وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة النجم - تفسير الآيات 31-38 الجزاء والاستقامة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الجزاء أساس الاستقامة:


 أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس من سورة النجم، ومع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)﴾

[ سورة النجم ]

أيها الأخوة الكِرام؛ مما تقتضيه ألوهية الله عزَّ وجل الذي يملك السماوات والأرض، وشؤون السماوات والأرض، وملكوت السماوات والأرض، أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والإنسان أيها الأخوة حينما يوقِن أن لكل حسنةٍ ثواباً ولكل سيئةٍ عقاباً يستقيم، أي فكرة الجزاء هي أساس الاستقامة، حينما تؤمن بعبثية الخلق عندنا حالتين؛ إما أن تؤمن بعبثية الخلق:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة  ]

وإما أن تؤمن بالجزاء.

 

الإنسان العاصي ينطلق من عبثية الخلق:


فكرةٌ أساسيةٌ في الدين، أساسيةٌ في العقيدة، أساسيةٌ في فلسفة الحياة، أن تؤمن بالجزاء، أن إنساناً يسيء لن يتفلت من يد الله عزَّ وجل:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[  سورة الحجر  ]

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة  ]

أيها الأخوة الأكارم؛ الإنسان الذي يعصي، والذي يسيء، والذي يعتدي، والذي يأخذ ما ليس له، والذي يطغى، والذي يبغي، إنسان حتماً ينطلق من عبثية الخلق، هكذا، بلا ضابط، بلا حساب، بلا مسؤولية، بلا جزاء، بلا جنة، بلا نار، بلا ثواب، بلا عقاب.

 

عدم استواء المحسن والمسيء يوم القيامة:


أنت أمام خيارين؛ إن آمنت بالجزاء استقمت على أمر الله، وإن لم تؤمن بالجزاء وتوهَّمت العبثية، عندئذٍ تنحرف، عندئذٍ تعدُّ الذكاءَ أن تأخذ ما ليس لك، عندئذٍ تعدُّ الذكاءَ أن تبغي على حقوق الآخرين، وأن تظلم، وأن تستغل، وأن تحتكر، وأن تسيء، كل أنواع التفلُّت، كل أنواع المعاصي أساسها توهُّم العبثية، توهُّمُ أن الإنسان سيترك بلا حساب: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ هل يستوي مسيءٌ ومحسنٌ في النهاية؟! هل يستوي كافر ومؤمن في النهاية؟! هل يستوي مسلم ومجرم في النهاية؟!

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)﴾

[  سورة ص  ]

مستحيل.


عدم نجاة أي مخلوق من قبضة الله يوم القيامة:

 

﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)﴾

[ سورة التكوير ]

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

أنت بين إيمانين؛ إما أن تؤمن بالجزاء، وإما أن تؤمن بالعبثية، إن توهَّمت العبثية عندئذٍ قد لا تستقيم، قد تعدُّ نفسك عاقلاً وشاطراً بالتعبير الدارج إذا أخذت ما ليس لك، أما إذا آمنت بالجزاء لن يتفلت مخلوقٌ من قبضة الله، لن يتفلت مخلوقٌ من عقاب الله في الدنيا والآخرة، أبداً، هنا مَحَطُّ الشاهد، هنا بيت القصيد، هنا محط الرِحال، لن تتفلت من عقاب الله.

 

من أبرز العقائد الصحيحة الإيمان بالجزاء:


﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[  سورة الحجر  ]

"لو أن شاةً في الفرات تعثَّرت لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟" سيدنا عمرُ آمن بالجزاء، أعرابي راعي غنم، قال له عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "بعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال: ليست لي، قال له: قل لصاحبها إنها ماتت؟ قال له: ليست لي، قل له: أكلها الذئب؟ قال: ليست لي، خذ ثمنها؟ قال له: والله إنني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟" .

هنا فكرة واحدة: إن آمنت بالجزاء استقمت على أمر الله، تقف عند الحد، تقف عند ما لك ولا تأخذ ما ليس لك، العقيدة مهمة جداً، فالإنسان حينما يعتقد خطأً يرتكب آلاف الأخطاء ولا يتوب منها، أما حينما يعتقد اعتقاداً صحيحاً فالخطأ لا يتكرر، سريعاً ما يتوب منه، فأخطر شيء في حياتك أن تعتقد اعتقاداً صحيحاً، من أبرز العقائد الصحيحة الإيمان بالجزاء، لن يتفلت مسيءٌ من قبضة الله، لن يتفلت ظالمٌ من قبضة الله ومن عقاب الله، لن يتفلت منحرفٌ من جزاء الله.

 

صعوبة الاستقامة إذا توهم الإنسان الفوضوية في الخلق:


الآية الكريمة ربطت: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ﴾ أي علة ملك السماوات والأرض لله أنه: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ أنت آمن بالجزاء تجد نفسك مستقيماً وأنت لا تشعر، عندئذٍ تغدو الاستقامة سهلةً، متى تغدو صعبةً؟ إذا توهَّمت العبثية، إذا توهَّمت الفوضوية، إذا توهمت أنك خُلِقْتَ سُدى، هكذا بلا سبب، بلا هدف، أما إذا أيقنت أن الذي خلقك سيسألك، وأن الذي أبدعك سيحاسبك، وأن الذي أوجدك سيجازيك على عملك إنْ خيراً فخير وشراً فشر، عندئذٍ تستقيم على أمر الله سبحانه.

 

العلم أساس النجاح في الدنيا والآخرة:


لذلك أيها الأخوة؛ دائماً حلل، لما الإنسان يأخذ ما ليس له يفتخر أحياناً، حينما يفتخر هو يؤمن بالعبثية وهو لا يشعر، إذا افتخر بإساءةٍ أو بعدوانٍ أو بظلمٍ أو بطغيانٍ أو ببغي ينطلق من توهُّمِهِ العبثية وهو لا يشعر، أما إذا أيقنت بالجزاء، الآن عندما يستورد شخص بضاعة تذهب صورة من مستورداته إلى المالية، فإذا لم يصرح عن هذا المستورَد يعاقب بتضْعيف الضريبة، تجد كل من يستورد يقدِّم بيانات صحيحة، لماذا؟ لأنه موقن بمضاعفة الجزاء لو قدم بياناً خطأ، أنت مع إنسان، إنسان من جلدتك، من بني جنسك، لأنه يطولك علمه وتطولك قدرته تستقيم على أمره فكيف بالواحد الديان؟

إخواننا الكرام؛ إنّ الإنسان إذا لم يستقم فهناك خلل في بعقيدته، لذلك العلم ضروري.

(( عن أبي سعيد الخدري:  طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ. ))

[  السيوطي : الجامع الصغير : خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

 إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، إذا أردت النجاح في عملك فعليك بالعلم، العلم يعطيك المنهج، يعطيك الحكم الذي تبقى فيه.

 

المفهوم الدقيق والمفهوم الساذج للشفاعة:


هذه الآية دقيقة جداً، طبعاً الآن عُرِضَتْ من زاويةٍ أخرى، الإنسان حينما يؤمن بالجزاء يستقيم على أمر الله، وحينما يتوهَّم العبثية والفوضوية، وأن الإنسان يُترك سدى عندئذٍ ربما ينحرف، فالإنسان العاقل حكيم نفسه، ويفسر دائماً ما يفعله بأسلوبٍ علمي، متىُ َتِّقصر؟ متى تعصي؟ متى تأكل ما ليس لك؟ متى تطغى؟ متى تبغي؟ إذا أيقنت أو توهَّمت أنك لن تحاسب.

مثلاً لو توهم واحدٌ منا أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم سوف تدخل الجنة بغير حساب، والنبي عليه الصلاة والسلام سوف يشفع لها:

(( عن أنس : شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ من أُمَّتِي. ))

[  السيوطي : الجامع الصغير : خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

هذا الفهم الساذج للشفاعة التي هي حق، ولها مفهومٌ دقيق في الكتاب والسنة، أما إذا فهم إنسان الشفاعة هذا الفهم السقيم الساذج فلا يمكن أن يستقيم، ماذا نفعل بقول الله عزّ وجل: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ﴾ يا محمد:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[  سورة الزمر ]

 ماذا نفعل بقول النبي عليه الصلاة والسلام حينما يقول يوم القيامة: 

(( عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك ، فأقول: سحقًا سحقًا. ))

[ صحيح مسلم  ]

ماذا نفعل بقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ صحيح البخاري ]

((  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))  

[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

 

الاعتقاد الخاطئ أخطر شيء في حياة الإنسان:


لو فرضنا أنك آمنت بالله، وآمنت مع إيمانك بالله بمفهومٍ ساذجٍ غير صحيح للشفاعة لن تستقيم على أمر الله أبداً، وإذا آمنت أن الإنسان مجبورٌ على فعل السوء، مقهور..

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له:                    إياك إياك أن تبتل بالماء

[ امرؤ القيس ]

* * *

وأن أعمالنا الصالحة والسيئة مكتوبةٌ علينا قبل أن نُخْلَق، ولا سبيل إلى تغييرها، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الكافر كافراً، ووضعه في النار ولا ذنب له، إن اعتقدت عقيدة الجبر التي هي مخالفةٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة فلن تستقيم على أمر الله، أنا أضرب لكم أمثلة: أية عقيدة فاسدةٍ من نتائجها التفلُّت من منهج الله، أية عقيدةٍ فاسدة سواءً توهَّمت العبثية في أصل الخلق، أو توهَّمت شفاعة النبي بمفهومها الساذج، أو توهَّمت مفهوم الجبر في العقيدة، إن توهمت الجبر أو الشفاعة بمفهومها الساذج، أو توهمت عبثية الخلق فلن تستقيم على أمر الله، والإنسان كلما انحرفت عقيدته كلما انحرف سلوكه، وكلما استقامت عقيدته استقام سلوكه، ولأن السلوك انعكاسٌ طبيعيّ جداً لما تعتقد، لأنه كذلك، أصبحت العقيدة خطيرةً جداً، لو توهمنا أنه يمكن أن تعتقد عقيدةً فاسدة دون أن تتأثر بها سلوكياً، عندئذٍ اعتقد ما شئت، لو كان هناك فصلٌ بين العقيدة والسلوك، لو لم يكن السلوك انعكاساً للعقيدة لقلنا لك: اعتقد ما شئت ولا تثريب عليك، لا، لأن كل سلوك الإنسان صورةٌ لعقيدته، منعكسٌ لعقيدته، تجسيدٌ لعقيدته، لذلك نقول: أخطر شيءٍ في حياة الإنسان أن يعتقد اعتقاداً خاطئاً.

 

سلوك الإنسان ما هو إلا انعكاس لما يعتقد:


تصور ميزاناً دقيقًا جداً وضعنا تحت كفته اليمنى مئة غرام، واستخدمناه طويلاً وزنَّا به ألف وزنة، الألف وزنة كلُّها غلط، لأن هناك مئة غرام في أسفل كفته اليمنى، فالخطأ في الميزان خطأ مدمِّر، خطأ في كل الوزنات من دون استثناء، أما لو كان الميزان دقيقاً وحساساً وصحيحاً وقرأنا الكيلو كيليين مرة، هذا الخطأ لا يتكرر، مرة واحدة، لذلك قالوا: هناك خطأٌ في الوزن وخطأٌ في الميزان، الخطأ في الوزن سهل جداً لا يتكرر، لكن الخطأ في الميزان لا يصلح، فالخطأ بالعقيدة خطأ في الميزان لا في الوزن، الإنسان قد يرتكب بعض الأخطاء، وإذا عرفها يتوب منها فوراً، أما الذي يُخطئ في الميزان، فإذا كان في ميزانه خطأً هذا لن يستقيم على أمر الله أبداً.

يا أيها الأخوة؛ اعتقدوا اعتقاداً جازماً أن كل أنواع السلوك إن هي إلا انعكاساتٌ لما تعتقد، وأن أخطر شيءٌ في حياة الإنسان عقيدته، إن صحَّت صح عمله، وإن فسدت فسد عمله، لذلك كما قيل: ابن عمر، دينك، دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا، خذ عن الذي استقاموا في عقيدتهم وفي سلوكهم، ولا تأخذ عن الذي مالوا.

 

نتائج عقيدة الجزاء ووهم العبثية:


نحن اليوم بين عقيدةٍ ووهمٍ، عقيدة الجزاء ووهم العبثية، عقيدة الجزاء نتائجها الاستقامة، وعقيدة العبثية نتائجها التفلُّت، لكن أريد أن أؤكِّد لكم حقيقةً خطيرة، قانون السقوط، هذا قانون نافذ، في كل مكانٍ وزمان، أنت إن آمنت به أو لم تؤمن، تأدبت معه أو لم تتأدب، اعتقدت به أو لم تعتقد، نافذٌ عليك، أي عدم إيمانك بحتمية هذا القانون لا يُعَطِّله، دقِّقوا، الدليل: لو أن إنساناً ألقى بنفسه من طائرة، ولم يعبأ بهذا القانون، ولا بحيثياته، ولا بتفاصيله، طبعاً لو نزل بمظلة يكون قد تأدَّب مع هذا القانون، وقد درس هذا القانون، وصمم هذه المظلة وفق هذا القانون، بحسب وزنه، وبحسب مقاومة الهواء، وبحسب اتساع المظلة، وبحسب نوع القماش الذي صُنعت منه المظلة، نوع القماش ومساحة القماش مدروستان دراسةً دقيقةً مع قانون السقوط، فهذا القانون نافذ، شئت أم أبيت، أعجبك أم لم يعجبك، آمنت به أم كفرت، تأدبت معه أم لم تتأدب، أيقنت به أم كفرت به، سيَّان، القانون نافذ، وقانون الجزاء نافذ في الدنيا والآخرة، آمنت أم لم تؤمن، صدقت أم لم تصدق، اعتقدت أو لو تعتقد، نافذ: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ .

 

خيار الإنسان خيار وقت فقط:


لكن مشكلة الكافر المتفلِّت العاصي بعد أن يدفع الثمن باهظاً يقول: إِي واللهِ لقد كنت مخطئاً، القضية قضية إيمان فقط، الخيار خيار وقت، خيار وقت يا إخواننا، أيْ لابد من أن تؤمن بحتمية هذا القانون، لكن بدل أن تؤمن بحتميته وقد كنت أنت الضحية، وقد دفعت الثمن باهظاً مثلاً لما الله عزًّ وجل قال:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

كلمة، كلمة في كتاب الله، ستمئة صفحة قال لك: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ يأتي إنسان يزداد ماله بالربا، يشتري أجمل البيوت، أجمل المركبات، يرى أن الربا هو أفضل طريقة لنمو المال، بلا تعب، بلا نَصَبْ، بلا مسؤولية، بلا كَد، بلا قلق، بلا خوف، إذاً هو الآن آمن أنّ هذا  الكلام غير واقعي، أما حينما يُتْلِفُ الله ماله كله يؤمن، لكن متى آمن؟ بعد أن كان هو الضحية، بعد أن دفع الثمن باهظاً.

 

الله تعالى سيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته:


إخواننا الكرام؛ إيماننا بحتمية الجزاء، هذا الإيمان أنت مخير فيه خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، النقطة دقيقة، أعجبك أو لم يعجبك، آمنت به أو لم تؤمن، تأدَّبت معه أو لم تتأدب، نافذٌ عليك، رغم أنف كل الناس، كقانون السقوط، لو أنّ إنسانًا احتقر هذا القانون، ولم يعبأ به، وألقى بنفسه من الطائرة لنزل ميتاً، عدم إيمانه بهذا القانون لا يلغي فعل القانون، نافذ عليه، فالجزاء نافذ، أما إذا آمنا بالجزاء نستقيم على أمر الله فنسعد في الدنيا والآخرة، وإن لم نؤمن بالجزاء وآمنا بالعبثية انحرفنا، وإذا انحرفنا طُبِّق علينا قانون الجزاء الذي لم نؤمن به، نفذ  فينا.

مثل أوضح، أنت مع قانون السير مثلاً، إذا صدرت تعليمات بحجز المركبة، وإيداع السائق بالسجنَ شهراً، وأنت لم تبال، ولم تقرأ القانون، ولا اتعظت به، فإذا خالفت وقعت في قبضة القانون شئت أم أبيت، فالقصة كلها وما فيها: إما أن تؤمن بالجزاء وإما أن تؤمن بالعبثية، الذي لا يستقيم على أمر الله يتوهَّم العبثية، والمستقيم على أمر الله يؤمن بالجزاء، الآية الكريمة: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الذي يملك السماوات والأرض هو الذي سيجازي، الذي يملك السماوات والأرض، الكون كله، هو الذي سيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

 

التائب من الذنب كمن لا ذنب له:


﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)﴾

[ سورة النجم ]

من هم الذي أحسنوا؟ قال:

﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾

[ سورة النجم ]

بعضهم قال: الفاحشةُ فرعٌ من الإثم، الإثم الكبير، المعصية الكبيرة التي تحجب عن الله وتبعد عن الله، الإثم الكبير الذي ورد فيه لعنٌ لمن يفعله، أو وعيدٌ في النار لمن يقترفه، الإثم الكبير هو الذنب الذي يحجب عن الله عزَّ وجل، والفواحش؛ الإثم المتعلِّق بالعلاقات الاجتماعية، الذي يفشو بين الناس بأقبح الصور، وأقبح السُّمعة: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ قالوا:﴿ اللمم ﴾ مَن فعل إثماً وتاب منه توبةً نصوحاً، هذا صار لممًا، ألمَّ به وتاب منه، فكل شيءٍ فعله الإنسان قبل أن يتوب فعله في جاهليته، فعله قبل أن يصطلح مع الله، فعله من قبل وتاب منه هو لمم.

وبعضهم قال: اللمم كل شيءٍ حدَّثتك نفسك بفعله ولم تفعله هو من اللمم، كرم الله سبحانه وتعالى يقتضي ألا يحاسب إلا على العمل، فمن حدَّث نفسه بمعصيةٍ ولم يفعلها خوفاً من الله عزَّ وجل لا يحاسب عليها، لكن ننصحه أن يوقف هذه الخواطر، لأنه إذا تابعها واستمرأها ربما انقلبت إلى أعمال، فاللمم هو الذنب الذي اقترفه الإنسان وتاب منه ، أو حديث النفس بالمعصية دون أن يفعلها.

 

مغفرة الله عز وجل وسعت كل الذنوب:


﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾

[ سورة النجم ]

﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أيْ مغفرته وسعت كل الذنوب. 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

كل الذنوب، أما قوله تعالى: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾

[ سورة النساء ]

فهذه الآية حملها كل المفسِّرين على أنه إذا مات دون أن يتوب، حتى إذا كان مشركاً وتاب غفر الله له هذا الذنب لقوله تعالى: 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

بعد التوبة.

 

باب التوبة مفتوح على مصراعيه:


﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ وسعت رحمته كل شيء وأنت شيء، وسعت مغفرته كل الذنوب، مهما عَظُم الذنب تتسع له مغفرة الله عزَّ وجل، تصوَّروا العكس لو أن الله سبحانه وتعالى لا يتوب على عباده المذنبين ماذا يفعلون؟ إلى أين يلتجئون؟ أصغر ذنبٍ يتفاقم إلى أكبر ذنب، يقول لك: لا توجد مغفرة، الإنسان يسترسل في المعصية، لكن رحمة الله واسعة:

(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. ))

[  رواه الترمذي: صحيح الترغيب: خلاصة حكم المحدث: حسن لغيره ]

والصلْحَة بلمحة: إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فقد اصطلح مع الله.

سبحان الله! أشد العجب أن باب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه، وأن الناس يترددون في التوبة، الإسلام يجب ما كان قبله، الإسلام يهدم ما كان قبله؛ إذا تاب العبد توبةً نصوحًا، أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، والله سبحانه وتعالى يريد أن يتوب عليكم، وما أمركم بالتوبة إلا ليتوب عليكم، وما أمركم بالاستغفار إلا ليغفر لكم، وما أمركم بالصلح معه إلا ليكرمكم.

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)﴾

[ سورة النساء ]

أهل الدنيا يريدون أن تميلوا مع الشهوات، وأهل الدين يريدون لكم أن تتوبوا.

 

إكرام الله للعبد بالتوبة إذا رجع عن ذنبه:


 لذلك: 

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾

[ سورة النجم ]

قال تعالى: 

﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)﴾

[ سورة النساء ]

الإنسان إذا ترك الكبائر غفر الله له الصغائر، فالصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة تكفِّر ما بينها، صليت الظهر، صار هناك كلمة أزعجتك، العصر يغفرها الله لك، ما بين الصلاتين، وبين الجمعتين، وبين رمضانين، وبين العمرتين: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾ .

 

الفرق بين النبي والولي:


السيئات التي يمكن أن تصدر من المؤمن عن غير قصدٍ، وفي أشياء صغيرة جداً، ولكنه يسعى لطاعة الله، الفرق بين النبي والولي هو أن النبي لا يعصي الله أبداً، معصومٌ من أن يعصي الله، بينما الولي لا تضره معصية بمعنى بأنه يتوب منها سريعاً، ويستغفر، ويتوب، ويقبل، والمؤمن مذنبٌ توَّاب، شديد التوبة، يُحْدِثُ عند كل ذنبٍ توبةً، فالآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ ذنبٌ ارتكبه ثم تاب منه، أو نفسه حدَّثته بعملٍ ولم يفعله، هذا هو اللمم، شيءٌ وقع وتاب منه، أو شيءٌ لم يقع لكن صار هناك حديث نفسي.

 

اتهام النفس من علامات الإيمان:


﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ فالتوجيه الإلهي هنا لا تقل: أنا، امرأةٌ قالت لصحابي جليل توفاه الله عزَّ وجل وكان النبي يزوره، يزوره بعد وفاته، قالت: 

(( عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي؟ قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا.))

[ صحيح البخاري ]

فالمؤمن لا يزكي نفسه، سيدنا عمر قال: ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيماً، سيدنا حذيفة كانت معه قائمةٌ بأسماء المنافقين، قال له عمر: بربك اسمي بينهم؟ وهو عملاق الإسلام، المؤمن لشدة ورعه وشدة خوفه من الله يتهم نفسه دائماً، وقد روى بعض التابعين أنه التقى بأربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظن نفسه منافقاً، فاتهام النفس من علامات الإيمان، والطمأنينة إليها، وتزكيتها، ومدحها من علامات النفاق.

 

تقييم الإنسان من شأن الله وحده:


﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾  أيضاً ولا تُزكِّ على الله أحداً، لا تقل: فلان تقي، نقي، ورع، قل: أظنه كذلك ولا أزكي على الله أحداً، زكِّه وقل: والله أعلم، زكِّه وقل: ولا أزكي على الله أحداً، سيدنا الصديق حينما استخلف سيدنا عمر، بعض من حوله قالوا له: "كيف تولي عمر وهو شديدٌ جداً ألا تخشى أن يعاتبك الله؟ قال: أتخوفونني بالله، أقول: يا رب لقد ولَّيت عليهم أرحمهم -معنى ذلك أنه زكَّاه-ثم قال: هذا علمي به، فإن بدّل وغيَّر فلا علم لي بالغيب" لا تتورط بتزكية إنسان تزكيةً مطلقة، قل: أحسبه مؤمناً ولا أزكي على الله أحداً، قل: أحسبه صادقاً ولا أزكي على الله أحداً، قل: أحسبه أميناً ولا أزكي على الله أحداً، قل: أحسبه صالحاً فإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب، هذا موقف علمي، موقف فيه تحفُّظ، موقف فيه أدب مع الله عزَّ وجل، لأن الله وحده يعلم حقيقة الإنسان، لأن تقييم الإنسان من شأن الله وحده: 

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾

[ سورة الإسراء ]

وحده يعلم، لذلك لا تزكِّ على الله أحداً، إن زكيت تحفَّظ، قل: هذا علمي به، ولا علم لي بالغيب، أحسبه أميناً ولا أزكي على الله أحداً، تنفيذاً لهذه الآية الكريمة: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ .

 

على الإنسان ألا يتورط في مديح إنسان لا يعرفه:


سيدنا الصديق مرةً مدحه المادحون فبكى وقال: "يا رب أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون"

﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أحياناً يُعدُّ المدح كالذبح، لا تمدح أخاك فقد ذبحته، أحياناً يصدق الممدوح أنه هو كذلك، سيدنا عمر مرةً كان مع أصحابه قال بعضهم: "والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله" أحدَّ فيهم النظر، وقسا في نظرته إليهم إلى أن قال أحدهم: "لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك، قال: ومن هو؟ قال: الصِدِّيق، فقال لهذا الذي قال: رأينا من هو خيرٌ منك. قال: "لقد كذبتم جميعاً وصدق هذا" ، ماذا فعل عمر؟ عدّ سكوتهم كذباً، قال: "لقد كذبتم جميعاً وصدق، والله كنت أضلّ من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك" هذا الإيمان، ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أحياناً تجد أن المديح يكال جزافاً، في حفلات عقد القران يصفون الأسرتين المتصاهرتين بالتقى والورع إلى درجة وليس من هذا شيء، الإنسان إذا كَثُر مديحه اتّهم بعقله، اتّهم بورعه، لا تزكوا أنفسكم، حدثنا عن الله فقط، ولا تحدثنا عن عباد الله لأن عباد الله تقييمهم من شأن الله لا من شأن العباد، والإنسان لا يتورط في مديح إنسان لا يعرفه، وليس متأكداً من دينه، ولا من استقامته، ولا من ورعه، دائماً يُكال المدح جزافاً في كل عقود القِران بشكل غير مقبول، هذا مرض اجتماعي، نحن بحاجة إلى عمل لا إلى المديح.

 

الإنسان الذي يبحث عن المدح والثناء ليس مخلصاً:


قال الصديق للسيدة عائشة ابنته بعد أن برَّأها الله من حديث الإفك: "قومي إلى رسول الله فاشكريه، قالت: والله لا أقوم إلا لله" ، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: عرفت الحق لأهله.

النبي عليه الصلاة والسلام لعلو مقامه عند الله ما كان يعنيه أن يمدحه المادحون، دخل عليه رجل أصابته رِعْدَة قال: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ :

(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ. ))

[ صحيح ابن ماجه ]

عَرَّف نفسه بأنه ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد، وانتهى الأمر، كان الأعرابي إذا دخل على النبي يقول: "أَيُّكُم محمد؟" لا يعرفه، لا توجد له أي ميزة، أيكم محمد؟ يقول: "قد أصبت" أنا، وأحياناً يقول له أحد الصحابة: "هذا الوضيء الذي أمامك هو محمد" الذي يبحث عن المدح ورفعة القدر والثناء هذا ليس مخلصاً بما فيه الكفاية.

 

الإنسان الذي تولَّى عن الحق لا يستحق أن تصغي له:


﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)﴾

[ سورة النجم ]

تولَّى عن الحق، هذا الذي تولّى دقق في عمله، دقق في أمانته، دقق في صدقه، دقق في عفافه، لا صدق ولا أمانة ولا عفاف، ماذا قال سيدنا جعفر؟ قال:"كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه" ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى﴾ :

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)﴾

[ سورة العلق ]

في الآية توجيه دقيق جداً، أي أنت قبل أن تصغي إلى كلامه دقق في أعماله، غير مستقيم، غير أمين، غير صادق، غير عفيف، لا استقامة، ولا أمانة، ولا صدق، ولا عفاف، إذاً لا تلقِ إلى كلامه بالاً إطلاقاً، لا يستحق أن تصغي له، كلامه مهدور، كلامه كذب، كلامه فيه نفاق.

 

الإنسان الذي يمنع مصيره بيد خالقه لا بيده:


﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34)﴾

[ سورة النجم ]

 أي منع: 

﴿ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى(35)﴾

[ سورة النجم ]

 هذا الذي تولَّى عن الحق، أدار ظهره للدين، قال: الدين أفيون الشعوب، غيبيَّات، أوهام، شعور الإنسان الضعيف أمام قوى الطبيعة القاهرة، هذا الدين، الدين سحر، الدين خرافات، الدين تُرُّهات، الدين لا يعتنقه إلا الضِعاف، ومرضى النفُوس، هذا كلام أعداء الدين.  

﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)﴾

[ سورة النجم ]

أي هذا الذي يمنع هو يعلم أنه سيسعد في دنياه وأخراه وأن بيده مصيره؟

 

الإنسان يؤخذ بذنبه لا بذنب غيره:


﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)﴾

[ سورة النجم ]

وفىَّ ما عليه، وفىَّ شكر النعمة.

﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)﴾

[ سورة النجم ]

هذا مبدأ أساسي، مبدأ خطير، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ الإنسان يؤخذ بذنبه لا بذنب غيره، أبداً، امرأة فرعون زوجة إنسان ادَّعى الإلوهية وقال: 

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[ سورة النازعات ]

قالت:

﴿ وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾

[ سورة التحريم ]

هذا المبدأ الأساسي: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ .

 

كل إنسان مسؤول عن عمله يوم القيامة:


قد ينجب الأب ابناً ضالاً، منحرفاً، فاسقاً، رَبَّاهُ أعلى تربية لكنه آثر الانحراف، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ قد يأتي الابن من أبٍ فاسق، ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ قد تأتي ابنةٌ متدينةٌ من امرأةٍ فاسقة، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ الوازرة الحاملة، الوزر الحمل، لا تحمل نفسٌ ذنب نفسٍ أخرى.

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾

[ سورة النجم ]

 

عدم محاسبة إنسان عن آخر إن آثر هو الانحراف:


أيها الأخوة الكرام؛ ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ مبدأٌ في الحياة، كل إنسانٍ محاسبٌ على فعله فقط، ولا يؤخذ بجريرة غيره، مثلاً: سيدنا نوح نبي كريم أنجب ابناً عاصياً لا يحاسب عليه، إذا ربَّاه التربية المُثلى، ثم آثر هذا الابن الانحراف لا يحاسب الأب عنه، امرأة لوطٍ لم تؤمن بلوط:

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾

[ سورة التحريم ]

يوجد أب كافر ابنه نبي، سيدنا إبراهيم، يوجد أب مؤمن ابنه كافر، سيدنا نوح، يوجد زوج كافر زوجته صدّيقة، فرعون، يوجد زوجة صالحة وزوجها كافر، آسية امرأة فرعون، فكل الحالات موجودة، سيدنا رسول الله عمُّه أبو لهب. 

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾

[ سورة المسد  ]

 

عدم محاسبة الإنسان على بيئته بل على عمله:


﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ كل إنسان محاسب بفعله، طبعاً هو يسعى لهداية أقربائه، أما يقول: أنا هكذا نشأت، هكذا أبي ربانا، هكذا علمنا، ظروفي صعبة، بيئتي صعبة، كلام غير مقبول عند الله عزَّ وجل، يمكن أن تستقيم وفق بيئةٍ فاسدة، وأن تطلب العلم وفق بيئةٍ جاهلة، وأن تصبح مؤمناً وفق بيئةٍ كافرة: ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لا تحاسب على بيئتك التي لا تعجبك، تحاسب على عملك وحدك، هذه الآية مبدأ أساسي في الحياة، وإلا كان هناك  ظلم.

 

حُرْمَة المال لا تأتي من عين المال بل من طريقة كسبه:


إنسان جاءته امرأةٌ تشتري منه ثوباً أعطاها الثوب المناسب بالسعر المناسب، ولا يدري أن هذا الثمن أخذته المرأةٌ من الفاحشة، نجيبه: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ حُرْمَة المال لا تأتي من عين المال بل تأتي من طريقة كسبه، فهذا المبدأ مريح جداً يَبُثُّ الطمأنينة في النفوس: ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ الابن الراشد محاسب عن نفسه، والأب محاسب، والزوجة محاسبة، والجار محاسب، أنْ يدَّعي إنسان أن بيئتي كذا، نشأت في هذه الأسرة، هكذا تربينا، هكذا علّمنا والدنا، هذا الكلام مرفوضٌ من أصله.

 

أحكام الشريعة كلها ضمن طاقة الإنسان:


الله منحنا عقلاً، أعطانا فطرة، أعطانا شرعاً، فكل إنسان يعزو أخطاءه إلى البيئة والعادات والتقاليد وفساد الزمان، يقول لك: أخي لا أستطيع أن أستقيم، لماذا؟ يقول لك:  الاستقامة فوق طاقتي، معنى ذلك أنك تكذِّب كلام الله، ألم يقل الله عزَّ وجل:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

أنت إذا قلت: لا أستطيع الاستقامة، تؤكد أن الله كلفنا ما لا نطيق، حينما تقول: الاستقامة صعبة ومستحيلة وهذه فوق طاقة البشر أنت لا تدري أنّك تكذِّب آيةً في كتاب الله، حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾  وُسعُ النفس يعلمه الله وحده ولا تعلمه أنت، ولولا أن أحكام الشريعة كلها ضمن وُسع النفس لما كُلِّفنا بها، فالإنسان قبل أن يتكلَّم ينبغي أن يعلم، وينبغي أن يدقق، ويحقق، فما كل كلمةٍ تُلْقَى على عواهنها تنجو بها من عذاب الله.

﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)﴾

[ سورة النجم ]

هذه الآيات إن شاء الله لنا عودةٌ إليها في الدرس القادم.

 والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور