرَّةً هذا السؤال: ما الذي حملك على أن تنال هذه الدرجة؟ فأجاب إجابةً أعجبتني أردت أن أطبِّقها على الدين، قال هذا الطالب: لأن لحظة الامتحان لم تغادر مخيّلتي ولا لثانيةٍ واحدةٍ. وكذلك نحن لحظة مغادرة الدنيا، لحظة اللقاء مع الله، لحظة الحساب، هيِّئ لله جواباً عن كل فعل، عن كل تصرُّف، عن كل صلة، عن كل قطيعة، عن كل قرار، عن كل عطاء، عن كل منع، عن كل غضب، عن كل رضا، هيئ لله عزَّ وجل جواباً.

 6 ـ المصائب:

فيا أيها الأخوة؛ النذير هو القرآن الكريم، والنذير هو النبي عليه أتمّ الصلاة والتسليم، والنذير هو سن الأربعين، والنذير هو سن الستين، والنذير هو الشيب، والنذير المصائب، أحياناً الإنسان على مستوى البيان لا ينتبه، سارح في المعاصي، غافل عن الله، هذا لا توقظه خطبةٌ تلقى على مسامعه، وقد لا يوقظه درس علمٍ لأنه لا يحضره، وقد لا توقظه موعظةٌ لأنه لا يعبأ بها، ما الذي يوقظه أحيانًا؟ مصيبةٌ تقلق مضجعه، طارئٌ يطرأ على حياته، نقصٌ في ماله، نقصٌ في صحته، نقصٌ في أولاده، لذلك المصائب أحياناً هي النذير. 

7 ـ موت الأقارب:

من أبلغ النذر كما قال الإمام القرطبي: موت الأقارب، أي إنسانٌ مِلْءُ السمع والبصر، تحبه ويحبك، تزوره ويزورك، تعامله ويعاملك، في لمح البصر صار خبراً بعد أن كان رجلاً، أين هو؟ وقد أستمع أحياناً إلى بعض الأخوة الكرام يقول: فلان توفي وهو في مثل سني، فلان توفي وهو في مثل سني، فلان جاءه الموت وهو في مثل سني، يقول: لم يبق غيري من بين أترابي، فموت الأقارب عندما يموت الإنسان في سنه يعني أنّ احتمال الموت بحسب قانون الاحتمالات تطرَّق إليه، وإن كان ليس هناك سنّ يستعصي على الموت.

 

النذر من دلائل رحمة الله بخلقه:


﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ وما أكثر النذر! بل إن النذر من دلائل رحمة الله بخلقه، الله عزَّ وجل لا يأخذنا بغتة، ينذرنا، ويحذرنا، ويلفت نظرنا، من خلال الكون تارةً، من خلال أفعاله التكوينية تارةً، من خلال آياته الكونية تارةً أخرى، من خلال كلامه تارةً، من خلال كلام نبيه تارةً، من خلال بعض الأحداث التي تُلمّ بنا تارةً، من خلال ملامح شبح بعض المصائب تارةً، فالله سبحانه وتعالى يعالجنا، ويحذرنا، وينذرنا، فحينما لا نستجيب نقع في شرّ عملنا، والعياذ بالله.

 

مجالس العلم دعوة من الله:


إخواننا الكرام؛ من أبلغ الآيات قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ وما مجالس العلم التي يُتلى فيها كلام الله عزَّ وجل وتُبيَّن فيها آياته إلا دعوةٌ من الله عزَّ وجل. 

﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ فالنذير موجود، شعرك نذير، ضعف بصرك نذير، انحناء ظهرك نذير، بعض الأعراض التي لم تكن من قبل والتي طرأت على صحتك نذير، موت الأقارب نذير، بعض المصائب نذير، سنّ الأربعين نذير، سنّ الستين نذير، القرآن الكريم هو النذير، النبي هو النذير.

 

استهلاك عمر الإنسان من خلال مرور الزمن:


﴿ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)﴾

[ سورة النجم ]

أي هناك شيء تألفونه جميعاً، ينتهي رمضان تقول في نفسك: أين رمضان الثاني؟ هناك أشهر عديدة، وأنت لا تدري جاء شهرٌ ومضى شهرٌ فإذا أنت مرةً ثانية أمام رمضان، يأتي العيد ويمضي وتقول: بيننا وبين العيد الثاني سنةٌ بأكملها، ثم تفاجأ بأن العيد الثاني قد جاء، للطلاب يبدأ العام الدراسي، يمضي كلمح البصر، هم أمام الامتحان، كل شيء متوقع آت، وكل آتٍ قريب، فمادام هناك حركة، قطار مادام يمشي لابدَّ من أن يصل، هذه المركبة انطلقت لابدَّ من أن تصل، أنت مع الزمن تمضي شئت أم أبيت، الزمن لا يقف، الزمن يمضي، وما دام الزمن يمضي فهو يستهلك عمر الإنسان، ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ .

 

الأعمال الصالحة أفضل عمل للإنسان في الليل والنهار:


كلنا جميعاً كنا أطفالاً، وكنا صغاراً، وكنا في التعليم الابتدائي، وفي التعليم الإعدادي، وفي التعليم الثانوي، وكنا طلاباً في الجامعة في أغلب الأحيان، وتخرَّجنا، وعملنا، وتزوجنا، كيف مضت هذه المراحل كلها؟ الآية الكريمة:

﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)﴾

[ سورة الانشقاق  ]

قال بعض المفسرين: هناك ممرٌ إجباري، ومراحل لابدَّ منها، هناك فترةٌ في حياة الإنسان شغله الشاغل في دراسته، في جو الامتحانات، والأساتذة، والأسئلة، والتوقُّعات، والقراءة، فإذا نال الشهادة العليا يدخل في مرحلة ثانية، العمل، والوظيفة، والعمل الحر، إلخ، فإذا دخل في هذه المرحلة وخرج منها يطالعه موضوع الزواج، واختيار الزوجة، فإذا دخل في الزواج وانتهى منه دخل في شراء البيت وفي تأثيثه، ثم في إنجاب الأولاد، ثم في تربية الأولاد، ثم في تزويج الأولاد، ثم يدخل في شؤون صحته، يعتني بصحته، ويرى أنه كان مقصراً في صحته، ثم تكتب نعوته على الجدران، سلوكٌ لابد منه، شيء يمضي مادام يمضي أبلغُ كلمة قالها سيدنا عمر بن عبد العزيز: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما" وأوضح شاهد صورةٌ لك قبل عشرين عاماً، فرقٌ كبير حينما كنت شاباً أو طفلاً ولك وجهٌ كالبدر ثم جاءت الأعوام والسنون فرسمت هذه الخطوط، وهذه التجاعيد، هذا من فعل الزمن، الليل والنهار يعملان فيك، فلئلا تسمح لليل والنهار أن يعملا فاعمل فيهما الأعمال الصالحة.

 

عدم استطاعة أي جهة في الأرض كشف وقت الساعة:


﴿ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)﴾

[ سورة النجم ]

ليس من دون الله جهةٌ تستطيع أن تقرِّبها أو أن تبعدها، ولا أن تكشف وقتها، ولا أن تلغي عملها، ولا أن تزيح التبِعات التي تنطوي عليها، أحياناً هناك مدرس حازم يعيِّن يوماً للمذاكرة، الطلاب يطلبون تأخير المذاكرة، أبداً لا تقدم، ولا تؤخر، ولا يزال الخطر الكامن فيها.

﴿ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)﴾

[ سورة النجم ]

تعجبون عجب التكذيب.

 

كل إنسان مدعو إلى حياةٍ لا موت فيها:


﴿ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)﴾

[ سورة النجم ]

إخواننا الكرام؛ هذا الكلام كلام متعلِّق بمصير الإنسان إلى أبد الآبدين، مرة ذكرت أني كنت في جامع العثمان وأمامي كتاب قدَّرت طوله بخمسة وعشرين سنتمتر، قلت: لو أن رقم واحدٍ في طرف الكتاب وكل ميليمتر صفر، معنى ذلك أنه صار لدينا خمسة وعشرون صفراً، رقم واحد وأمامه خمسة وعشرون صفراً، كم هذا الرقم؟ إذا كانت الستة أصفار مليونًا، التسعة أصفار ألف مليون، الاثنا عشر صفراً ألف ألف مليون أي مليون مليون، الخمسة والعشرون صفرًا كم تشكِّل؟؟ ذكرت هذا قلت: لو أن الأصفار من هنا إلى باب المسجد، أنا في المحراب أدرس في العثمان، قلت: الأصفار من هنا إلى باب المسجد كم هذا الرقم؟ إلى ساحة شمدين؟ إلى القطيفة؟ إلى النبك؟ إلى حمص؟ كل ميلي صفر، إلى حماة؟ حلب؟ أنقرة؟ موسكو؟ القطب الشمالي؟ لففنا حول الأرض إلى القطب الجنوبي؟ إلى مكة المكرمة؟ إلى عمان؟ إلى درعا؟ إلى دمشق؟ أي أربعون ألف كيلو متر، نحن مع خمسة وعشرين صفراً الرقم لم نتحمله، واحد أمامه أربعون ألف كيلو متر من الأصفار كم هذا الرقم؟ هذا الرقم إذا قسته إلى اللانهاية فهو صفر، لا شيء، فأنتم مدعوون إلى الحياة الأبدية، إلى حياةٍ لا موت فيها.

 

الدنيا ما هي إلا إعدادٌ لحياة أخرى:


﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

[ سورة الزخرف ]

هذه الحياة الدنيا ليست بشيء إطلاقاً، لا شيء، إنها إعدادٌ لحياة أخرى.

فيا أيها الأخوة الكرام؛ ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)﴾ ؟

﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ أي عجيب أنّ الإنسان في الدنيا له رسالة!! عجيب  أن هذه الدنيا المحدودة هي دار عمل وليست دار نعيم!! أي شيء غير معقول أن نأتي إلى حياةٍ إعداديةٍ لحياة أبدية عجيب!! عجيب أن يكون لهذا الكون خالقٌ عظيمٌ!! عجيب أن يكون لإلهنا العظيم منهجٌ ينبغي أن نسير عليه؟! هذا هو الأصل، العجيب خلافُه، العجيب الفوضى، العجيب العبثية، العجيب أن يخلق الإنسان سُدَى.

 

تعجب الكافر أن الإنسان في الدنيا له رسالة:


﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة  ]

العجيب أن نخلق عبثاً، هذا العجيب، أما أن يكون لهذا الكون إلهٌ عظيمٌ، موجودٌ، كاملٌ، واحدٌ؟!! هذا هو الأصل، عجيب أن يكون لهذا الإله منهجٌ ينبغي أن نسير عليه؟! عجيب أن تنظم علاقاتنا وفق تعليمات الخبير الصانع؟! هذا هو العجيب؟ العجيب خلاف ذلك، العجيب أن هذه الشهوات التي أودعها الله فينا ينبغي أن نتحرك فيها وفق منهجٍ دقيق، هذا هو العجيب؟ عجيب أن نكون أمناء؟! عجيب أن نكون صادقين؟! عجيب أن نكون أَعِفَّة؟! هذا المنهج الدقيق، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، ويأكل القوي منا الضعيف، هذا هو الأصل؟ حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّدَهُ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، أيهما هو العجيب؟ إنسان متفلِّت أم إنسان منضبط؟ إنسان مسيء أم محسن؟ مخلص أم خائن؟ كاذب أو صادق؟ إذا الله عزَّ وجل أنزل على نبيه منهجاً ودستوراً يهدي للتي هي أقوم:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[ سورة طه ]

هذا هو العجيب؟

 

تعجب الكافر أن بعد الموت حياةٌ أبدية لا نهاية لها:


عجيب أن تسير على مبدأ؟ تسير وفق منهج؟ تمشي وفق خطة عمل دقيقة؟ عجيب أن تكون نظيفًا في العلاقات الجنسية؟ ليس لك إلا زوجتك؟ هذا هو العجيب؟! ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ عجيب أن يكون بعد الموت حياةٌ أبدية لا نهاية لها؟ هو الأصل، الدنيا وحدها تثير ألف سؤال، أيعقل أن يُعد الإنسان نفسه أربعين عاماً ليعيش عشر سنوات؟ لا يوجد تناسب، إلا أن تكون هذه الحياة الدنيا حياةً إعداديةً لحياةٍ أبدية، هذا هو العجيب.

 

استهزاء المنافق بالمؤمن الصالح:


﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ﴾ يقولون لك: فلان تمشيخ، يستهزئون، يقولون: فلان متزمت، أفقه ضيق، لا يعرف إلا الله، مباهج الدنيا لا يعرفها، صلب لا يوجد عنده مرونة، يقصدون بالمرونة النفاق، يقصدون بالمرونة المعاصي، متزمِّت، متحجِّر، يقول لك: عقله متكلِّس، ﴿وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ﴾ قال: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ المعنى الواسع لاهون، المعنى الضيق: تُغَنُّون، إذا أصبح الغناء يغطي كل أوقاتنا فهذه مصيبة، دقق في معاني الغناء؛ معان تافهة، معان سخيفة أحياناً.

 

عدم اجتماع القرآن والغناء في قلب الإنسان:


اقرأ القرآن:

(( عن أبي هريرة:  ليسَ منَّا من لم يتغنَّ بالقُرآنِ. ))

[ صحيح البخاري ]

لا يجتمع في قلب الإنسان قرآنٌ وغناء، الغناء ينبت النفاق، من استمع إلى صوت قينة -كما ورد في الأثر-صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة، قيل: ما الآنك؟ قال: الرصاص المذاب، فحينما نغرق في الغناء، يقول لك: عنده ثلاثمئة شريط، أربعمئة، خمسمئة، له هوايات متعددة، استريو، هاي فاي.  

﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)﴾

[ سورة النجم ]

 

علة وجود الإنسان أن يعبد الله:


ما الذي ينبغي أن تفعلوه؟

﴿ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)﴾

[ سورة النجم ]

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ اخضعوا له، اطلبوا العون منه، اعبدوه:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

يجب أن نعلم أيها الأخوة الكرام أن علة وجودنا أن نعبد الله، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .

 

عبادة الإنسان تقتضي معرفة وسلوكاً وجزاءً:


العبادة تقتضي معرفة، وتقتضي سلوكاً، وتقتضي جزاءً، فالهدف أن تسعد بقربه، هدف جمالي، والثمن أن تطيعه، والسبب أن تعرفه، تعرفه الجانب الفكري في الإسلام، فتستقيم على أمره الجانب السلوكي، فتسعد بقربه الجانب الجمالي، وفي الإسلام كُلِيَّات ثلاثة؛ جانب معرفي، جانب سلوكي، جانب جمالي، الجمالي هو الهدف.

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

والثمن طاعة الله عزَّ وجل:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

والسبب معرفته، إذاً إذا أردت أن تسعد فعليك بالعلم، العلم ثم العلم ثم العلم، بالعلم تستقيم على أمره، وبالعلم تتقي نواهيه، وبالعلم تسعى لقربه، وبالعلم تتقرب بالأعمال الصالحة، لذلك: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم"

﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

السجود من أبرز عبادات الله:


لذلك أيها الأخوة: المُلَخَّص والموقف العملي أن نعبد الله، ومن أبرز عبادته السجود لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

(( عن أبي هريرة: أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ ساجِدٌ. ))

[ صحيح  مسلم ]

بالصلاة يوجد وقوف وهناك ركوع وسجود، أنت في أقرب حالاتك إلى الله وأنت ساجد، فلذلك الأصل أن تعبده، أن تعبده بأداء العبادات التي فرضها عليك؛ صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وشهادتان، وأن تعبده بالمنهج التفصيلي؛ أحكام الفقه، أحكام البيوع، أحكام الزواج، وأن تعبده بالآداب الإسلامية، وأن تعبده بالتعرف إليه، كُلُّها عبادة، فالعبادة هي : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .

 

على الإنسان أن يقتطع من وقته وقتاً للتأمل ومعرفة الله:


طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية، الإنسان بحاجة ماسة إلى فلسفة صحيحة، إلى تصور صحيح لحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة ذاته، من عرف نفسه عرف ربه، فلذلك الإنسان قد ينشغل باللهو والغناء، والترُّهات والأباطيل، لابد من صحوة، لابد من يقظة، لابد من تأمل، ألم يقل الله عزَّ وجل:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾

[ سورة الفرقان ]

ما معنى هوناً؟ أي يقتطعون من وقتهم وقتاً للتأمُّل، لمعرفة ربهم، لطلب العلم، لفهم كلام الله، لفهم سنة رسول الله، لا يسمحون للدنيا أن تطغى عليهم، ولا أن تستهلكهم، لا يسمحون لمشاغلهم أن تلغي وجودهم، لا يسمحون لشيءٍ مهما كان عظيماً أن يصرفهم عن هدفهم الكبير.

أيها الأخوة الكرام؛ هذه سورة النجم كان عليه الصلاة والسلام يقرؤها كثيراً، وقد أمضينا فيها تسعة دروس، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها، وأن تكون الآية الأخيرة هي الباعث الدقيق للنجاة من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور